بين زمنين وتاريخين «كربلاء» الدرس و«كربلاء» الواقعة
عبدالرحمن عبدالله الأهنومي
يُحيي اليمنيون اليوم العاشر من محرم ذكرى كربلاء الحسين – عليه السلام -بمسيرات ووقفات وفعاليات وأنشطة عديدة، حيث تشهد كل المديريات في العاصمة صنعاء وفي المحافظات ، فعاليات كربلائية يحضرها عشرات الآلاف من المواطنين تحت شعار «هيهات منا الذلة» ، وفي الإحياء اليمني تجسيدٌ للموقف القرآني الذي مضى عليه الإمام الحسين – عليه السلام – مضحياً بنفسه وأهله وولده وعشيرته وأصحابه ، وفيه انعكاس للمبدأ الذي حمله الإمام عليه السلام ، فهو المثل والقدوة ، وهو السيرة والعنوان ، وهو الدروس التي يستلهمها كل الأحرار والثوار والمناضلون في سبيل الحق والقيم الفاضلة والنبيلة على امتداد المعمورة في كل الأزمنة ، والشعب اليمني اليوم هو الأكثر تعبيرا عن تلك «المظلومية» ، وعن ذلك الموقف الحسيني الكربلائي ، لاعتبارات الواقع والحال الذي يعيشه في مواجهة عدوان وطغيان تحالفات الأدعياء من أنظمة الكفر والنفاق التي حشدت جيوشها ومرتزقتها وإمكاناتها وأسلحتها وأموالها ونفطها ، لسحق اليمنيين وقتلهم وإبادتهم ، ومخايرتهم بين سلة وذلة يأباها الله ورسوله ، وتأباها فطرة ودين وقبيلة وأصول وفصول وأخلاق وقيم وشيم وكرامات اليمنيين أصل العرب وموطنهم الأول.
ينطلق اليمنيون في إحياء ذكرى فاجعة «كربلاء» من واقع يشبه ذلك الواقع الذي خرج فيه الإمام الحسين – عليه السلام – في العام 61 هجرية ، إذ أن وقعة كربلاء ليست حادثة منفصلة عن الظروف والأحوال السابقة لها، بقدر ما كانت انعكاساً لحالة الانحراف الثقافي والسياسي والاجتماعي في مسيرة الأمة الإسلامية ، وتعبيراً عن التردي والهوان والضعة التي وصل إليها المسلمون المأمورون بيزيد بن معاوية آنذاك ، ومن جهة الحسين وأصحابه عليهم السلام فكانت كربلاء تكريساً للنهج الحسيني في الثورة والنضال والاستشهاد ضدّ الطاغوت المتدثر بثياب الخلافة التي فصّلها يزيد ومعاوية ومن سبقهما بمقاساتهم المصلحية والنفعية؛ وفي هذا المقام يُعدّ الإمام الحسين السبط بن الإمام علي (عليهما السلام) سيّد أحرار العالم والإنسانية جمعاء ، وتعد ذكرى استشهاده مع أهل بيته وأصحابه الأوفياء عليهم السلام في عاشوراء سنة 61هـ في كربلاء درساً إنسانياً للبشرية على اختلاف ألسنتها وثقافاتها ودياناتها ومواطنها ، وفرصة لاستلهام دروسٍ في الحريّة والفضائل السامية والقيم الكريمة التي وضع معالمها رسول الله صلوات الله عليه وآله وسلم ، وانتهجها أهل بيته الأكرمون حتى الساعة.
بيننا وبين زمن الحسين عشرات القرون ، لكن الحسين لم يكن يخص تاريخاً مضى وتوقف ، بل هو حركة ممتدة عبر الأجيال والقرون والسنوات ، وحين وقف الإمام الحسين – عليه السلام – ونظر إلى زمانه آنذاك , ماذا رأى؟! رأى زمناً شُلّت فيه العقول واشتُريت الرجال والضمائر ، وقُطعت الألسن ، وخِيْطت الشفاه ، وهُدمت قواعد الحقيقة على رؤوس أنصارها، واقتُلعت معطيات الثورة الإسلامية من جذورها، والقيم العظيمة التي جاء بها محمد صُودرت أو تكاد ، والأمة في طريق التدهور والاستسلام ، ووسائل القوة والمخادعة هي السائدة المهيمنة الباسطة ظلال بطشها على الجميع ، ولم يتبق من تراث جده وأبيه إلا ما انطوى داخل الصدور والقلوب خائفاً متردداً وجلاً ، ثم رأى زمناً الأوفياء فيه بلا أنصار ، الناس إما يائسون أو منحرفون أو مباعون ، أما الزهاد ففي الزوايا والخلوات ، وأما السلف والأكابر فقد استشهدوا أو اشتُريت ضمائرهم أو انطووا على أنفسهم[1].
