الهجرة النبوية محطة تغيير ودستور حياة

‬الهجرة النبوية دستور حياة متكامل‮ ‬يبعث الأمل ويحرر النفس من كل قيد‮ ‬يعيقها في‮ ‬مسيرة الحياة المتشعبة‮. ‬إن الهجرة النبوية تحدد المسار العملي‮ ‬وتجسد التصور العقدي‮ ‬في‮ ‬شتى مناحي‮ ‬الحياة المختلفة‮… ‬وهذا المسار‮ ‬يحقق لمن ترسِمهْ‮ ‬الحياة الكريمة العاجلة والآجلة‮ ‬فمن المعاني‮ ‬القيمية‮ ‬ينبثق التصور السوي‮ ‬ويتبين المسار المستقيم‮ ‬‮ ‬من بين الطرق المنحنية ـ‮ ‬فقد كانت الهجرة‮ ‬بداية التحول العملي‮ ‬المثمر لتصور عقدي‮ ‬دام‮ ‬13‮ ‬عاما‮.‬
إن التكامل بين الجانب العملي‮ ‬والتصوري‮ ‬في‮ ‬الهجرة‮ ‬يشكل مسارا للنضال الإيجابي‮ ‬الذي‮ ‬يفضي‮ ‬إلى تحقيق الهدف وهو كذلك في‮ ‬أي‮ ‬معركة كانت وفي‮ ‬أي‮ ‬زمان وفي‮ ‬أي‮ ‬مكان.نستوضح هذا المسار والمنهج من وحي‮ ‬الهجرة النبوية في‮ ‬هذه النقاط الأربع‮ .‬
1ـ التخطيط السليم والتدبير الحكيم بريد تحقيق الأهداف وسنة من سنن التدافع‮.‬
إن تخطيط المشركين للنيل من رسول الله ومحاولة القضاء عليه بهدف وأد دعوته قبل الهجر‮ ‬قْوبل بتخطيط من رسول الله مكين‮ ‬يفوت عليهم ما أرادوا ويحقق تمكيناٍ‮ ‬لدعوته في‮ ‬الأرض فتم له ما أراد وخسر هنالك المبطلون‮ .‬وهذا معلوم في‮ ‬سنة الصراع بين الحق والباطل‮ (‬ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين‮)‬
فأهل الحق‮ ‬يدبرون ويخططون بالله لأنهم معتمدون عليه‮. ‬قال تعالى‮:(.‬بِلú‮ ‬نِقúذفْ‮ ‬بالúحِق‮ ‬عِلِى الúبِاطل‮ ‬فِيِدúمِغْهْ‮ ‬فِإذِا هْوِ‮ ‬زِاهقَ‮ ‬وِلِكْمú‮ ‬الúوِيúلْ‮ ‬ممِا تِصفْونِ‮) (‬18‮) ‬الأنبياء(وِقْلú‮ ‬جِاءِ‮ ‬الúحِقْ‮ ‬وِزِهِقِ‮ ‬الúبِاطلْ‮ ‬إنِ‮ ‬الúبِاطلِ‮ ‬كِانِ‮ ‬زِهْوقاٍ‮ )(‬81‮) ‬الإسراء‮ (‬وِإذú‮ ‬يِمúكْرْ‮ ‬بكِ‮ ‬الِذينِ‮ ‬كِفِرْوا ليْثúبتْوكِ‮ ‬أِوú‮ ‬يِقúتْلْوكِ‮ ‬أِوú‮ ‬يْخúرجْوكِ‮ ‬وِيِمúكْرْونِ‮ ‬وِيِمúكْرْ‮ ‬اللِهْ‮ ‬وِاللِهْ‮ ‬خِيúرْ‮ ‬الúمِاكرينِ‮ )(‬30‮) ‬الأنفال‮. ‬ومن هنا ندرك أهمية التخطيط في‮ ‬حياتنا سواء الحياة الجماعية أو الفردية أنها تبلغ‮ ‬الأهداف وتنجز الأعمال وتدفع الفشل والإحباط كما تئد تخطيط المبطلين‭.‬
2ـ تحقيق الهدف والوصول للغاية‮ ‬يأتي‮ ‬كمكافأة على الأخذ بالأسباب وليس الأسباب هي‮ ‬التي‮ ‬أدتú‮ ‬إليه‮.‬
