أحمد يحيى الديلمي
تفاصيل الجريمة :
تعددت واختلفت الروايات حول تفاصيل النهاية المؤلمة للرئيس الذي استأثر بشغاف القلوب واستطاع خلال السنوات التي أمضاها في الحكم ان يضع أسس الانتقال الى عصر الدولة والتنمية مع أن التباين وتعدد الروايات كثيرة ، إلا انه حدث شبه اتفاق على التفاصيل كما هو حال لحظة وصول الحمدي إلى حوش المنزل على سيارة خاصة ذكر البعض أنها سيارة كريمته ، واترك الرواية هنا للأستاذ المرحوم عبدالله الاصنج عندما التقيته في القاهرة بعد صدور العفو عنه من الرئيس صالح والسماح له بمغادرة اليمن في رده على السؤال الذي وجهته إليه بدأ الإجابة بإعلان البراءة من جرم المؤامرة قال نعم أقنعنا الحمدي بحسن نية وبقصد أذابه التشنج الذي كان يسود الأجواء ولم استوعب من كلامه طريقة الإقناع هل تمت عبر الاتصال بالتلفون أم أنهم ذهبوا إليه بحسب الروايات الأخرى ،المهم في ذلك انه كان شاهد إثبات على لحظة وصول الرئيس الحمدي حيث قال كنا ننتظر في حوش المنزل مع صاحبه الغشمي وقادة عسكريين آخرين بما فيهم علي عبدالله صالح، أما الملحق العسكري السعودي صالح الهديان فقد كان يقف بعيداً لم يقترب من الحمدي ولم يصافحه كما فعلنا ، المهم ان الغشمي طلب منا العودة إلى بقية الضيوف في الديوان وبعد لحظات دُعينا لتناول طعام الغداء دون ان يحظر الحمدي والغشمي وفي بقية رواية الاصنج دحض ادعاءات البعض الذين قالوا أنهم لم يعرفوا بما جرى إلا من التلفزيون مع أنهم كانوا حاضرين وان الغشمي أبلغهم بكل شيء .
حول هذا الجانب أضاف الأستاذ الاصنج دخل علينا الغشمي محاطا بعدد من الضباط والجنود مدججين بالسلاح قال إن استمرار الحمدي في الطيش وعدم الارتقاء إلى مستوى المسؤولية كان سبب الكارثة وأفصح عما حدث وطلب من الجميع مباركة ما حدث كتسليم بالأمر الواقع وهو ما حدث بالفعل وهذه الرواية هي الأقرب إلى الحقيقة جميع المسؤولين عرفوا بما حدث في زمن مبكر لا استثني إلا الأخ حسن اللوزي نائب وزير الإعلام آنذاك فقد تركناه في مكتبه أنا والأستاذ المرحوم عبدالله الرديني وهو في غاية السعادة يقرأ بيان الرئاسة عن نزول الرئيس الحمدي صباح اليوم التالي إلى عدن ، والدليل القاطع انه ارتبك وتفاجأ عندما اتصل به الغشمي وطلب منه كتابة بيان النعي مما اضطر الغشمي إلى تكليف علي عبدالله صالح بالذهاب إلى المرحوم الأستاذ احمد الرعيني لإحضاره وبالفعل حضر وقام بالمهمة وتم تكليفه بالإشراف على الإعلام وظل كذلك إلى أن تعين وزيراً للإعلام في الحكومة التي اقترحها الغشمي برئاسة الأستاذ المرحوم عبد العزيز عبد الغني وضمت وزراء كان لهم دور في إسناد الانقلاب مثل الدكتور الفاضل احمد محمد الاصبحي فقد أسندت إليه حقيبة وزارة الصحة لأنه كتب التقرير الصحي المكمل للتقرير الجنائي بينما تمسك الاصنج بحقيبة الخارجية وعين أحمد عبده سعيد وزيرا للدولة وتسلم الأستاذ محمد سالم باسندوة حقيبة التخطيط والتعاون الدولي بالمقابل بدأ إقصاء المحسوبين على الحمدي ومنهم الأستاذ المرحوم محمد عبدالوهاب جباري وزير الاقتصاد والصناعة والدكتور المرحوم الشهيد محمد عبد الملك المتوكل وزير التموين والتجارة كما أسندت حقائب أخرى إلى أشخاص آخرين أكثر ميلا للسعودية وحركة الأخوان المسلمين اضطررت لحشر هذه الفقرة في موضع متقدم للتدليل على التوجه الفعلي للرئيس الجديد وكيف أن العملية مهدت لفرض قوة حضور جماعات التطرف الديني بناء على هذه الوقائع أكدت الأدلة الظرفية تورط حركة الإخوان المسلمين في اغتيال الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي إما بدافع الانتقام أو تنفيذاً لتوجيهات السعودية كما أشارت إلى ذلك بعض الفتاوى التي اعتبرت اغتيال الحمدي انتصاراً للدين ، أنا في الأساس لا أميل في الغالب إلى الاستعانة برواية الشارع والحكايات الشعبية عند أثبات حقيقة هامة كهذه التي نحاول إجلاء الغموض التي يكتنفها مع ذلك أرى أني مضطر للاستعانة بها للاستدلال على اهم حلقة ممثلة في لحظة تصفية واغتيال الرئيس الحمدي لأن الروايات تعددت واختلفت .
