تبدّل موازين القوى في العالم وعلاقته في الصراعات الدائرة
إبراهيم ياسين
منذ إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاستراتيجية الجديدة للأمن القومي، والتي اعتبرت أنّ روسيا والصين يشكّلان التحدّي الأكبر للولايات المتحدة الأمريكية.
«منذ ذلك الإعلان» بدأ التوتر في العلاقات الأمريكية الروسية يتخذ منحى تصعيدياً مما أنهى الآمال المعلقة على التعاون بين واشنطن وموسكو لإيجاد حلول للأزمات الساخنة في العالم كما أعلن ترامب خلال حملته الانتخابية، وإثر فوزه برئاسة الولايات المتحدة من أنه سيتعاون مع روسيا في سوريا لإيجاد حلول سلمية للحرب القائمة فيها.
وازداد هذا التوتر في العلاقات إثر اتخاذ واشنطن سلسلة من العقوبات الجديدة ضدّ روسيا بضغط من فريق الجنرالات في البيت الأبيض الذين يطوّقون ترامب ويتحكّمون في سياساته الخارجية نتيجة حاجته لهم في مواجهة خصومه في الداخل، وهو ما يفسّر أيضاً تماهي سياساته مع رغبات وطموحات الكيان الصهيوني عبر الاعتراف بالقدس كعاصمة لدولة الاحتلال واستعداده لنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس في مايو المقبل. كما تجلّى التوتر في العلاقات الأمريكية الروسية مؤخراً في امتناع واشنطن عن حضور اجتماع مشترك مع روسيا في إطار معاهدة الحدّ من الأسلحة النووية وردّ روسيا بتجميد المباحثات في القضايا المتعلقة بالأسلحة الاستراتيجية. على أنّ الحدث الأبرز الذي رفع من منسوب التوتر في العلاقات الثنائية كان الاشتباك الأخير في مجلس الأمن الدولي على خلفية المعارضة الروسية القوية والحازمة لمشروع القرار الكويتي السويدي لوقف إطلاق النار الشامل في الغوطة الشرقية، حيث أصرّت روسيا على استخدام الفيتو ضدّ مشروع القرار إذا لم يتمّ استثناء جبهة النصرة وفيلق الرحمن وغيرهما من التنظيمات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من القرار.
هذا ما حصل، وتمّ استثناء النصرة وفيلق الرحمن، لكن كان ذلك بمثابة مؤشر قوي على حدّة المواجهة والاشتباك بين روسيا وحلفائها من جهة، وأمريكا وحلفائها من جهة ثانية. وإذا كان هذا الاشتباك يتخذ اليوم من الخلاف حول الموقف مما يجري في سوريا إلا أنّ له أبعاداً أوسع من سوريا تشمل الساحة الدولية كلها، أيّ أنّ الخلاف والصراع جوهره على طبيعة النظام الدولي القائم، والذي لم يَعُد ملائماً لإدارة الشؤون الدولية والأزمات لأنه يقوم على الأحادية القطبية التي انبثقت من مرحلة سابقة إثر انهيار الإتحاد السوفياتي وتسيُّد أمريكا على سُدة القرار الدولي. أما اليوم فإنّ روسيا والصين لم تعودا تقبلان باستمرار هذه الأحادية، لا سيّما بعدما نجحت روسيا في استعادة قوتها ومكانتها الدولية، وباتت قادرة على الدفاع عن مصالحها في العالم. وظهر ذلك من خلال الصراع في أوكرانيا، وقرار روسيا استعادة جزيرة القرم إلى الاتحاد الروسي، وقرارها بإرسال قواتها وأسطولها العسكري إلى سوريا وإقامة قواعد عسكرية استراتيجية دائمة لها في اللاذقية وطرطوس، وتصدّي الرئيس بوتين منذ أيام للتهديدات الأمريكية بشنّ الحرب على سوريا، وفرض المزيد من العقوبات على روسيا، بإعلان القدرة الروسية العسكرية على الدفاع عن أمن روسيا وحلفائها، مما يُعتبر الموقف الأكثر حدةً وتصعيداً في الموقف الروسي في مواجهة سياسات الغطرسة الأمريكية التي ترفض التسليم بالشراكة الدولية وتُصرّ على الاستمرار في محاولات إعادة تعويم مشروع هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على القرار الدولي، رُغم استحالة تحقيق ذلك في ضوء التبدّل الجذري في توازن القوى الدولي العسكري والاقتصادي. وما ينطبق على روسيا يسري أيضاً على الصين الدولة العُظمى الصاعدة بقوّة اقتصادياً وعسكرياً. فبكين من خلال تحالفها مع روسيا تسعى أيضاً إلى كسر الهيمنة الأمريكية وإنهاء مرحلة القطب الأوحد وإعادة تشكيل النظام الدولي سياسياً واقتصادياً على قواعد تأخذ بعين الاعتبار التبدّلات الجوهرية التي أصبحت سائدة في العالم، ولا تتيح لأمريكا الاحتفاظ بفرض سيطرتها وقوانينها وإملاءاتها على الآخرين.
هذا هو الجوهر الحقيقي لاحتدام الصراع اليوم بين أمريكا وحلفائها من جهة، وبين روسيا والصين وحلفائهما من جهة أخرى، إنه صراع المصالح والهيمنة على الثروات وطرقات الإمداد والتجارة الدولية، ولم تَعُد أمريكا تملك التفوّق الاقتصادي والعسكري الذي يُمكِّنها من إخضاع العالم. فالصين مثلاً باتت بالأرقام الاقتصادية الحقيقية تتصدّر القمة، وهذا ما يدفعها لتطوير قدراتها العسكرية لحماية مصالحها وخطوط إمداد النفط وتجارتها وإعادة إحياء طريق الحرير الذي يُشكِّل علامة من علامات الازدهار عبر التاريخ بين الصين والدول الواقعة على ضفاف هذا الطريق.
إذاً، فإنّ انتقال الثقل في الاقتصاد العالمي من الغرب إلى الشرق، حيث تنهض دول إضافة إلى الصين، وتتقدّم اقتصادياً كالهند والبرازيل وروسيا وجنوب أفريقيا وغيرها، في مقابل تراجع أمريكا وبعض الدول الغربية، من حيث الحصة التي كانت تحوز عليها من الناتج العالمي، يجعل من المستحيل أن يستمرّ النظام الاقتصادي والنقدي العالمي على ما هو عليه الآن من هيمنة أمريكية، وبالتالي لا بُدّ أن يحصل تغيير في هذا النظام ينسجم مع هذا التحوّل في موازين القوى الاقتصادية، واستطراداً العسكرية والسياسية انطلاقاً من أنّ السياسة هي التعبير عن المصالح الاقتصادية.
لهذا، لن ينتهي الصراع المحتدم اليوم بين روسيا والصين من جهة، وأمريكا والدول الغربية من جهة ثانية، ما لم تحصل عملية إعادة تشكيل النظام الدولي، بحيث يعبّر فعلياً عن موازين القوى الجديدة على المستوى الدولي.