أخذ الرسول صلى الله عليه وسلام في‮ ‬الهجرة بالأسباب كاملة حتى لم‮ ‬يدع سببا إلا وأخذ به كي‮ ‬يعمي‮ ‬على قريش فلا تصل إليه‮ . ‬لكنها وصلت ووقف جنودها أمام الغار‮ ‬‮ ‬قد‮ ‬يقول قائل معنى هذا أن الأسباب التي‮ ‬أخذ بها النبي‮( ‬صلي‮ ‬الله عليه وسلم‮ ) ‬لم تْجد نفعا‮ ‬فلو أجúدتú‮ ‬لما وصلوا إلى الغار‮!! ‬نقول له إذا كانت منفردة نعم لم تجد‮ ..‬لكنها أجúدتú‮ ‬عندما صحبها التوكل‮ ‬‮ ‬لقد وصلوا إلى الغار لكن لم‮ ‬يتمكنوا من أن‮ ‬ينالوا ما أراده من رسول الله وصاحبه‭ ‬منعهم التوكل فقد أرسل الله جنودا لم‮ ‬يروها وجعل كلمته العليا وكلمة الذين كفروا السفلى‮ . ‬ذلك التوكل الذي‮ ‬تجسد عند خشية أبو بكر على رسول الله”قال والله لو نظر أحدهم إلى قدميه لرآنا‮” ‬قال له النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم‮ : “‬ما بالك باثنين الله ثالثهما‮” ‬قال تعالى‮: ‬إلاِ‮ ‬تِنصْرْوهْ‮ ‬فِقِدú‮ ‬نِصِرِهْ‮ ‬اللِهْ‮ ‬إذú‮ ‬أِخúرِجِهْ‮ ‬الِذينِ‮ ‬كِفِرْوا ثِانيِ‮ ‬اثúنِيúن‮ ‬إذú‮ ‬هْمِا في‮ ‬الúغِار‮ ‬إذú‮ ‬يِقْولْ‮ ‬لصِاحبه‮ ‬لا تِحúزِنú‮ ‬إنِ‮ ‬اللِهِ‮ ‬مِعِنِا فِأِنزِلِ‮ ‬اللِهْ‮ ‬سِكينِتِهْ‮ ‬عِلِيúه‮ ‬وِأِيِدِهْ‮ ‬بجْنْودُ‮ ‬لِمú‮ ‬تِرِوúهِا وِجِعِلِ‮ ‬كِلمِةِ‮ ‬الِذينِ‮ ‬كِفِرْوا السْفúلِى وِكِلمِةْ‮ ‬اللِه‮ ‬هيِ‮ ‬الúعْلúيِا وِاللِهْ‮ ‬عِزيزَ‮ ‬حِكيمَ‮) (‬40‮) ‬التوبة
هذا المعنى من هذا الموقف الذي‮ ‬جسده النبي‮ ‬وصاحبه في‮ ‬الهجرة‮ ‬يعد منهج حياة متكاملة‮ ‬ينسحب على كافة مناحي‮ ‬الحياة‮ ‬‮ ‬فهو لكل مسلم أو فئة أو جماعة في‮ ‬أي‮ ‬ظرف وفي‮ ‬أي‮ ‬زمان وفي‮ ‬أي‮ ‬مكان‮. ‬وفي‮ ‬أي‮ ‬معركة لمن أراد الوصول إلى تحقيق الأهداف المرجوة والنجاح والطمأنينة‮. ‬فعليه أن‮ ‬يأخذ بالأسباب كاملة بقدر الاستطاعة ثم‮ ‬يفوض الأمر لصاحب الأمر‮ . ‬لأنه عندما‮ ‬يأخذ العبد بالأسباب‮ ‬يكون قد أدى ماعليه فإذا حزبه أمر لا‮ ‬يجد في‮ ‬قلبه قلق بل‮ ‬يجد في‮ ‬قلبه طمأنينة ورضى‮ ‬ولن‮ ‬يصيبه ضرر لأنه أدى ما عليه‮. ‬والله معه سيقدر له ما‮ ‬ينفعه لأنه متوكل عليه‮ .‬
فالذي‮ ‬يجلب النتائج المرجوة هو الاعتماد على الله مع الأخذ بالأسباب وليس الأسباب وحدها ولا‮ ‬يتحقق التوكل إلا بالأخذ بالأسباب فهي‮ ‬عملية متكاملة بين التوكل والأسباب فإذا انفرد أحدهما بطل عمله وتحول رسمه واسمه فالتوكل‮ ‬يسمى تواكل‮ . ‬وكذلك الأسباب بدون التوكل لا وزن لها بل تصبح وبالاٍ‮ ‬على صاحبها وتفقده مأموله لأنه اعتمد عليها‮… ‬فحري‮ ‬بالمؤمن أن‮ ‬يأخذ بها وهو معتمد على الله فيكافئه مقابل أخذه بها واعتماده عليه‮ .(‬ومن‮ ‬يتوكل على الله فهو حسبه‮). ‬وهذا حدث مع رسول الله وصاحبه‮. ‬تحقق النجاح لهما و النجاة مكافأة على ما بذلا من جهود وتوكل‮.‬
‮٣‬ـ لا تقوم الدعوات ولا تحقق الأمنيات ولا تحصد النتائج‮ ‬إلا بجهد‮ ‬يبذل وتضحيات تقدم وابتلاء‮ ‬يصبر عليه‮.‬
