المدنية قيود.!
د. صادق القاضي
القرود حرة، والحشرات كذلك، وربما بسبب هذا ما تزال قروداً وحشرات، ولو أن هذه الكائنات كانت تملك قدراً كافياً من الوعي، لتقيدت بالتزامات معينة، وبالتالي، كوّنت دولة، وتمدنت، وأصبحت كائنات راقية. الإنسان هو الحيوان الوحيد المقيد، لقد تأنسن البشر بالقيود، أكثر مما تأنسنوا بالحريات، وما زالوا يتأنسنون، باطراد في ظل الأوامر والنواهي والقيود المتزايدة للدولة والمدنية والحضارة الحديثة. الدولة تجبرك على دفع ضريبة ما كسبته بعرقك، والمدنية تفرض عليك التزام إشارات المرور في الطريق العام، الدولة تسلبك، والمدنية تكبلك ببروتوكولات، وتعقيدات وضغوط هائلة.! كان العرب قبل الإسلام، يعيشون حياة النوارس، من حيث التماهي في بواديهم وقفارهم مع الطبيعة والانطلاق الحر، والنفور من القيود والالتزامات.. وهذا ما لاحظه كبار مؤرخي اليونان واللاتين، فأشاد المؤرخ الأغريقي “هيرودوتس”، في القرن الخامس قبل الميلاد، “بحب العرب للحرية، وحفاظهم عليها”، ووصف المؤرخ اليوناني “ديودورس الصقلي” العرب، في القرن الأول قبل الميلاد، بأنهم “يعشقون الحرية”، مضيفا: “إنهم لا يزرعون حبًّا، ولا يغرسون شجرًا، ولا يشربون خمرًا، ولا يبنون بيوتًا. ومن يخالف العُرف يُقتل”. لكن تلك الحرية الفطرية الطبيعية للنوارس، والتي يشغف بها الرومانسيون، لم تنتج للعرب لا دولة ولا مدنية ولا حضارة. كانت أكبر سلطة تبلورت عن ذلك النمط البدوي للعيش، هي القبيلة. عندما زُفَّت “ميسون ابنة بحدل الكلبيَّة” إلى قصر معاوية في دمشق، سرعان ما ضاقت بدمشق وبمعاوية وبالقصر، وحنّت إلى مضارب قبيلتها كلب، فقالت: لَبَيْتٌ تَخْفِقُ الأَرْواحُ فِيهِ .. أحَبُّ إليَّ من قَصْرٍ مُنِيفِ وأَصْواتُ الرِّياحِ بكُلِّ فَجٍّ .. أَحب إلي من نقر الدُّفُوفِ وكَلْبٌ يَتْبَعُ الأظْعانَ صَعْبٌ .. أَحَبُّ إليّ مِن هِرٍّ أَلِيفِ ولُبْسُ عَباءَةٍ وتَقِرَّ عَيْنِي .. أَحَبُّ إليَّ مِن لُبْسِ الشُّفُوفِ وخِرْقٌ مِن بَنِي عَمِّي نَحيفٌ .. أَحَبُّ إليَّ مِن عِلْجٍ عَلِيفِ ربما لا نجد في التراث العربي، وصفا للحرية الفطرية أكثر عمقا ولا صدقا ولا جمالا من أبيات هذه الأعرابية ميسون الكلبية، كانت حواضر العرب قد قطعت علاقتها بالبداوة، فيما ظل “الأعراب” في فيافيهم وقفارهم، بعيدا عن ضغوط الدولة وتعقيدات المدنية، محافظين على الحرية الفطرية القديمة المرادفة للبداوة وازدراء التحضر، والنفور المرتبك من المدنية.. ما حدث للعرب مع الإسلام، أن هذا الدين الجديد، دشن مرحلة الدولة والحضارة في حياة العرب، قائمة على الالتزامات والمسؤولية الفردية.. في قطيعة حادة مع الثقافة والوعي البدوي للحرية، وضمن نظام عقلي واجتماعي وسياسي مدعم بالقواعد والتعاليم والحدود والقيود.. الدولة والمدنية والحضارة أصلاً، ظواهر إنسانية قائمة في جوهرها، على أساس كونها سلطاتٍ وقيوداً.. وقبول الناس بها يعني تنازلهم عن جزء من حقوقهم الطبيعية وحرياتهم الفطرية لهذه السلطات، مقابل الأمن والاستقرار والرفاهية.