العدوان على اليمن.. الأبعاد والتداعيات “8”
عبدالله عبدالرحمن الكبسي
وهنا يجدر بنا أن نتوقف مليا عند هذه التجربة الفذة والفريدة من نوعها في التاريخ المعاصر القريب على مستوى اليمن خاصة، والمنطقة العربية عموما ليس لمجرد الارتباط العاطفي العميق بهذه التجربة الرائدة، وتعلق الخاطر من تبرجاتها الإنسانية بأحرِّ الذكريات وأجملها، مثلما هو حال الملايين- من أبناء اليمن الذين عاصروها وعايشوا إنجازاتها وحسب.
ولا لأنها كانت ومازالت تمثل النموذج الأبهى والأروع- الذي لامس أوجاع اليمنيين جميعا، والذي لربما قصرت الآمال – قبله – عن مشارفة آفاقه الرحبة باتساعها العبقري المدهش لمستدف الخواطر الإنسانية الحالمة بـ(الأفضل والإكرام) وطنياً وعربياً، وإسلامياً أيضا.
وإنما – لأنها كانت ولم تزل وثيقة الصلة والتعلُّق الحميم بمجريات العدوان الهمجي – الواقع على بلادنا اليوم، نظراً إلى امتدادها الموضوعي في صلب المشهد الثوري الذي تعيشه اليمن منذ الانتفاضة المباركة في الـ(21 من سبتمبر عام 2014م)، كما هي كذلك في خلفية العدوان وبواعثه المحركة تشابها ومماثلة.
لقد أدرك الشهيد العظيم والزعيم اليمني الأكثر شهرة وشعبية (إبراهيم محمد الحمدي) رحمه الله، ومنذ وقت مبكر استحالة النهوض باليمن وبناء دولته المدنية الحديثة ما لم – تمتلك اليمن قرارها، وتتحرر تماماً من ربقة التبعية والإرتهان للخارج – الإقليمي والدولي – فكان أن عَمَد رحمه الله، وفي إطار مشروعه الاستراتيجي للتصحيح المالي والإداري – المنفذ آنذاك بوتائر عالية ومتسارعة في جميع وحدات الجهاز الإداري العام للدولة – بكافة مكوناته المدنية والعسكرية. (14)
عَمَدَ إلى – تحجيم وتحييد – رموز الإقطاع السياسي العشائري النافذة في شؤون الحكم والدولة عموماً آنذاك – مندداً بحزم وفي أكثر من مناسبة بعلاقاتهم المشبوهة بالخارج، الأمر الذي حمل في طياته رسالة واضحة الحروف والمقاصد لهذا الخارج نفسه بعدم مقبولية مثل هذه العلائق الشاذة في أعراف الدول والتدخل المحرم – دستورياً – في شؤون اليمن عبر تلكم العلائق إياها.
ومن هنا – ولأن ذلك الخارج المعني بفهم تلك الرسالة اليمنية الجادة والحاسمة، وفي الطليعة منه – مملكة آل سعود – الجارة قد قرأ الرسالة جيداً واستوعب ملحوظها تماماً وبشكل لا يُبقي مجالاً للشك والتَعَسِّي بشأن مرادها الجاد والمُصمِّم، فقد عَمَد سريعاً، وأعني ذلك الخارج الذي شكلت المملكة عنوانه الأساس، وواجهته الأبرز (15) إلى التآمر العميق بغية وأد المشروع النهضوي لليمن في مهده، وقطع الطريق كلياً أمام المحاولين في مضماره قبل أن تترسخ عُمُده ومداميكه وعلى النحو الذي يصعب معه النيل منه والقضاء عليه فيما بعد.
وهكذا اتجهت المؤامرة الخبيثة مباشرة – وعبر ما اعتبرته الطريق الأخصر والأقل كلفة – إلى تصفية رمز ذلك المشروع الكبير ومؤسسه العظيم الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي في قصة مأساوية محزنة، فيها من خسة الطباع وانحطاط المشاعر لدى المتآمرين، من الداخل والخارج، ما يجعلها بحق بمثابة الخدش القبيح في الضمير اليمني، والجرح الدامي العميق في صميم الكرامة الوطنية، تماماً مثلما هو الحال من حقيقة هذا العدوان الهمجي على بلادنا وخسة المنخرطين فيه من الداخل والخارج سواء بسواء.
تغلغل النفوذ السعودي في اليمن على خلفية اجهاض مشروعها النهضوي
بتصفية الزعيم التاريخي العظيم ابراهيم الحمدي، تمكن النظام الوهابي السعودي، من إعادة ترتيب أوراقه في شمال اليمن (الجمهورية العربية اليمنية) وفرض ملحوظه التآمري المعادي لتقدم اليمن وامتلاك قراره السياسي كأولوية مطلقة تتماشى في حقيقة الأمر مع فحوى الملحوظ الأمريكي للهيمنة على المنطقة، وربط اليمن سياسيا واقتصاديا وأمنيا بمنظومة الاتباع والموالاة مستفيداً في الوقت عينه – أي النظام السعودي – من توجه النظام الانقلابي – الذي صنعه الخارج بيده وعلى عينه – إلى طمس معالم الألق والتوهج الوطني في التجربة الثورية لمرحلة – الثالث عشر من يونيو التصحيحية- وإهالة التراب على ذاكرها العطرة في الوعي الوطني، وتجاهل إنجازاتها التنموية المذهلة، هذا من جهة.