انقلبت القيم وزُهقت المبادئ ، وسُحقت التعاليم وهوت الرايات وذهبت الرياح بجهود المجاهدين ، وجاءت بكنوز الذهب للمنافقين ، أصبح الجهاد قتلاً جماعياً ، والزكاة انتهاباً ومصادرة ، والصلاة خداعاً للجماهير ، والتوحيد ستاراً للشرك ، والسُّنة قاعدة للسلطة والجماعة سيفاً مصلتاً على الرقاب ، والحديث عرضة للوضع والتزوير ، وتهاوت السياط على المتون، وعادت الأمم المعذبة إلى السجن القديم ، والحرية إلى القيود الأبدية السوداء ،والأحرار إلى الأسر ، والفكر إلى الصمت ، والألسن قُطعت أو اشتُريت ، أما أصحاب السابقة والجهاد فقد تقاضوا الثمن إمارات وولايات ، وفيهم من اعتزلوا العبادة ، أو ساوموا على السكوت عن الظلم والرضا بالكفر ، أو واجهوا النفي والموت في صحراء الربذة ومرج عذراء!!
الزمان أسود أسود !! لقد كُسرت السيوف ، وخُفت صوت المعارضة ، وخبتت جمرة التمرد وهدأت كل الفتن ، وألقى ظلام الليل العميق المرعب ظلاله على آثار الشهداء ومقابر الأحياء الصامتة الباردة ، وعلى أطلال العقيدة والإيمان والأمل ، لم يعد يُسمع صوت حتى لبومة!!
لقد ذاق الناس طعم التجارب المرة, وعرفوا أن الهزيمة أو الاستشهاد هما ثمرة كل ثورة أو عصيان!
الصمت؛ الصمت ، فليسكت الأحرار والثوار ، ولتمرح الثعالب وتستكلب الذئاب ، فالجاهلية الجديدة أثقل ظلاً وأشد ظلمة ووحشية ، والعدو الآن أشد دهاء وأكثر نضجاً وذكاء ، والدين والدنيا صارا على هدى الكفر والجور ، هذا هو الزمان الذي رآه الحسين ونظر إليه فأمعن فيه النظر.. إنه الزمان الأسود المظلم!![2]
وفي زماننا هذا ويومنا هذا الذي يستذكر فيه الشعب اليمني كربلاء ، ويحييها موقفاً وكلمةً ومعركةً ، فيقدم الشهداء قوافل وأعداداً ، يواجه منفرداً تحالف الأدعياء ، وينظر إلى الواقع والحال فماذا يرى!
سوى أمة يتسابق حكامها لمصافحة نتنياهو ، واسترضاء ترامب ، وبيعهم المقدسات والثوابت والثروات والإنسان وكل شيء ، أمة يتحالف حكامها للحرب على الشعب اليمني ويتسابقون لعقد صفقات السلام مع الصهاينة ، ومِنْ وراء الحكام أولئك ألوف أموية تستقتل وتستنفر في معركتها ضد الإسلام ، وتقف بالمرصاد لكل الرافضين الواقفين في وجوه الأعداء ، يرى تحالفات وجيوشاً تنوف على الملايين تُجلب من أقاصي الأرض لتقاتل شعب الإيمان والحكمة ، جيوش كَقِطَع الليل لا وجه لها ولا قضية ولا معنى ، وجموع غفيرة من الدُّمى والعرائس والأصوات الفارغة ، تُسمى قيادات!!
والغريب أن هؤلاء المجيّشين كمرتزقة وأُجَراء لا يقاتلون من أجل مصالحهم ، ولا من أجل كراماتهم ولا من أجل شيء يطلبونه خاص بهم , إنما كعبيد اتبعوا أمر يزيد العصر «أمريكا» يُساقون إلى القتال والموت بدون معنى كقطيع الماشية يُجلبون ويُدفعون إلى المحارق وأحادهم أعداداً وجموعهم أفراداً للعدد فقط ، وبين كل ما شاهده الإمام الحسين آنذاك محتشداً في مواجهته الفاصلة ، وما يواجهه الشعب اليمني اليوم من حشود وجيوش ومرتزقة ومخابرات ومنظمات ومتخاذلين تطابق وتشابه كبيران ، فَمِنَ المعنى الذي انطلق منه الإمام الشهيد عليه السلام ، ينطلق الشعب اليمني ويجسد كل تلك القيم والمعاني والمبادئ والتعاليم والدروس الحسينية التي تستمد من الحسين نهجها وثورتها وفكرها.
هوامش
«1» الحسين وارث آدم _ الدكتور علي شريعتي
«2» الشهادة –الدكتور علي شريعتي