أحمد يحيى الديلمي
كما نعلم فإن الحروب الست التي تعاقبت في صعده أضرت بمعنويات المجتمع اليمني وكان لها تأثير سلبي على الحياة العامة وعلاقة اليمنيين ببعضهم ، لأن إرادة الداعم والمحرض على الحرب أعطى بسخاء لا للمقاتلين بل للماكنة الإعلامية بشقيها الإعلامي والديني ، حيث تم استخدام وسائل الإعلام ومنابر المساجد لشن حملات ظالمة على الطرف المستهدف وكيل التهم بلا وعي ولا بصيرة تنفيذاً للتعاليم القادمة من خلف الحدود ، لأن غايات من أصدر هذه التعليمات معروفة أهمها إحداث شرخ عميق في النسيج الاجتماعي، وتجذير الفوارق بين اليمنيين على أساس مذهبي وتوظيف إعلام السلطة ورجال الدين لتزييف وعي المواطنين وتصوير الحرب الظالمة على أنها دفاع عن الدين وانتصار لقيمه ، ودفاع أيضاً عن النظام الجمهوري المستهدف كما ذهب إلى ذلك الكُتَّاب المبرمجين من قبل سلطة الحكم .
هذا الأمر كان قد حذر منه المناضل الكبير الشهيد اللواء مجاهد يحيى أبوشوارب رحمة الله عليه ، عندما التقيته في مزرعته في “ورور” أثناء عودتنا من مزرعة سنوان التابعة للتموين العسكري آنذاك ، كانت كل المعطيات تؤكد أن الحرب الثانية على الأبواب بعد أن وضعت الحرب الأولى أوزارها، وبعد مدة قصيرة تمكن العلاّمة الحُجَّة المرحوم بدر الدين الحوثي “طيب الله ثراه” من مغادرة العاصمة صنعاء سراً بعد أن عرف أن محاولات الخلاص منه باتت وشيكة ، في ذلك اللقاء كانت الفرصة مواتية لأن أسأله – أي اللواء مجاهد أبو شوارب – حول هذا الجانب كونه لعب دوراً عند اندلاع الحرب الأولى ، قلت : كل المؤشرات تؤكد أن الحرب الثانية في صعدة على وشك الاندلاع والجميع يلتزم الصمت ودماء اليمنيين تسفك، حتى أنت بعد محاولتك الأولى توقفت عن القيام بأي شيء وأنت رجل المهام الصعبة وطوق النجاة في نظر كل اليمنيين؟ اعتدل في جلسته وأجاب بعد أن تأوه طويلاً (( فعلاً هذا الجرح النازف يدمي القلوب ، ما لا تعرفه أن الحرب الثانية اندلعت مساء أمس والمشكلة أن هذا الأمر لن يتوقف عند أي حد ستتعاقب الحروب للأسف لأن المستفيد الحقيقي منها يريدها هكذا والأخ الرئيس يسْهُل استدراجه (يقصد علي عبدالله صالح) إذ يكفي أن تقول له إن هذا الطرف أو ذاك يستهدف نظام الحكم ،يتعامل بسذاجة عاطفية مع المعلومة ولا يتأكد من مدى صحتها من عدمها لأن حساسيته تجاه الكرسي وعدم نضجه السياسي يجعل الخوف يسيطر عليه وتتفاقم بداخله عوامل الانتقام، فيكون رد الفعل متهوراً يتسم بالجنون لأن همه في تلك اللحظة يكون فقط كيف يدافع عن الكرسي فيندفع بجنون باتجاه مصدر الخطر والقضاء عليه وإن كان الخطر مزعوماً ، أي أنه لا يفكر في العواقب وفداحة الخسائر التي تترتب على رد الفعل هذا ، وهذه هي المشكلة الكبرى التي نعاني منها )).. ثم تابع في هذا الجانب أروي لك قصة وقعت للأخ الشيخ سنان أبولحوم في لقاء خاص جمعه بالرئيس بدأ الأخير يشكو له همومه والمتاعب التي يكابدها في الحكم ومتابعة قضايا الناس