ومن أخرى فلعل حاجة السلطة الجديدة إلى استقطاب دعم ومؤازرة مراكز القوى – القبلي والسياسي – التي استعادت مكانتها سريعاً، والترويج لنفسها في الساحة المحلية بسوادها الأعظم – السياسي والشعبي – الذي تجهمها بداية وأثار الكثير من الأسئلة حول مأتاها – قد مكن – في سياق تفاصيله الكثيرة – للنظام السعودي من توسيع نطاق حضوره – المُوَجِّه والمُرَاقب – في مسار المجريات وطبيعة مقاصدها وتوخياتها القريبة والبعيدة وعلى شتى المناحي والمستويات، ملاحظاً هنا، بل محاذراً على الدوام عدم تكرار تجربة الشهيد – الحمدي – ولا سيما بعد محاولة – الانقلاب الناصري – الذي تبدا وكأنه يتغيَّا العودة بالبلاد إلى نفس التجربة ووضعها مجدداً على نفس المسار”16″.
من أجل ذلك – وضمن سعيها المحموم لحشد المزيد من وسائل التأثير والسيطرة – المادية والمعنوية – لاحتواء اليمن، ووضعه في السياق المناسب من ملحوظها المنفتح على أفق واسع من شؤونه المختلفة – فقد اتجهت السياسية السعودية منذ ذلك التاريخ تقريبا إلى إدخال العامل الديني ببعده المذهبي الوهابي وتوظيفه في تعزيز الهيمنة على اليمن وإحكام السيطرة على قرارها ومستقبل أجيالها من خلال تصدير الفكر الوهابي التكفيري الذي جعل في أولويته خلخلة البنية الثقافية التاريخية للمجتمع اليمني بكل فئاته، وألوانه وعناوينه المذهبية وذلك ضمن التفاتة النظام السعودي القوية إلى إحياء دور – المؤسسة الدينية الوهابية – وتوسيع آفاق نشاطها الدعوي تزامناً مع تطلع النظام السعودي نفسه إلى تعزيز دوره السياسي ومكانته الدينية المستمدة من رعايته للأراضي المقدسة في – مكة والمدينة المنورة – وبخاصة مع انتصار – الثورة الإسلامية الإيرانية – واستقلال الكثير من الجمهوريات الإسلامية بعد تفكك الاتحاد السوفياتي آنذاك.
وهكذا – ومع ملاحظة أن النزوع السعودي المحموم للزعامة والتسيد في العالمين العربي والإسلامي إنما يستبطن في أخص بواعثه الذهنية والنفسية محاربة النفوذ – السياسي والأدبي – للثورة الإيرانية، أو معادلته بالأٌقل، ومن خلفية طائفية عنصرية، ومذهبية وهابية غير منبتة الصلة في الأرجح ببعض الدوائر الاستخباراتية التابعة للدول الاستكبارية المعادية لإيران ونهجها التحرري المناهض للهيمنة الاستكبارية والفاعل جداً على الخط الكفاحي المعبر عن هوية الأمة، وهمومها الحقيقية الكبيرة.
أقول: وهكذا بدأت اليمن تستقبل طلائع التبشير الوهابي الجاهزة والمزودة سلفاً بكافة وسائل التمكن والانطلاق المريح في مباشرة مهامها الدعوية عبر الرحلات المتنقلة لشيوخها فيما بين المدن والحواضر اليمنية الكبيرة تزامناً مع الشروع في تشييد المدارس التعليمية التي استقطبت العديد من العرب – مصريين وسودانيين – للتدريس فيها، مثلما اتسعت فصولها سريعاً لاستيعاب مختلف الجنسيات الإسلامية – آسيويين وأفارقة – للدراسة فيها، وخصوصاً منها – مركز دار الحديث – الذي أسسه الشيخ مقبل الوادعي في منطقة – دماج – على بعد بضعة كيلوات من مركز محافظة صعدة عقب عودته من مملكة آل سعود في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي.
على أن هذا المركز الدماجي سرعان ما تبعه وتناسخ منه العديد من أمثاله تواكباً مع إرسال المزيد من مشائخ التحريض والإثارة الوهابيين أو تفعيل أدوارهم وتمييز هويتهم الفكرية بشكل واضح لا لبس فيه.
فكما انسل مركز – دماج – على التوالي ما أسمي بـ(جمعيتي الحكمة والإحسان) المضاف إليهما صفة – الخيرية – وهما في الصحيح مؤسستان دعويتان ما يميزهما عن المركز – الأب – هو اختلاف أسلوب العمل الدعوي واعتماده على تجنب الصخب والإثارة اللفظية في الممارسة.
