الحرف المهنية .. قنطرة التنمية ( 2– 2 )
أحمد يحيى الديلمي
تجارب ذاتية
الأولى موغلة في القدم :
من يتصفح كتب التاريخ لا شك أنه سيقف أمام تجربة ذاتية اهتدت إليها دولة معين اليمنية قبل آلاف السنين ، رغم أن اليمن تشتهر بالزراعة إلا أن من أسسوا دولة معين اتجهوا إلى الصناعة والحرف المهنية، على وجه الخصوص الصناعات الصغيرة المتمثلة في أدوات الزراعة وابتكار آلات لتقطيع وتغليف المواد القادمة من آسيا وإعادة تصديرها إلى الغرب وابتداع أول تجربة لفن التسويق مما أعطى اليمن شهرة واسعة ووفر السيولة النقدية التي منحت دولة معين والدول التي أعقبتها القدرة على التغلب على شحة المياه من خلال التوسع في بناء السدود والحواجز المائية ومن ثم الانتقال إلى المرحلة الثانية بالتوسع في الزراعة .
الثانية تجربة حديثة ماثلة في الواقع :
أثناء زيارة خاطفة لمصنع التناوير والأواني المنزلية في منطقة سعوان أدركت مدى أهمية وجود الإرادة والتصميم لدى أي شخص وإصراره على إنجاز شيء في حياته .
لا أخفي لقد انتابني الدهشة وأنا أتجول في أروقة المصنع والسبب أني كنت مطلعاً ومتابعاً للفكرة منذ كانت في المهد كان صاحب الفكرة الصديق العزيز محمد محمد يحيى العودي موظفا معنا في وزارة الإعلام والثقافة في القطاع الثقافي .. خلال زمن الإبداع في منتصف السبعينيات من القرن الماضي فلقد أزدهر المسرح وكان الأخ العودي ومعه محمد محسن الشهاري معنيان بتركيب الديكور للمسرحيات . في أحد الأيام التقيت الأخ محمد في منزل الأستاذ المرحوم / محمد عبدالوهاب جباري وزير الاقتصاد والصناعة آنذاك ، تركز الحديث حول خطورة الإسراف العشوائي في استخدام الحطب لإنتاج الخبز المنزلي والضرر الكبير على البيئة جراء هذا الإسراف، فالمواطنون في المناطق القريبة من الغابات يقتطعون الأشجار المعمرة التي مضى عليها قرون دون التفكير في إيجاد البدائل ما سيحول الغابات إلى مساحات جرداء قاحلة ، تشعب الحديث حول البدائل المتاحة ومنها إيجاد تناوير تعمل بالغاز كان مهندس الديكور الوحيد الذي ألتقط الفكرة وترسخت في ذهنه .. لم يمض سوى شهور لألتقيه في وزارة الاقتصاد والصناعة يقدم للمختصين نماذجاً مختلفة لتناوير الغاز التي سينتجها وبعد أن حصل على الترخيص المطلوب كانت البداية متواضعة هي عبارة عن صندقة صغيرة في منطقة حدة بداخلها آلات بدائية ، ومع أنه قضى ردحاً من الزمن في أروقة المحاكم يدافع عن ابتكاره مع أنه سجله لدى الجهات المختصة المعنية بحماية الملكية الفكرية وحصل على براءة اختراع من جهات خارجية معنية ، مع ذلك لم يسلم من السطو وتقليد المنتج من أصحاب ورش محلية مما دفعه إلى المطالبة بالحماية ولجأ إلى القضاء .
لأن الفكرة فكرته ترتبط بإلهامه الذاتي لم تثنه المنغصات، والعراقيل العارضة عن التوسع في الإنتاج وتطويره كماً وكيفاً وهذا مبعث الدهشة وما دفعني إلى استعراض مرحلة البداية وظروف البلاد لا بقصد الدعاية أو الترويج ، فالرجل بات علماً في هذا الجانب خاصة بعد توسيع الإنتاج وتحسينه ووصوله إلى الخليج وعدد من الدول العربية، فالقصد مما أسلفنا ، تقديم نموذج وتجربة ناجحة بدأت من الصفر فربما ترسخت في أذهان الشباب وكانت منطلقاً للإلهام وتحريك المواهب الذاتية خاصة لدى خريجي معاهد التعليم التقني وكليات المجتمع عل أحدهم يهتدي إلى فكرة مماثلة منطلقاً من قناعة مفادها أن المشاريع الناجحة هي التي تبدأ صغيرة ثم تتدرج وتصل إلى قاعدة إنتاجية كبيرة تضاف إلى موجودات الاقتصاد الوطني الثابتة . كما هو حال المصنع الذي أسلفنا الحديث عنه فلقد بدأ بورشة خراطة صغيرة وانتهى إلى مصنع كبير خلال مدة زمنية منذ اكتملت الفكرة عام 1985م .
في ظل وجود الإرادة القوية استمرت عملية التطوير والتحسين إلى أن وصل المصنع إلى ما هو عليه وأدخل خطوطاً إنتاجية جديدة للأواني المنزلية .
أما الرسالة الأهم، فهي لوزارة التعليم المهني والتقني فنحن البلد الوحيد الذي أنشأ وزارة مختصة بالتدريب والتأهيل المهني وأصبحت تدير مئات المعاهد التقنية والمهنية إضافة إلى كليات المجتمع بقصد إيجاد الكوادر الوسطية لما تمثله من أهمية في رفد سوق العمل بكوادر مؤهلة على أكمل وجه . لإدارة عجلة التنمية في كافة المستويات ومن ثم يمكننا الاستفادة من تجارب الدول الناجحة في هذا الجانب إضافة إلى الاستفادة من تجارب الأجداد العظماء عبر المزاوجة بين المضمون الحضاري الموغل في القدم المتجذر في الواقع والتجارب الحديثة بشقيها المحلي والخارجي وعكسها في خطط عملية كفيلة باستقطاب الشباب إلى مشاريع إنتاجية ناجحة تدخل في نطاق الحرف المهنية أو الصناعات الصغيرة وتذليل كافة الصعوبات بما في ذلك توفير مصادر التمويل اللازمة وإقامة مدن صناعية في كافة محافظات الجمهورية بإحياء الفكرة التي كانت قد بدأت في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، حيث تم إنشاء مؤسسة خاصة بهذا الجانب لولا تدخل المافيا الخاصة التي سطت على الأراضي المحجوزة وعطلت نشاط المؤسسة والمطلوب إعادة إحياء الفكرة اليوم أكثر منه بالأمس ، إذ لا يُعقل أن يظل الخريجون يتزاحمون أمام مكاتب الخدمة المدنية للحصول على وظائف، فالدولة مهما بلغت إيراداتها غير قادرة على استيعاب عشرات آلاف الخريجين الذين تقذف بهم مؤسسات التعليم كل عام . وهذا يعني أن المخرجات السنوية تُضاعف المشكلة نتيجة تصاعد أعداد البطالة المقنعة .. بقيت نقطة هامة تتعلق بتأفف بعض الخريجين عن امتهان حرف بذاتها استناداً إلى ثقافة وموروثات اجتماعية مجحفة ، الأمل أن يجد هذا الكلام آذاناً صاغية وأن ننطلق من المسؤولية الوطنية التي تحتم على الجميع البحث عن كل مفيد ومجد للاقتصاد الوطني . والله من وراء القصد ..