خليل المعلمي
البيوغرافيا فن أدبي وتاريخي له أهميته في حفظ أخبار حياة الأشخاص ومعالم زمنهم، فهي في جوهرها عملية تركيبية تقوم على إعادة بناء الحياة الفردية للشخص، وأصل الكلمة يوناني تعني كتابة الحياة.
وقد اهتمت البيوغرافيا في العصور القديمة بتاريخ الرجال العظام والأبطال الكبار برجال الحكم من الملوك والوزراء والقادة العسكريين، والبطل في هذه السير هو الصانع الوحيد للتاريخ، ذلك ما آمن به المؤرخون القدامى في بلاد الاغريق وروما.
ويمكننا في هذا الكتاب “السيرة لعبة الكتابة” الصادر مؤخراً لمؤلفه خاليد فؤاد طحطح، والمكون من أربعة فصول تتبع تبلور العديد من أصناف كتابة السير المختلفة المداخل في ظل بروز مسارات جديدة بدأت في الظهور مع تطور الأبحاث التاريخية والانتربولوجية.
أعلام البيوغرافيا
من أعلام البيوغرافيا في الزمن القديم الكاتب اليوناني “كزينوفون” ويعتبر رائداً لهذا النوع من الكتابات ويأتي بعده بلوتارك، أما في العصر الإسلامي فيعد محمد بن اسحاق بن يسار (85 – 151هـ) أول مؤرخ عربي كتب سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأطلق تسمية “سيرة رسول الله” على كتابه الذي يعتبر من أكثر سير النبي شيوعاً بين المسلمين حتى اليوم والمعروف بـ”سيرة ابن هشام”.
وترتبط البيوغرافيا بتقاطعات مختلفة مع باقي الأجناس السردية الأخرى القريبة منها، مثل التاريخ والأدب والسوسيولوجيا والانتروبولوجيا، فكثيراً ما تتداخل معها في الأساليب والتقنيات المستعملة، إذ السيرة مثلها مثل الرواية والسيرة الذاتية، تجعل لنفسها هدفاً رئيسياً، وهو أن تقص علينا حياة شخص، غير أن الحدود الفاصلة بين البيوغرافيا وتلك الأجناس المجاورة يرسمها حجم حضور التخييل في النص.
الكتابات البيوغرافية
أما اليوم فقد تنوعت وازدادت الكتابات البيوغرافية، حيث برزت إلى الوجود نماذج وأشكال مختلفة ومتنوعة، كما تحررت الكتابات البيوغرافية من التشويه والعار الذي لحقها على يد مدرسة “الحوليات” الفرنسية، فلم تعد تنتمي إلى الكتابات المحرمة “الطابو”، وأضحت كتابة البيوغرافيا التاريخية اليوم أكثر جاذبية وشعبية ورواجاً وأصبحت نوعاً متميزاً من الكتابة والتفكير في التاريخ وعلى مستويات متعددة، فمع التفتح الحاصل في العلوم الإنسانية الاجتماعية برزت كتابات جديدة متعددة وخصبة أهمها السير الجماعية والسير المتوازية والسير المتقاطعة والسير الفكرية وسير الحياة وسير الناس العاديين.
مراحل تطور الكتابات البيوغرافية
يجول بنا المؤلف في الفصل الأول عبر مراحل تطور الكتابات البيوغرافية بداية من مرحلة العصر البطولي وسير الرجال العظام والتي بدأت في القرن الخامس قبل الميلاد في الحقبة التي تسمى “الهيلنستية” حيث كان التركيز أساساً على الأبطال العظام من العسكريين والسياسيين، باعتبارهم أفراداً يمثلون القيم المثلى داخل المجتمع، وكانت كتابة السيرة في هذه المرحلة نوعاً من الخطاب التمجيدي حول الفضيلة والأخلاق المثلى، وقد ارتبطت بفكرة العناية الإلهية وبأهمية دور الرجال العظام.
أما المرحلة الثانية فهي المدرسة المنهجية وصعود نجم البيوغرافيا، تم الاعتماد على المنهجية العلمية في كتابة التاريخ، وعلى الوثيقة كأداة مركزية في عمل المؤرخ وكمصدر أساسي من مصادر كتابة التاريخ، وبالتالي تعاملت المدرسة المنهجية مع التاريخ باعتباره علم الوقائع، فلتشييد التاريخ العام يكفي البحث عن كل الوقائع التي يجب أن ترتب في مكانها الزماني في التطور، وعلى المؤرخ أن يجمع الحوادث من كل نوع ثم يرتبها ترتيباً زمنياً، وترتيبها بحسب البلدان لكي تكون لدينا لوحة جامعة للتطور التاريخي.
ومن ملامح هذه المرحلة التركيز على الأحداث الفردية والاعتناء بالتاريخ السياسي وتاريخ المعارك الحربية والتطلع للأفعال الفردية ذات الأثر الحاسم، وإعطاء قيمة للسرد وللتسلسل الزمني للأحداث.
ويقول المؤلف: لقد تلقت البيوغرافيا ضربة كنوع الضربة القاضية سنة 1920م على يد مؤرخين جدد، وفقدت منذ ذلك التاريخ مصداقيتها بقوة في التاريخ الأكاديمي، وهو الأمر الذي نفسر به انخفاض نسبة الأبحاث بعد هذه السنة، فمباشرة بعد تأسيس المدرسة التاريخية الجديدة “الحوليات” سنة 1929م على يد “مارك بلوخ” و”لوسيان فيفر” بدأت عملية تشويه سمعة البيوغرافيا والتشكيك فيها واستمر ذلك إلى غاية سنة 1970م.