فقد تتالى افتتاح المراكز المماثلة لمركز – دماج – في العديد من المناطق اليمنية كمعبر في ذمار ومفرق حبيش في محافظة إب والحديدة وتعز وحضرموت ..الخ، وأياً ما كان الأمر من مسألة الاختلاف والتباين بين هذه المسميات واتهام بعضهم البعض بالخروج على مرعيات العمل الدعوي السلفي واتباع طرائق الغواة والمفلسين بحسب الشيخ – الوادعي – وآخرين من اتباع مدرسته وأمثاله – هنا أو هناك – فالمؤكد أن جميع هذه المكونات وبلا استثناء ذات ارتباط وثيق بالمؤسسة الدينية الوهابية، ومن ثم بالأجندة والمخططات السعودية شاءوا أم أبوا، عرفوا أم لم يعرفوا سيان، كما أن الكثير منهم قد ظل يمارس دوراً تحريضياً وفتنوياً – تفسيقياً وتكفيرياً – ضد من أسموهم – الروافض والمبتدعة – في تناغم واضح مع اتجاهات السياسة السعودية المعادية لأنصار الله وبالذات إبان الحرب السادسة التي شنها – النظام آنذاك – على صعدة بمشاركة عسكرية مباشرة – جوية وبرية – من قبل نظام آل سعود كما هو معروف.
ومن هنا لم يكن مستغرباً أن يتمخض مركز دار الحديث بدماج على عهد رئيسه الخلف الشيخ الوهابي – يحيى الحجوري – عن – معسكر كتاف – المتاخم للأراضي اليمنية المغتصبة والذي استقطب لفيفاً من المرتزقة وشذاذ الآفاق من مختلف الجنسيات ويضمنهم الخبراء في صناعة الموت وإنتاج وسائله المختلفة الأشكال والتقنيات التي أراد شيوخ الضلال والفتنة أن يلقنوها لطلابهم ومريديهم كترجمة عملية – واقعية وموضوعية – لمحتوى المنهج النظري التكفيري وتجسيد – وهابي – صارخ لتوخياته الدقيقة ونظرته المفخخة بدواعي الحقد ونزعة الاستئصال.
هوامش:
(14)- ما يتعلق بهذا الهامش سيتم نشره في حلقة مستقلة آخر البحث.
(15) لئن كان آل سعود قد اضطلعوا بتدبير مؤامرة اغتيال الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي والإشراف على مراحل تنفيذها مباشرة فإن الذي لا ينبغي أن يخالجنا فيه أدنى شك : هو أن الإدارة الأمريكية وعن طريق استخباراتها المركزية قد كانت في صورة تلكم المؤامرة القذرة وفي خلفية حيثياتها العميقة الملحوظة لوجهة النظر الإستكبارية الطغيانية التي نقتل اليوم على ذمتها .
(13) عند ما نتكلم عن ذلك الانقلاب المؤود بل عن الوحدوي الناصري عموما فإنما نعني أن نتكلم عن أولئك الرجال العظماء الذين خاطروا بأرواحهم وقاموا بما قاموا به عن احتساب وقناعه أمثال (عيسى محمد سيف, عبدالله محمد الرازقي, محمد الفليحي, مانع عبدالله التام, عبدالسلام مقبل, السقاف, علي عباد السنباني, مهيوب العُرُفي, عبدالعزيز رسام ) إلى آخرين من رفاقهم الذين واجهوا قدرهم بشجاعة ورجولة مجتهدين في إيثار ونبل فريدين أن يتحملوا المسؤولية عن كثير سواهم ممن قادوهم أو اشتركوا معهم في ذلك العمل الخطير .
كما أننا لا ننسى بالمناسبة الذين كتبت لهم السلامة من القادة الناصريين الإعلام وفي طليعتهم ( عبدالله سلام الحكيمي, حاتم أبو حاتم, نصار علي حسين, محمد محسن الرداعي, عبدالله العليبي, عبدالقدوس المضواحي, محمد علي الضوراني )
وغيرهم كثير ممن لا تحضرني أسماؤهم فضلا عن أن المقام لا يتسع لمجملهم بالتأكيد.
فهؤلاء واضرابهم ممن قدموا نفسهم قربانا بما آمنوا به, أو ظلوا على ولائهم لقناعاتهم ومبادئهم : هم وحدهم الذين يستحقون التمجيد والإجلال, ودعك من أولئك الأدعياء والمناطقيين الذين أجهدهم السير فتساقطوا تباعا في المنحنيات المختلفة بل وتحول نماذجهم الأجد سقوطا وخزاية إلى – أبواق رخيصة ومحتقرة في ماكينة العدوان – الرجعي الاستكباري على اليمن الأبي الصامد ولا قرَّتْ أعين المتخاذلين الحقراء .