الثورةنت/ محمد محمد إبراهيم
أوقفتنا إشارة المرور في جولة الرويشان وسط العاصمة صنعاء، ليبادر لحظتها بقطعة من القماش المتهالك، وعلبة التنظيف البخاخة التي بحوزته، شَرَع -بصمت وبدون إذن- في تنظيف زجاج السيارة الأمامي الأيمن، كان السائق يؤشر له بالنفي المهذب، لكنه استمر راشّا واجهة الزجاج بسائل التنظيف، أعطيته مئة ريال، هي أيضا متهالكة وسألته: ما اسمك ؟ وهل تدرس.. ؟.
فأجاب: “اسمي قاسم عوض.. نعم أدرس أنا وأخي مصطفى في الصف الرابع، لكننا وقّفنا هذا العام.. إحنا نازحين من الحديدة”. وأين مصطفى..؟ “في الحصبة، يشتغل في ورشة تنظيف سيارات”.
كان ابن التاسعة – الذي يبدو جديدا على الوجوه الطفولية المعتادة في الجولة- يجيب ولم يلتفت لأحد، بل مركزا على بقعة الزجاج التي ينظفها، موضحاً انه يتنقل بين جولة وأخرى.. فتحتْ الإشارة فمضينا ولم يتقاضى شيء من السائق الذي قال إنه لا يجد في جيبه مصروف حتى يعطيه مئة ريال. ولم يحاول الطفل اللحاق بل انتقل للجهة الأخرى، رابطا إيقاع حركته اليومية مع إشارة المرور الحمراء.
“قاسم”.. ذو البشرة السمراء، والشفاه المشققة رغم صغر سنه، لم يوقفه البرد الذي بدا قارسا على أبواب الشتاء هذا العام من الوقوف في الجولة، بل يحضر من الصباح الباكر كما هو بادٍ على ملامحه التي تكسوها قشرة البرد، ليقضي نهاره محاولاً إقناع السائقين بخدمة تنظيف سياراتهم، فمنهم من يرد عليه بالنفي اللطيف، ومنهم من يزجره، ومنهم من يستغله عمداً بلا ثمن، ماضيا بضحكة ساخرة أو شتائم سرية أو علنية، وقليل منهم من يعطيه بلطف ما بحوزته من ريالات معدنية فئة 10 أو عشرين ريالاً، طالبا منه برفق عدم مسح الزجاج.
“قاسم” و”مصطفى” وما يلاقيانه من ضياع واستغلال بسبب تسربهما جبراً من الصف الدراسي، ليسا الوحيدين من وجدا نفسيهما مجردين من حق التعليم فنحو ما يزيد عن نصف مليون طفل يمني تسربوا من صفوف الدراسة، من أصل مليوني طفل خارج المدارس، بسبب النزاعات المسلحة التي أعقبتها خمس سنوات والحرب والحصار الظالمين على اليمن منذ مارس 2015.
كما إن تعليم 3,7 مليون طفل يمني صار على المحك – حسب بيان اليونيسف الصادر في الـ 25 من سبتمبر الماضي. مشيرا إلى أن العنف والنزوح والدمار والطلب المتزايد على التعليم في المدن الكبرى، حال دون وصول العديد من الطلاب إلى المدارس.
وتراجعت البنية التحتية إلى أدنى مستوياتها، حيث تشير إحصائية حكومية إلى خروج نحو 3526 مدرسة عن الخدمة، منها 402 مدرسة مدمرة كليا، و1465 مدرسة مدمرة جزئياً، و666 مدرسة مغلقة، و993 مدرسة مستخدمة كمراكز لإيواء النازحين، يضاف إلى ذلك تدني المستوى المعيشي لنحو 200 ألف معلم ومعلمة لتوقف مرتباتهم، ما يقلص من فرص استمرار العملية التعليمية اليمنية.
التعليم ليس وحده، فالغذاء والصحة والمياه النقية والترفيه، بل وحق الحياة والأمان والسلام، وغيرها من حقوق الطفولة اليمنية التي غبتها النزاعات والحرب والحصار، خصوصا إذا ما أدركنا أن 11.3 مليون من الأطفال صاروا بحاجة ماسة إلى المساعدة الإنسانية، و2 مليون طفل دون سن الخامسة يحتاجون إلى علاج سوء التغذية الحاد –حسب اليونيسف. لكن أهمية حق التعلم تكمن في كونه البوابة الأهم في تسليح الطفل بالمعرفة وأسباب التنوير، ناهيك عن كون التعليم سببا شاغلاً للطفل عن السير في دروب الضياع والتعرض تبعا لذلك لكل صنوف الاستغلال والمخاطر المتعددة، والانضمام الجبري إلى التجنيد والقتال، وعمالة الأطفال، والزواج المبكر. ما يعني أن مستقبل 5 مليون طفل يمني محاصر بحتمية الجهل والفقر والمرض.
وتبذل حكومة الانقاذ الوطني وشركاء العمل المدني جهودا كبيرة لاستمرار العملية التعليمية وسط هالة من التحديات والصعوبات أهمها غياب شبه كل للكتاب المدرسي في كثير من مناطق اليمن خصوصا النائية، فيما ينصب تركيز منظمة الأمم المتحدة لحماية الطفولة (اليونيسف) وشركاؤها في اليمن على معالجات تمكين الأطفال من نيل حقهم في التعليم، على حلول المشكلات المادية العائقة أمام التعليم حيث صرفت اليونيسف في العام الدراسي المنصرم حوافز نقدية لأكثر من 127,400 من المعلمين والموظفين العاملين في المدارس والذين لم يتقاضوا رواتبهم منذ أكثر من ثلاثة أعوام لمساعدتهم في تغطية تكاليف المواصلات إلى المدرسة وغيرها من النفقات الأساسية. كما أعادت تأهيل أكثر من 1,300 مدرسة منذ العام 2015 وتستمر في توفير المستلزمات التعليمية للأطفال.
المؤسف أن مؤشرات انتهاك حقوق الطفل في اليمن تتصاعد تزامنا مع الذكرى الثلاثين لتبني الأمم المتحدة لاتفاقية حقوق الطفل في العام 2 نوفمبر 1989، والتي كان من المؤمل إن تأتي والطفولة اليمنية قد نالت ولو جزء من حقوقها الأساسية التي كفلتها الاتفاقية التي صادقت عليها الجمهورية اليمنية العام 1991..
وتتضمن الاتفاقية -التي أقرها زعماء العالم في 20 نوفمبر 1989م وتبنتها الأمم المتحدة- 54 مادة، تنص على الحقوق الأساسية التي يجب أن يتمتع بها الأطفال في أي مكان- ودون تمييز وهي: حق البقاء، والتطور والنمو، والحماية من التأثيرات المضرة، وسوء المعاملة والاستغلال، والمشاركة الكاملة في الأسرة، وفي الحياة الثقافية والاجتماعية.