أبو الشهداء
أحمد يحيى الديلمي
في إحدى غرف المستشفى الجمهوري بصعدة لفت نظري رجل في مستهل العقد السابع أشعث كثيف الشعر متسخ الأظافر مع أنه يوم العيد إلا أنه يرتدي ملابس بالية متسخة ، مع ذلك عانقته لم أتأذ من الرائحة النتنة المنبعثة منه بعد عناق طويل سألته : ما اسمك ؟ نظر إلي ودمعت عيناه، بدأ المريض الذي أمامه يتحرك اعتقدت أنه لا يمتلك نقوداً رأيت جسمه النحيف جداً يرتعش . عرضت عليه المال صدني بقوة وغضب ، تساءلت مع نفسي: هل تربط الرجل علاقة ما بالشاب ؟ جاءت الإجابة سريعة من الممرضة الواقفة إلى جواري إنه والد الجريح سبق أن قدم ثلاثة قرباناً للحرية و الكرامة انشغلت الممرضة بتحريك الشاب الجريح يميناً ويساراً وملاطفته كأنه قريب عزيز عليها ترسل الابتسامات المحملة بالأمل لكأنما تبعث بداخله الإرادة وتبعد عنه الأوهام التي تحسسه بالعجز وتفقده الأمل .
اقتربت منها سألتها مما يشكو ؟ لم تهتم بالسؤال ظلت تحرك الشاب ببطء وعيناها على الأب . الحركة شدتني، رأيت الدمعات متحجرة فوق المآقي، دفعني الفضول لأقول: لا تقلق يا أخي ابنك سيشفى بإذن الله . نظر إلي شزراً وأنفاسه تكاد تنقطع من شدة التعب ظللت أتفحص وجهه المتهالك وأسدد إليه نظرات حزن وانكسار كنوع من المواساة ومشاركته المأساة ونظراتي مسددة نحوه تبحث عن الإجابة لكنه كان مستغرقاً في النظر إلى الممرضة وهي تبذل كل طاقتها لإنقاذ الشاب .
فجأة ازدحمت الغرفة بالزوار من كل الفئات والأعمار محملين بهدايا العيد المختلفة، الوجوه تنبض بالكرامة والنخوة والأعين محلقة يتقاطر منها رحيق الرحمة والنظرات المفعمة بالأمل والرغبة الأكيدة داخل كل شخص أن يمتلك طاقة سحرية تمكنه من بلسمة جراحات الأبطال رجال الرجال من سقوا تراب الوطن بدمائهم الزكية ارتفعت الأكف نحو السماء تبتهل إلى الله أن يعجل بشفاء الجميع .
ضحك أحد الجرحى أطلق ابتسامة تحد قوية سرعان ما تحولت إلى ذهول واحتجاج، قال بصوت متهدج : يا إلهي لماذا أضحت أرواحكم خاوية إلى هذا الحد ؟ أدعوا بأن الله يعجل بعودتنا إلى جبهات القتال .
آه .. آه لو تعلمون مدى شوقنا ولهفتنا بالعودة إلى رفاقنا ، خرجت الكلمات من فم الشاب الجريح وكأنها سمفونية عذبة لا مست شغاف قلوبنا اتجهت النظرات نحوه محملة بدفء الإعجاب وكل معاني الإجلال والإكبار .
لفت انتباهي والد الجريح الأول لا تزال الدموع تتساقط من عينيه .. مددت يدي باستحياء أحاول مساعدته على الوقوف . أختنق بالعبرة مع أني نسيت السؤال ولم أعد أفكر في الإجابة إلا أنه لم يمهلني ، انطلق في الحديث كأنه حريص على البوح بأدق التفاصيل . قال بثقة بعد أن مسح الدمعات العالقة بعينيه بمنديل ورقي .
لست حزيناً لأن ابني محمد هذا يعاني من سكرات الموت نتيجة جرحه البليغ .. شرف كبير لي أن يلتحق بقافلة الشهداء بعد أن سفح دمه على تربة الوطن الغالي .. أنا حزين لأن عطاء أسرتنا سينقطع ، قبل تحرير أرضنا الغالية من الأعداء المحتلين قاطعته متسائلاً :
لماذا أليس لديك أولاد آخرون ؟
نظر إليّ شزراً وقال :
هذا ظلم هذا الكلام يوسع مساحات الوجع عندي ألا تشاهد الجروح من رأسي إلى أخمص قدمي كنت أحد جرحى معارك الحرب السادسة في جبل الدخان ، وعندما سمعنا نداء الوطن لبيناه كان عندي أربعة أولاد دفعت بهم إلى المعركة .. حسين استشهد في معارك الربوعة وعبد الله نال الشهادة في عتق شبوه . وحميد غاب عنا في ذلك اليوم اللعين الذي وطأت فيه أقدام الغزاة المحتلين عدن الغالية من تلك اللحظة لا أعلم عنه شيئاً .. لا أدري هل لا يزال على قيد الحياة ؟ أم أنه انضم إلى قافلة الشهداء الأبرار، أنا بعت لله نفسي وأولادي وحالي ومالي ، لم يبق سوى محمد الذي رأيته مسجى أمامك إذا فارق الحياة انقطع عطاء الأسرة سحقاً لهؤلاء الأعداء المجرمين سيحرموني أعظم أمل في حياتي أن أفوز بلقب أبو الشهداء .
أسأل الله أن يمن عليه بالشفاء ليظل عطاء وتضحيات أسرتنا وعطاؤها متدفقاً طالما استمر مسلسل جرائم الأعداء قائماً .