من رفوف الذاكرة.. حسن البنا وفن المناورات (1-2)
محمد ناجي أحمد
(إن النضال ضد الامبريالية ،إن لم يرتبط بلا انقطاع بالنضال ضد الانتهازيين ،يعتبر جملة فارغة ووهمية ) لينين.
منذ ميلاد الإمام الشهيد حسن البنا (1906) إلى استشهاده عام (1949م) رحلة لا تتجاوز الـ (43) عاما ،هي بالمعنى العام لمصر تعكس تاريخ قرن جوهري في تشكيل الشخصية المصرية بانتمائها القومي ،والتناقضات التي تعتمل داخل الشخصية المصرية بتعدد التيارات والولاءات. ومنه نستطيع أن نفهم الظروف الموضوعية التي تحرك منها وفيها الشهيد حسن البنا ،خلال رحلته السياسية ،التي لا تتجاوز الواحد والعشرين عاما ، منذ تأسيسه لجماعة الإخوان المسلمين في الاسماعيلة عام 1928م ، وإلى استشهاده عام 1949م.
في كتابه (قادة العمل السياسي في مصر –حسن البنا –رؤية عصرية ) الصادر عن دار الهمداني بطبعته الثانية عام1983م –يشير الكاتب والسياسي اليساري رفعت السعيد في مقدمته لكتابه هذا – إلى أن هناك محاذير و كوابح لازمته بسبب اختياره الكتابة عن (حسن البنا ) ” فالبنا لم يكن مجرد منشئ ، أو مؤسس لجماعة ، ولم يكن مجرد قائد لها ،وواضع لبناتها ، ومحدد لأدق معالم طريقها …بل كان أكثر من ذلك بكثير بالنسبة للجماعة ، ولكل فرد من أفرادها “.
عقدان من الزمان خلقت عن الإمام الشهيد هالة قداسة لدى المريد الملتزم بقسم البيعة والطاعة العمياء ” التي تهدد الناكص عنها بالخروج –ليس فقط من ثياب عضو الجماعة أو المريد –بل من ثياب المسلم أيضا …عندما يتجمع الوجد والحب والخضوع المطلق والثقة الكاملة ،ليختلط بالعمل السياسي المليء بالمناورات والتقلبات”
هي رحلة قصيرة زمنيا ، كونها عقدين من الزمن ، لكنها عميقة التأثير فيما أعقبها من عقود . فالعقدان “احتطب فيها الشيخ كثيرا من النجاحات والنفوذ ، وبدا كأن التيار يسايره ،ويسير وفق هواه ، لكنه احتطب شوكا كثيرا .. وكانت النهاية ،على يد قوى غامر معها ،ولمصلحتها ، متصورا أنه يروضها لمصلحة الدعوة ، فإذا بها تستخدمه أمدا ، وما أن بدت منه بوادر التمرد حتى انهالت عليه بالمطارق …ثم اغتالته “ص9 المرجع السابق.
هي سمات التأسيس والمؤسس التي جَبُلتْ عليها الحركة الإخوانية في كل مساراتها التاريخية ، وتشعباتها الجغرافية ، طيلة العقود التسعة المنصرمة.
في حياة المؤسس وبعد استشهاده ظل مسار حركة الإخوان المسلمين يتحرك وفق وهم توظيف الظروف واستغلالها لصالح الحركة . لكن الحقيقة هو أن الحركة تم ويتم استخدامها في كل مرحلة ، وترويضها وفق مقتضيات الصراع في (لعبة الأمم) إقليميا ودوليا .
حين يشعر اللاعبون الدوليون أن حركة الإخوان قد أصبحت خطرا سرعان ما ينهالون على رأسها بالمطارق ، والمسارعة إلى تخصيب رأس أخرى للحركة ، تتواكب ومتطلبات الصراع ،واستجلاب المصالح للدول الرأسمالية الكبرى.