هذا النوع من المعلومات يتصف بالضعف وعدم المصداقية لأن العاطفة ومشاعر الحب والبغض تتحكم في تفاصيلها ويكون التشويش وعدم الدقة والتحري لأي معلومة قبل الإفصاح عنها عندما يسود الخوف والرعب واستهداف من يفصحون بأي شيء عما حدث وتعريض الأنصار الموالين للضحية للعقاب بالسجن والتعذيب أو الإقصاء من الوظيفة أو التصفية الجسدية ، كل هذه العوامل تقلل من مصداقية أي رواية إضافة إلى عامل آخر أكثر أهمية وخطورة في حالة التوظيف السياسي للمعلومة وهذا ما سنوضحه بالتفصيل في ملحق التداعيات ، وأعود إلى محور الروايات كما يقول المثل (مكره أخوك لا بطل )لكني اعتقد أن الاستعانة بهذه الروايات لن يخل بالمضمون لأننا ومن خلال شهادة الاصنج تابعنا العملية إلى أن وصل الشهيد الحمدي إلى حوش منزل الغشمي واصطحب الحمدي إلى مكان آخر وبالتالي تظل القرائن ثابتة والأدلة واضحة تحدد الجناة والمستفيدين الحقيقيين مما جرى على المستويين الإقليمي والدولي .
اتفقت الروايات في جوهرها على معلومة هامة وضحت الموقف قبل الاغتيال حيث تقول : اصطحب الغشمي الشهيد إلى البدروم فوجد كل شيء معدا لتنفيذ جريمة الاغتيال ما لفت نظر الشهيد الحمدي انه وجد أخاه المقدم عبدالله محمد الحمدي ملقى على الأرض جثة هامدة استفزه المشهد التفت إلى الغشمي يعاتبه (ياسبحان الله يا احمد فعلتها خنت الأخوة والصداقة والعيش والملح لماذا لم تخبرني انك تطمح إلى الرئاسة وأنا كنت سأتركها وارحل) كلام كثير اختلف حوله الرواة لا أرى ضرورة لنشر هذه التفاصيل لأن المعلومات والأدلة التي حصلت عليها كشفت أدق التفاصيل عن بواعث الجريمة والمدى الزمني الذي استغرقته فترة الإعداد.
من المباشر بالقتل؟
انتقل إلى النقطة الأكثر حساسية وتتعلق بمن باشر القتل والخلاف واسع إلا أنه لم يتجاوز أربعة أشخاص فالغشمي لم يسمح للحمدي بالاستمرار في الحديث بعد أن شاهد الارتخاء والاقتناع بالكلام في وجوه الحاضرين فأشار إلى الشخص المعني بسرعة التنفيذ وهنا يكمن الخلاف فالقتل تم بهراوة حادة بضربة خلف رأسه إلى أن سقط على جثة أخيه المسجى أمامه فمن الشخص الذي نفذ الضربة؟
الرواية الاولى من سدد الضربة :علي عبدالله صالح .
الرواية الثانية من سدد الضربة :محمد يحيى الحاوري .
الرواية الثالثة من سدد الضربة محمود مانع صاحب بني حشيش الذي سبق له اغتيال قاسم منصر بدفع من الفريق العمري وفي هذا الصدد تؤكد بعض المعلومات ان فكرة اغتيال قاسم منصر تم الاتفاق عليها يوم الاستقبال الحاشد له لان كلاً من القاضي عبدالرحمن الارياني والفريق حسن العمري كانا يخشيان سطوة الرجل والدعاية التي روجت له قبل دخوله صنعاء.