وما يترتب عليها من معاناه تؤثر على صحته، تقبل الكلام الشيخ سنان بتلقائية وإشفاق فقال (الحقيقة أنه يكفيك، قد دخلت التاريخ من أوسع أبوابه، أخرجت البترول وأعدت بناء السد وأخيراً وهو الأهم أعدت تحقيق الوحدة وكلها إنجازات ماثلة في الواقع ومحسوبة لك لا يمكن لأحد إنكارها، وطالما أنك أصبحت متعباً وغير قادر على الاستمرار خفف العبء عن نفسك وعن كاهلك وأعط المهمة لأحد غيرك.. تصاعدت عروق الغضب في وجه الرجل وصرخ بلا وعي: ما هذا الكلام يا شيخ سنان لو أحد فكر مجرد التفكير في الوصول إلى السلطة لأهلكت الحرث والنسل ، سيقال كان هنا صنعاء ، خاف الشيخ سنان من الرد ، التزم الصمت وغادر المكان دون أن يودع ، ظل يردد وهو يسير نحو سيارته، السلطة مهرها غال.. السلطة مهرها غال) ويضيف المرحوم أبو شوارب (لمست هذا الأمر عملياً في أول وهلة اندلعت فيها حرب صعده الأولى ، أردت الوساطة لحقن الدماء وكبح جماح المشاعر الزائفة ، لكن الرئيس كان في حالة استنفار فظيعة معززة بغرور كبير ، وكأنه أمام عدو يريد أن يقضي عليه لذلك رفض الوساطة وخرجت من عنده وأنا غاضب وإلى هذه اللحظة رفضت أن أدلي بأي رأي أو أن أقف أي موقف وكما تلاحظ هأنا في مزرعتي بعيد عن المشاكل ).. أنتهى كلام المرحوم مجاهد أبو شوارب ، والحقيقة أنه عبَّر عن الكثير من الأشياء التي كنا نجهلها ، فالحروب بالفعل لم تتوقف عند الثانية لكنها امتدت إلى السادسة واستمرت على نفس المنوال ، وانتقلت مهمة المواجهة من الرئيس الأسبق إلى جماعة حزب الإصلاح بعد ثورة فبراير، وكانت المواجهة أشرس وأشد لأنها أتسمت بالحرب الدينية ، كون الإصلاح يدعي أنه حزب ديني وكان قد أخذ السلفيين تحت إبطه ، وكلهم كباش آدمية باسم عالفها تناطح والعالف هي السعودية كما نعلم ، ورحم الله الأستاذ البردوني فقد جاء هذا الوصف على لسانه حيث قال :
(( هذه الكباش الآدمية ** باسم عالفها تناطح ))
والمرحوم أبو شوارب يعني أن شياطين السلطة والرغبة فيها كانوا أقوى من كل شيء ودحضوا كل شيء ، والحقيقة أن هذه هي سمة السلطة منذ أقدم العصور، من جلس على الكرسي ينسى كل شيء إلا ما يدعم بقاءه على الكرسي ، رحم الله الشيخ اللواء مجاهد أبو شوارب ، هذه كانت رؤيته وهي رؤية عميقة الدلالة.. المهم أنه على خلفية هذا الواقع انتقلت المعارك إلى صنعاء وتم إغلاق مركز بدر بعد أن كان قد أودع المشرف عليه ومؤسسه المرحوم الدكتور المرتضى المحطوري سجن المباحث ودخل في صراع كبير مع المدعو صالح الضنين الذي استولى على جزء من أرض المسجد وأقام عليها مبنى كبيراً بدعم من كل أجهزة السلطة وفي المقدمة المدعو علي محسن ، وهكذا توالت المؤامرة ووصلت إلى أقصى حد من خلال الهجوم على مكتبة العلامة الحجة المرحوم حمود عباس المؤيد -طيب الله ثراه- في جامع النهرين والقيام بتفتيشها ونثر محتوياتها في أرض المسجد مع وجود سبعة أطقم أمن عسكرية عند باب المسجد ، وكأن العملية غزوة مباركة ليتها ما كانت..