لقد تخلقت الجماعة في حاضنة الولاء والبراء ، وانصهرت في بوتقة واحدة في ارتباطها بالمؤسس ، من ولاء الصوفي لشيخه ،وبيعة المريد لإمامه ،ووفاء السياسي لزعيمه . بحسب توصيف رفعت السعيد في كتابه آنف الذكر.
يتدرج البنا في بناء كادر الإخوان بل إن شكواه يدخل ضمن هذا التدرج والتوجيه ، ومن ذلك شكواه من ” ضعف الأميين ،وخباثة القوي ” وصولا إلى جاهزيتهم لـ(صناعة الموت ) و (فن الموت ) وهما التعبيران اللذان استخدمهما كعناوين لافتة في مسار الحركة ، ففي عام 1937م حين احتدمت الثورة الفلسطينية ،كتب البنا مقالا عن الجهاد ،اسماه “صناعة الموت ” وفي أوج نشاط الجهاز السري وقوته أعاد نشر نفس المقال ،بعد أن غير العنوان ليصبح “فن الموت ” ص132-السعيد- المرجع السابق.
فقد نشر البنا المقال “فن الموت ” في صحيفة ” الإخوان المسلمين ” بتاريخ 16-8-1946م.
هذا التدرج في بناء الشخصية الإخوانية مواكب لتدرج الجماعة في مواقفها الرافض للتغيير عن طريق الثورة ، ثم الجهر بالعنف واتخاذ الانقلاب سبيلا لتغيير النظام والمجتمع .
لقد أفرد البنا (رسالة التعاليم ) ليعالج من خلالها ” ضعف الأمين ” و”خباثة ” القوي ” ليصهرهم في بوتقة ” الثقة بالقائد ،والإخلاص والسمع والطاعة في العسر واليسر ،والمنشط والمكره ” وكان المدخل إلى الانتساب للحركة يمر بالعضو المساعد ، والعضو المنتسب والعضو وصولا إلى العضو المجاهد- بالقسم و البيعة ودلالة ذلك عند الإخوان عهد وميثاق مع الله ” أعاهد الله العظيم على التمسك بدعوة الإخوان المسلمين والجهاد في سبيلها ،والقيام بشرائط عضويتها والثقة بقيادتها والسمع والطاعة في المنشط والمكره ،واقسم بالله العظيم على ذلك وأبايع عليه ،والله على ما أقول وكيل ” هي بيعة وقسم بالله ، محورها الثقة والسمع والطاعة للقائد في مختلف الظروف ” في المنشط والمكره ” فإذا كانت البيعة للنبي تحت ظلال شجرة ،وضوء النهار ،وفضاء وفسحة البرية ، فإن البيعة للإمام حسن البنا كانت تقام في غرفة شبه مظلمة ،وعلى أرضية ليس فيها سوى حصيرة ، يجلس المريد عليها ليقسم لا مصافحة كما هي بيعة الأنصار، بيعة الشجرة ،وبيعة الرضوان ، وإنما بوضع يد المريد على المصحف والمسدس. في توجيه واضح وتأويل جلي بأن القرآن مسدس يتحرك على الأرض لا مكارم الأخلاق.
حرص البنا على تعزيز نظام (الأسر) في البناء التنظيمي ،كسبيل لارتباط العضو بالجماعة ،ليس فقط سياسيا ،وإنما اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا ، لقد حرص البنا على أن تكون الجماعة موئل العضو وأسرته ودرعه ومحط آماله ، وكان يروي دوما كيف فقد أحد أعضاء الجماعة مورد رزقه ، فقدم له أخا في (الأسرة ) ” نصف راتبه ، فلما سئل : كيف تعيش بنصف راتب ؟ أجاب : وكيف يعيش أخي بلا راتب ؟” وقد أوصى البنا الإخوان أن يقيموا نظام (الأسر ) التنظيمية على أساس أعمدة ثلاث: التعارف . التفاهم . التكافل. وبهذا أصبحت الإخوانية ” أسلوب حياة ” .