وما أكثر المواقف التي‮ ‬تدل على ذلك في‮ ‬الهجرة‮. ‬فعلي‮ ‬كرم الله وجهه الذي‮ ‬لم‮ ‬يتجاوز الثانية عشرة من عمره ضحى بنفسه ونام على فراش رسول الله‮ ‬صلى الله عليه وسلم‮ ‬يوم هجرته وكذلك أبو بكر الصديق الذي‮ ‬قال الصْحúبِة‮ ‬يا رسول الله‮: ‬قال له النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم‮ ‬الصحبة‮ ‬يا أبا بكر‮: ‬فبكى فرحاٍ‮ ‬وهو‮ ‬يعلم أن هذه الرحلة تِحْفْها المخاطر فهي‮ ‬رحلة الموت‮ ‬وكذلك مواقف أسرته وخادمه رضي‮ ‬الله عنهم أجمعين بمختلف أدوارهم المدهشة التي‮ ‬وزعت بينهم وفق خطة محكمة‮. ‬وغير ذلك من إعداد العدة لهذه الرحلة العظيمة‮. ‬كل ذلك‮ ‬يدل على جهد مبذول وتخطيط سليم وتضحية فريدة وصبر عظيم‮ . ‬أفضى كل هذا إلى النتيجة المرجوة وهي‮ ‬نجاة النبي‮ ‬وصاحبه من شر كفار قريش ووصولهما إلى المدينة بسلام وتأسيس الدولة الجديدة‮.‬
ما‮ ‬يهمنا أن هذا المعنى‮ ‬يعد منهج حياه ومسار نضال ليس للمسلمين فحسب ولكن لكل من أراد النجاح في‮ ‬تحقيق أهدافه بغض النظر عن سموها من عدمه فهذه سنة للبشرية كلها عبر مسيرتها النضالية في‮ ‬الحياة والممات وما بعدهما‮. ‬
4ـ كانت الهجرة بمثابة محطة تغيير ومرحلة تحول من مرحلة إلى مرحلة
عندما أغلقت قريش أبوابها أمام دعوة الإسلام بحث النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم‮ ‬عن خيارات جديدة تكون موطئ قدم للنهوض وبدأ ببيعة العقبة الأولى ثم الثانية ثم الهجرة لأصحابه ثم هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة التي‮ ‬اختارها موطناٍ‮ ‬بديلاٍ‮ ‬لنشر الدعوة وتأسيس الدولة‮.‬
إن تغير المكان والزمان والوسائل والشخوص والمهام والخطط وغيرها مما‮ ‬ينبغي‮ ‬تغيره كفيل بتغير الحال وتحقيق الهدف وقد كان‮.‬
‮ ‬فالتغير الإيجابي‮ ‬في‮ ‬حياة المسلم تجديد وتطور‮ ‬يفضي‮ ‬للوصول إلى الحياة الطيبة وتحقق به النتائج المرجوة بإذن الله فهو منهج حياة‮ ‬يعتمده المسلم في‮ ‬حياته كلها خصوصا عندما تغلق أمامه السبل ولا‮ ‬يتحقق له ما‮ ‬يريد بسبب عوائق مختلفة‮ .‬
هنا‮ ‬ينبغي‮ ‬عليه أن‮ ‬يبحث عن وسائل أخرى ومجالات جديدة لتحقيق هدفه‮ ‬فيكون له ما أراد‮ .‬
‮ ‬والتغيير‮ ‬يبدأ بإرادة التغير‮ ‬أي‮ ‬يبدأ من داخل النفس‮ ‬يعني‮ ‬إرادة قوية تتمثل في‮ ‬تغير الوسائل مع تصميم وإصرار على الهدف والغاية‮ ‬لأن الله عز وجل قال‮ ‬وقوله الحق المبين‮: (‬إن الله لا‮ ‬يغير ما بقوم حتى‮ ‬يغيروا ما بأنفسهم‮) ‬والنبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم‮ ‬قال‮: (‬لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية‮) ‬فهجر ما حرم الله جهاد وتغيير الفساد جهاد ولا‮ ‬يتأتى ذلك إلا بنية صادقة في‮ ‬التغيير إلى الأفضل وتضحية وعمل جاد متواصل وصبر جميل‮ ‬والله المستعان‮.‬

قد يعجبك ايضا