هكذا دائماً يتعامل من أصابهم الغفول لا يدركون أن كل شيء بيد الله وبالذات المُلك فهو بيد الله يعطيه من يشاء ويمنعه عمن يشاء ، وكم من فضائح تم ارتكابها باسم الدفاع عن النظام الجمهوري مع أنه كان في الأساس مستهدفاً من جماعة الإخوان المسلمين ، كان النظام الجمهوري عندهم محرماً بفتوى اعتقاديه لأنهم كانوا يعتبرونه نظاماً علمانياً دخيلاً ثم ما لبثوا أن تبنوه وأصبحوا يدافعون عنه حتى اللحظة عندما اقتضت المصلحة ذلك ، وهنا ندرك التناقض الكبير لدى هؤلاء الناس فهم من تنازلوا عن أهم المبادئ كلما اقتضت المصلحة الذاتية ذلك ، لذلك فشلوا وأحبط الله أعمالهم ليس في اليمن فقط وإنما في كل الدول التي تواجدوا فيها، وهو أمر مشين ومهين يدعو إلى السخرية ومن خلاله أكتب هذه السطور لكي يتعظ ويعتبر بها كل ذي بصيرة ، فاليوم الإصلاح الذي كان بالأمس يتآمر على كل من يخالفه اصبح أتباعه يتباكون على الديمقراطية وما يعتبرونه شراكة ، يا لها من شراكه !! وهنا فقط أذكِّرهم وأقول لهم: أين كانت هذه الشراكة حينما كنتم تستهدفون مخيم أنصار الله في ساحة الاعتصام بالحرق تارة وباغتيال الأفراد تارة أخرى ألم تكونوا أنتم من بدأتم بمحاربة الآخرين وإقصائهم وتهميشهم ولو بالقوة وجعلتم من “علي محسن” نمراً من ورق يستهدف كل من يخالفكم ويسير على هواكِّم ، نحن لا ندعو ولا نرضى لأنصار الله أن يسيروا على نفس النهج ولكنا فقط نذكركم كي لا تنسوا المآسي التي كنتم سبباً فيها وطالت نزواتكم الكثير من الأبرياء من خلال الجماعات التي تناسلت عن الإخوان المسلمين ولا تزال إلى اليوم المشكلة الكبرى التي يعاني منها الإسلام والمسلمون، لأنها تعاملت بكل الوسائل المهينة والخبيثة ؟!! في تلك اللحظة غابت عن أذهانكم الديمقراطية ولم تتذكروها إلا عندما أصبحتم خارج السلطة أو تتعاطون مع سلطة وهمية لا وجود لها إلا في أذهانكم لذلك تتباكون عليها ، إنها مآساة البشر دائماً حينما يستحوذ على عقولهم الشيطان ويصوِّر لهم أنهم فوق الشبهات وأنهم وحدهم من امتلكوا الحقيقة وأصبحت في متناول أيديهم يتفردون بها ويستخدمونها لقهر الآخرين وإذلالهم إن خالفوا السير على ركابهم .
هذا الكلام لا أقوله عبثاً ولا بهدف النيل من أحد ولكنه للتذكير كما قلت لكي لا ننسى تلك المآسي، وكي يتعظ بهذا الكلام من يتعظ ولكي يدرك الجميع أنه لا يمكن أن يتفرد بكل شيء وحده ، وأن البلد دائماً يكون للجميع ، وأن الدين أيضاً هو للجميع ، ويتطلب منا البصيرة والعقل وأن نلتقي على كلمة سواء أساسها القاسم المشترك وهو الإيمان المطلق بالله من خلال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن ما عداه جزئيات يمكن التفاهم حولها ، أو ترك كل طرف يتعبد بما يقتنع به، إذا كان دليل الآخر لم ينهض إلى مستوى إقناعه ، فعلينا أن نترك كل إنسان يتعبد الله بما اهتدى إليه أو أن نقنعه بالحسنى ، وهذا هو الطريق الأمثل والأحسن حتى نتجاوز المزالق ونسير في الطريق السوي ، وهذا ما نتمناه إن شاء الله ونسعى إليه كي نضمن صناعة المستقبل على أساس سليم ، فالمشاكل دائماً في أي جانب من الجوانب تطغى على الجوانب الأخرى إن لم يتم التعاطي معها بعقلانية ومنطق وحوار متوازن .
أسال الله الهداية للجميع ، والكلام يطول في هذا الجانب ، ولكنني أكتفي بما أسلفت ، آملاً أن يكون فيه ما يكفي من العبر والمواعظ .. والله من وراء القصد ..
أحمد يحيى الديلمي