الجذور التاريخية للصراع اليمني السعودي” 9 “
عبدالجبار الحاج
كانت تعز خلال النصف الثاني من الخمسينيات تمثل العمق الاستراتيجي وكانت تمثل في آن واحد القاعدة والمؤخرة الصلبة لخوض معركة الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني ..
ومثلت نقطة التقاء خلال هذه الفترة جمعت بين برامج الحركة الوطنية المعارضة أو تلك السياسات الرسمية شمالا المناهضة للاحتلال البريطاني وكانت توجهات شتى ناشطة تلك الأثناء وعاملة بانسجام واتصال وثيق العرى .. فقد تجلت فيها أشكال الاتفاق والتوافق بين استعدادات وتحضيرات حركة القوميين العرب الصاعدة والفاعلة بقوة على الساحة العربية كلها ضمن نضالاتها في مجرى تحققات مبادئ التحرر الوطني والاشتراكية والوحدة متفقة ومتناغمة مع توجهات الإمام في الشمال في ترجمة النهج المقاوم للاحتلال الأجنبي ممثلا آنذاك بالاحتلال البريطاني للجنوب ودعمه ..
وكانت تعز في الوقت نفسه ساحة من ساحات الصراع الدولي كما تجلى في نشاط المخابرات الأمريكية فيما أسميت بالنقطة الرابعة المتربصة والمتوجسة لنشاط رموز حركة القوميين العرب في تعز وتوجهات يسارية ناشطة بشكل أوضح من خلال نشاط الفقيد عبدالله باذيب آنذاك .
كما كانت تعز أيضا ساحة لتجليات وتعبيرات صراع أجنحة الحكم في الشمال بين الأميرين المتنافسين على خلافة الإمام احمد والمتصارعين على مبدأين اثنين هما : أتكون الخلافة للابن البدر أم للأخ الحسن .؟؟!!
واما عدن فكانت تشهد خلال هذه الفترة صراعا بين فكرة اتحاد إمارات الجنوب العربي من جهة وتنامي خيار الجنوب اليمني وتصاعد الوعي الشعبي بالوحدة اليمنية .وشهدت صراعا بين خطي الاستقلال المنقوص الذي كان يراهن على العمل السياسي السلمي وحده ويشيطن النضال المسلح نحو التحرير كان ابرز ممثلي هذا الخط عبد المجيد الاصنج وباسندوة والجفري وآخرون سنتناول ذلك عندما نصل في موضوعنا إلى مرحلة ما بعد الاستقلال ودور الرجعية السعودية في تجييش المرتزقة ضد جمهورية اليمن الجنوبية الوليدة آنذاك وشن حروب وأعمال تخريب واسعة ومؤامرات لا حد لها كلها سقطت حينها في الجنوب وحصدت الخيبة فيما كتب لها في الشمال حصاد المؤامرة ونجاحها في وأد الثورة وسنأتي على ذلك لاحقا .
مقابل اختمار فكرة الاستقلال الكامل والناجز عبر خط الكفاح المسلح والذي اختمرت ونضجت فكرته من خلال نضال النقابات الست ومصفوفة كبيرة من التنظيمات والجمعيات التي تلاقت واصطفت وتوحدت بالتدريج إلى مواقع وخيارات تصب في الانحياز للكفاح المسلح وان شذت القليل من عناصر وانحرفت لتصطف مع خيار العمل السياسي السلمي كخيار للاستقلال !!! وتلك في العمل السياسي ظواهر متكررة وتلك أيضا طبائع ونتائج محتومة يفرزها كل صراع في كل مرحلة ويبقى دائما الخيار المعبر عن ضمير غالبية الشعب هو الخيار الاصوب وسواء انتصر أم فشل وهو الذي انتصر عنا في مجرى نضال الحركة الوطنية والثورية اليمنية في جنوب اليمن نحو الاستقلال التام ..
أما الحديدة فكانت أكثر مدن اليمن في مظاهر انجاز اتفاقيات الصداقة التي ابرمها البدر، ففي بداية 61 انتهت الصين وسلمت طريق الحديدة صنعاء وانتهى السوفييت من انجاز مشروع ميناء الحديدة وحينها أوكلت لعبدالله السلال الذي صار أول رئيس لليمن بعد الثورة من قبل الإمام مهمة إدارة ميناء الحديدة التي استكمل السوفيت انجازها قبل الثورة وكان السلال حينها مسؤولا عن إدارة الميناء إلى جانب وضعه القيادي في الجيش وكانت الحديدة شاهدة على انجازات ما ابرمه البدر مع كل من السوفييت والصين من مشاريع أخرى عديدة بعضها ساري الانجاز عند قيام الثورة ومع ما ابرمه من اتفاقات وحاز من مساعدات مع بلدان أخرى كالألمان على صعيد تنفيذ طريق صنعاء تعز ..