وتعرف المرحلة الثالثة بمرحلة الحوليات وقد عبّر عنها بـ”الكسوف البيوغرافي” والتاريخ الأول لمدرسة الحوليات كان بإصدار العدد الأول من دورية “حوليات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي” الصادرة في 15 يناير 1929م، والتي ستتحول بسرعة من مجرد مجلة إلى مدرسة تاريخية رائدة فهذه المجلة التي أسسها “مارك بلوخ” و”لوسيان فيفر” حققت رغبة وطموح جيل جديد من المؤرخين الذين تأثروا بمجلة “التركيب”.
وفي سنوات السبعينيات انتقلت مدرسة الحوليات من الديموغرافيا التاريخية ذات الطابع الكمي إلى مجال العقليات “الذهنيات” مع الانتربولوجيا التاريخية ذات الطابع الكيفي وشهدت هذه الفترة أن ظهر جيل جديد من المؤرخين قام بتأسيس مجلة الحوليات.
واستعرض المؤلف دور عدد من المؤرخين والأكاديميين في مرور الحوليات بمراحل عديدة، وفي إطار انفتاحها على باقي العلوم الإنسانية الأخرى فقد اتجهت مدرسة الحوليات أكثر إلى الانفتاح على وصف الحياة اليومية المادية والذهنية للناس العاديين في مجتمعات الماضي، وذلك من أجل إحياء الذاكرة اليومية للناس البسطاء، وبعث المغمور من خلال الاتجاه إلى الهوامش.
الانفجار البيوغرافي
في الفصل الثاني من الكتاب يستعرض المؤلف فيه استعادة البيوغرافيا مشروعيتها المفقودة في العام 1980م بعد تضرر صورتها خلال القرن العشرين، ووصول الشكوك قمتها في فرنسا وظلت السيرة لفترة طويلة محظورة في الأوساط العلمية، على الرغم من احتفاظ الجمهور بقيمة السيرة.
فبعد مهاجمة البيوغرافيا من قبل الحوليات في السابق، عادت للانتعاش رويداً رويداً عن طريق عدة باحثين ينتمون لحقل علم الاجتماع وعلم النفس والانتربولوجيا والاثنولوجيا وحتى التاريخ.
وفي فرنسا خاصة استعادت البيوغرافيا بريقها منذ مطلع الثمانينات ويشهد بذلك سيل الإصدارات والترجمات وهو الزخم الذي وصفتها إحدى الصحف الفرنسية واسعة الانتشار بـ”الانفجار البيوغرافي”.
وقد تطرق المؤلف في هذا الفصل إلى الأسباب التي ساهمت في عودة الموضوعات البيوغرافية إلى الساحة الأكاديمية ومنها عودة الاهتمام بالفرد في دراسات الأنتربولوجيا والسوسيولوجيا منذ أواخر الستينيات من القرن الماضي، تعطش الجمهور القارئ لهذه الموضوعات، التنافس الحاد بين دور النشر، الدور الذي أحدثه تيار الوجودية والتقارب الكبير بين التاريخ والبيوغرافيا.
نماذج من البيوغرافية الجديدة
في الفصل الثالث من الكتاب يقدم لنا المؤلف نماذج من البيوغرافيا الجديدة ومنها روايات الحياة أو سير الحياة، سير الناس العاديين، والسير الفكرية، وبين فيه كيف تحول الاهتمام من الشخصيات الكبيرة إلى سير الرجال العاديين الذين ليسوا من المشاهير بل وأحياناً من المغموريين تماماً، وكيف ساهمت السوسيولوجيا والاثنولوجيا بالإضافة إلى أنصار الميكرو تاريخ في بث الروح من جديد في كتابة السير، وفي هذا الإطار تندرج سيرة أطفال “سانشيز” للكاتب أوسكار لويس السوسيولوجي القادم من جامعة شيكاغو، حيث قدم نموذجاً لمنهج بيوغرافي في الأثنولوجيا بجميع مؤهلاتها وخصائصها الرواية العائلية، لقد سرد سيرة ذاتية لحياة أسرة تحت بروليتارية مكسيكية، عاشت في غرفة واحدة بمدينة كازا كراندي، وقد سبق له أن قام بدراسة سابقة عن الهجرة القروية لقبائل الأزتيك في اتجها مكسيكو.
خصائص الكتابات البيوغرافية الجديدة
البيوغرافيا هي مزيج مختلط وجنس غير مستقر مختلف عن التاريخ منذ البداية، ولهذا، فالمؤلف يبين لنا من خلال الفصل الرابع خصائص الكتابات البيوغرافية الجديدة التي ألحقت بالأدب لما فيها من خيال وانفصالها عن التاريخ الذي أصبح علماً مستقلاً بذاته، ويؤكد أن الفن البيوغرافي يفرض ضرورة احترام مجموعة من القواعد منها احترام الترتيب الكرونولوجي والتسلسل الزمني للأحداث لتشويق القارئ، واختيار ما يناسب الموضوع، والقدرة على التمييز بين الخصائص الفردية وإبراز الفوارق الدقيقة المميزة لكل شخصية والحذر من السقوط في فقدان هوية الشخص، عدم الاستناد على خيال الكاتب فقط بل لابد من مصادر مكتوبة وشهادات شفوية ونصوص اصلية “جرائد، رسائل، حوارات،…”.
ويختتم المؤلف كتابه بالقول: ليس بوسع البيوغرافي وكاتب السيرة الوصول إلى الحقيقة بشأن إنسان ما، فالذي يبحث عن حقيقة الشخص مثل من يلهث وراء السراب، لذلك لم يعد طموح البيوغرافي الوصول إلى حقيقة الشخصية، ذلك أن الشخصية لا تموت أبداً، بل هي تفلت وتبعث من جديد.