الرواية الرابعة : تقول ان من سدد الضربة هو المقدم محمد الكول الذي كان قد اغتال الشهيد المقدم طيار محمد محمد الديلمي ونكل وعزر به ومثل بجثته حيث ربطه خلف سيارته وسار به في معظم قرى سنحان وجسده عار وقد تم إيداعه بسجن القلعة إلى أن تشفع له الغشمي لدى الحمدي واستطاع أخراجه ثم عينه قائدا لحرسه الخاص وهو الذي كان يكلفه الغشمي بتنفيذ الاغتيالات السرية ولأن الشهيد الديلمي كان على صلة بالقوى اليسارية فقد وضع له كمين خاص في منطقة الاجلـُب بالمناطق الوسطى .
هذه المعلومات التي رويتها كما سمعتها ، وأنا عندما تحدثت في موضع سابق ان علي عبدالله صالح كان في الإذاعة فأنا اقصد في مساء نفس اليوم بعد ان كانت الجريمة قد تمت وما وجوده في الإذاعة وتصرفه بذلك الأسلوب إلا دليل واضح على انه الرجل الثاني في الانقلاب لان الإذاعة من خلال تجارب الانقلابات السابقة كانت تمثل أهم الحلقات ولا توكل مهمة السيطرة عليها إلا لمن هم موضع الثقة المطلقة لدى القوى الانقلابية ، خاصة أن بث التلفزيون في تلك الفترة كان محدودا إلى جانب انه كان متواجداً في القيادة العامة للقوات المسلحة كما أشار إلى ذلك اللواء علي محمد صلاح في الجزء الثاني من مذكراته وفي اعتقادي أن مشاركة الرجل ودوره البارز في ما حدث لا يحتاج إلى أدلة إثبات لأن السعودية ورجلها القوي في تلك الفترة صالح الهديان كانا يتعاطيان مع صالح بعد نجاح الانقلاب باعتباره الرجل الثاني بعد الغشمي.
نعود الى سياق الموضوع بعد عملية الاغتيال حرصت الخطة المعدة سلفا بان تتحمل الاجهزة المعنية مسؤولية الخطوات اللاحقة حتى يكون كل شيء رسميا وبالفعل تولى المقدم محسن اليوسفي بمشاركة مجموعة من الحرس الخاص للغشمي نقل الجثث وترتيب الأمور الكفيلة بإقناع الناس ان ما جرى حادث عرضي نتج عن طيش ومغامرات الشهيد الحمدي ، على ذلك الأساس تم إبلاغ المباحث الجنائية وعقب البلاغ حدث السيناريو التالي :
ضابط المباحث الذي تم تكليفه بمداهمة المنزل المشبوه للتأكد من البلاغ اندفع بحماس لتنفيذ المهمة استناداً إلى بلاغات وشكوك سابقة كانت تأتي تعليمات عليا بتجاهلها لأن المستأجر للمنزل هو وزير الخارجية عبدالله الاصنج استأجره كاستراحة للخطوط الجوية اليمنية باعتباره المشرف بشكل مباشر على الشركة من بعد ان دخلت السعودية شريكا في رأس مال الشركة وتشكل مجلس الإدارة من الجانبين والمنزل في الأساس ملك المقاول العبيدي قال احد الجنود الذي رافق الضابط اندفع الفندم بقوة إلى داخل المنزل إلا أن المفاجأة كانت مذهلة عندما اطل من باب الغرفة ورأى المنظر كان وجه الرئيس الحمدي محروفا إلى أمام الباب عقب اخذ الصور الفوتوغرافية انهار الضابط تراجع إلى الخلف وهو يصرخ بطريقة هستيرية ( كذب كذب مابش قازلي ببيادة ) .
البيادة اول شبهة دحضت الزيف :
موضوع البيادة أكده أحد المشائخ فقد طلبه الغشمي في نفس الليلة ووضع أمامه عدة رزم من المال وفوقها صور للحمدي وشقيقه عبدالله مع الفرنسيات في وضع غير طبيعي قال : أبسر هذا رئيسكم سار في فروقها بسبب طيشه طالما نصحناه لم ينتصح وجود البيادة أضعف الرواية وأكد ما عندي من معلومات باغتيال الرئيس ، أخذت المال والصور وأنا في حالة خوف ورعب الشر والإجرام يطلان من عيني الغشمي وقفت وطلبت منه الإذن وقبل أن ينطق بالسماح لي بالمغادرة رن جرس التلفون وإذا به يصرخ بعلو صوته قلت لكم السرحي هذا مجنون غيروه أبعدوه عرفت انه يقصد المصور الفوتوغرافي الخاص به أنهى المكالمة بسرعة وخاطبني عفوا يا شيخ لا داعي لأخذ صور الرجل كان رئيس اليمن والناس انخدعوا به لا داعي لنشر الغسيل ، بادرت إلى وضع الصور أمامه وأثنيت على موقفه وحرصه على القيم والأخلاق كان كل همي في تلك اللحظة الظفر بالسلامة من ذلك اليوم لم اعد إلى مكتبه إطلاقا .