وفوق ذلك فمن طبائع الأحداث أن تعاظم واتساع رقعة الحركات الثورية التحررية التي يشهدها العالم آنذاك كانت تلقي بتأثيرها الجبار على المشهد اليمني ولم تشفع جدية السياسات والتوجهات التحديثية والتنموية التي دشنها البدر في أواخر الخمسينيات ومطلع الستينيات والذي كان مادا يده ومتجها صوب مراكز الثورة العالمية في موسكو وبكين وجادا في نهجه على خلاف أبيه في تحديث وعصرنة اليمن لتلحق بركاب التقدم وذلك ان خصوم الرجل داخل وخارج قيادة تنظيم الضباط الأحرار الذي ظهرت ملامحه قبيل الثورة بقليل فإنهم سوف يربطون البدر بجريرة أبيه في سلبيات ومترتبات سياسة العزلة التي فرضها فضلا عن فظاظة الإمام احمد في تماديه ولجاجته في سفك دم معارضيه وشملت ساحات الإعدام اقرب مقربيه وأخيه وهو ما وسع قاعدة معارضيه داخل القصر وخارجه وتلك جناية الإمام احمد على ابنه البدر وسيدفع البدر ثمن ما اقترفته يدا أبيه !!
زد على ذلك أن الثورة كانت في قراره قيادتها كانت تعجيلا في الزمن وتسريعا يستبق خطى البدر القادمة في أسبوعه الأول وخشية من انجازات محتومة سينفذها البدر من شانها أن تمتص غضب الشعب وتقلص أسباب الثورة لو تاخرت الثورة عن أسبوعها ذاك في مقابل عزم الإمام البدر وقد صار في أسبوع تولية الإمامة مالك القرار الذي لا ينازعه عليه أو يعيقه في طريقه احد في تنفيذ سياساته التي واجه معوقات كثيرة فيما مضى حتى أن أباه في أمور عديدة كان معيقا له لربما أو كابحا لانطلاقة كانت وستغدو الآن على خط سير مفتوح ..وهذا المنطق ليس اطنابا في الرفع من مكانة البدر أو من بذخ الأمل فيمن عرفوه وعاشوا تلك الفترة من تحركات البدر، وعلاقاته الدولية التي انفتحت نحو الشرق الاشتراكي وانعكست بمشاريع حيوية لليمن آنذاك . وصولا إلى الربط بين ذاك الواقع والأفق المتعلق بسباق الزمن بين الثوار والبدر في بحر أسبوع واحد وقضت الظروف أن يكون الأمر قد حسم لصالح التعجيل بالثورة وضياع فرصة التحديث التي كان قد عزم عليها الإمام البدر، وهو تفسير وتأكيد سمعته شخصيا مرارا من الشهيد جار الله عمر وهو من اشد الثوار إخلاصا للثورة اليمنية وممن كانوا في خطها الأمامي الميداني التضحوي ولم يكن مطلقا ممن استهوته مغريات السلطة ولم تجرفه فرص اغتنامها .. ثم لم يكن رأيه هذا عن البدر يثير الشك بمصلحة يرتجيها ففارق الزمن بين الرجلين أطول مما ينبغي المريب .
كانت هذه الأوضاع مع تضافر عوامل شتى قد تشابكت وجعلت تعز تتحضر وتستعد لتحتضن وتختزن وتضخ ما لديها لثورتين يمنيتين في الشمال والجنوب ومن موقعها التوحيدي الوطني الجامع .
لم تكن صنعاء بعيدة عن المشهد إلا أنها كانت تعتمل فيها التحولات على نحو من السرية والاستعداد في نشاط الضباط الأحرار وأكثر سرية في اتصالات مع القاهرة ..
هذه كانت صورة اليمن، فكيف كانت الصورة في المنطقة العربية من خلال تصاعد خط حركة التحرر الوطني المناهض للاستعمار على يسار المشهد الواسع مع بروز عبدالناصر كزعيم عربي وقائد قومي تحرري ؟
وفي المقابل كيف كانت الصورة في يمين المشهد على صعيد التمدد الامبريالي الرأسمالي الغربي عبر القوة الغاشمة الأمريكية من الخمسينيات في دعم كيان صهيون في فلسطين من جهة وتأسيس قلعة الثورة المضادة في المنطقة حتى مع وفاة مؤسس الدولة السعودية الثالثة عام 53 في قلب الجزيرة العربية كاحتياطي نشط وخفي للنشاط الامبريالي التوسعي ؟!