إلا انه بعد ثلاثة أيام زارني أحد الأخوة الأصدقاء وهو شيخ من سنحان كأن الأمر انطلى عليه وجه أبشع الشتائم إلى المرحوم استمعت اليه على مضض خفت أن يكون مرسلا من الغشمي لمعرفة موقفي أخذت الصور عندما دققت في الصورة عرفت انه تم أخذها في وقت لاحق بعد نزع البيادة اضطررت إلى مجاراة الواقف أمامي اتقاء لشره قلت بذهول وانهيار ( ب ب ب هذا انحلال يستأهل ما جرى له ) .
اقتضى السياق إيراد المعلومة السابقة لإثبات ما قبلها واثبات حقيقة هامة يغفل عنها الكثير وهما ان الخطة أعدت بدقة عالية لم تترك أي فرصة للشك فحتى المنزل الذي نقلت إليه الجثث اختير بعناية وان الشبهات تحيط به استنادا الى بلاغات سابقة عن الليالي الحمراء التي تتم فيه ومشاهدة الناس لمضيفات الطيران يترددن عليه وفي هذا دليل إثبات لا يقبل الشك بان الخطة وضعت من قبل مخابرات أجنبية كانت على علم بشعبية الحمدي ومستوى حب اليمنيين له فاهتمت بأدق التفاصيل الكفيلة بتشويه صورة الرجل وإضعاف رد فعل الشارع ومثل هذه التفاصيل تتجاوز مستويات الفهم والقدرات الذهنية لدى الغشمي والمشاركين له في الجريمة .
ونعود إلى مصير ضابط البحث قال الجندي ظل الضابط يصرخ بجنون وفي حالة انهيار تام ، هذا كذب مابش قازلي ببيادة إلى أن استمعه ضباط وجنود الحرس أمرونا بالخروج ونزلوا عيه ركلاً بالأقدام وضرب باعقاب البنادق بعدها تم إخفاؤه إلى عام 1984م استدعى الرئيس علي عبدالله صالح والده وقدم إليه مبلغا من المال وتوجيها إلى وزير الداخلية بترقيته وتجنيد ابنه مع أن عمره آنذاك لم يتجاوز الخامسة المهم أن الأب قرأ الرسالة فأخذ أسرته إلى آنس وأقام العزاء في مسقط رأسه خشية ان يتعرض للأذى ان أقامها في صنعاء وهكذا طويت فترة الازدهار والطفرة التي أحدثها الرئيس الشهيد في فترة رئاسته التي لم تتجاوز ثلاث سنوات ، في كل الأحوال ما حدث كان فاجعة وكارثة عظيمة قال عنها الأستاذ محمد عودة الصحفي المصري الكبير (ما حدث لم يكن جريمة بشعة فحسب لكنه مثل انتكاسة ستعيد اليمن إلى الوراء خمسين سنة لقد أحسست بالندم والحسرة وأنا أشاهد موجات الحزن والأسى تعلو وجوه كل اليمنيين الذين قابلتهم في الشارع تمنيت لو أني لم أوافق الرئيس الشهيد على تمديد الزيارة لكني وافقته على أمل المشاركة في الفرحة الكبرى التي لمح إليها فكانت النتيجة للأسف أن الأعداء المتربصين باليمن استبقوا ذلك الحلم قتلوه في المهد ) أنا حزين لأن الجرح سيظل نازفا والواقع مفتوح على كل الاحتمالات لا يمكن لأي عاقل أن يصدق بان الشعب الهائج الذي خرج يودع زعيمه المحبوب سيتصالح يوما مع القتلة ويمد يده لمصافحة تلك الأيادي القذرة أنا شخصيا أحس بالهزيمة والفشل فالحمدي لم يكن خسارة على اليمن فقط بقدر ما مثل خسارة لكل العرب والمسلمين هذا ما رأيته في حديثه وفي أفكاره وفي طموحه وفي رؤيته للمستقبل سامحني لا استطيع الحديث أكثر من هذا ما زالت الصدمة بتفاصيلها الأليمة تسيطر على كل مشاعري وستظل كذلك ما حييت ).
وأنا بدوري اشكر الأستاذ محمد عودة وازكي كلامه بان ما حدث مثل أعظم فاجعة واكبر انتكاسة مازال الشعب يعاني تبعاتها حتى يومنا هذا .
في الحلقة القادمة سنتطرق الى بعض التداعيات لتكتمل الصورة وتتجلى الحقيقة بكل تفاصيلها إن شاء الله .