الحاضن الثقافي في الخطاب الشعري

في كتابه “الطبع والتطبع في الخطاب الشعري القديم”، يعرض د. محمود عبدالحفيظ الأساليب الشعرية ولغة النص الشعري، وتحولات شعرية حول الطبع والتطبع من خلال طرائق وأساليب متعددة للشعراء، منها ما تجلى مفردة لتكون شاهدة على ما يعالجونه من قضايا ومضامين تخص الطبع والتطبع، أو مقطوعات وقصائد كاملة يخصصونها لهذه التجربة.
ومن خلال صفحات الكتاب، خلص المؤلف إلى أن كل شاعر قد استطاع معالجة غرض (الطبع والتطبع) وفق رؤيته الفريدة وأسلوبه التشكيلي الخاص، ومن خلال توظيف خبرته بتراثه وقدرته على توظيف هذا التراث الفكري والفني، وتحويله لأشكال فنية خلابة وطرائق أسلوبية جذابة.
وفقا لما جاء في الكتاب، فإنه على الرغم من شيوع تجربة الطبع والتطبع في الشعرية العربية، إلا أن المؤلف قدم تجربة جديدة للمكتبة العربية من خلال هذا الكتاب، بأن تتبع شعرية الطبع والتطبع وتحولاتها الأسلوبية والتشكيلية والدلالية عبر أشكال جمالية ومعرفية مختلفة مرت بها هذه الحالة الشعرية.
وعالج المؤلف ما يوصف بـ (الشعر الطبعي) تبعا لمعاني النحو ونظم الأسلوب كما تجلى في الخطاب النقدي العربي لدى عبدالقاهر الجرجاني والباقلاني والزمخشري وغيرهم، مستفيدا من جماليات وأساليب الاعتراض والاستفهام والشرط، وغيرها من الأساليب العربية الخلاقة، كما قدم المؤلف مقاربات معرفية تتعلق بـ (حتمية الطبع وتحولات أساليبه)، بالإضافة إلى معالجة قضية (الظاهر والباطن) و(إظهار التطبع وإخفاء الطبع).
وفي هذا الصدد، فإن المؤلف أشار إلى ملاحظته لغلبة مفردات بعينها، فوقف أمام قدرتها على الإيحاء بـ (الجمالي والثقافي)، وخص المؤلف ما يعرف بـ (شعرية التجلد) بفصل خاص، على اعتبار أن هذه الشعرية تخص تجليات الظاهر والباطن، كما ختم المؤلف كتابه بقراءة نقدية أسلوبية وثقافية لدى شاعر واحد هو (ابن الرومي)، حيث تجلت هذه القضية برمتها في ديوانه الضخم تجليا جماليا ودلاليا متمكنا، وحيث استعان المؤلف في هذا الإطار بآراء الأساتذة والنقاد في شعرية ابن الرومي خاصة عباس العقاد وشوقي ضيف، وخلص المؤلف في هذا الإطار إلى أن (ابن الرومي) يميل إلى (شعرية المنطق) وفقا لما يقوله المؤلف، وإن لم تغب عنه شعرية البلاغة.
• مقولة النثر
ومن خلال صفحات الكتاب، نلاحظ أن المؤلف اجتهد في أن يستخلص مادته الشعرية من بطون كتب الأدب ودواوين الشعر وكتب المفكرين والفلاسفة والمؤرخين وعلماء النفس والتربية والسياسة والاجتماع، وحتى لدى الشراح والفقهاء والمفسرين، وحيث يمكن القول بأن المؤلف اجتهد في محاولة بحثية مضنية لتكوين تصور نظري يكون أقرب للوضوح والتماسك، وهو ما ظهر من خلال الفصل الأول من الكتاب، ومن خلال عنوان هذا الفصل: (مقولة النثر – البحث عن نظرية)، ويمكن القول بأن المؤلف قد استطاع من خلال هذا الفصل أن يركب تصورا نظريا ومعرفيا متماسكا، أشبه بالرؤية الفلسفية والحضارية الكلية في رؤية عالم الطبع والتطبع في الثقافات العربية بصفة عامة.
واختار المؤلف أن يوظف مناهج نقدية متعددة بغية التعرف على شعرية الطبع والتطبع في خطابنا الشعري القديم، كما آثر أن يقع الخطاب النقدي الثقافي على رأس هذه المناهج، حيث بمقدور هذا النقد كما يرى المؤلف مستندا لقول أرثر أيز برجر في مؤلفه “النقد الثقافي” أن يشمل نظرية الأدب والجمال والنقد، وأيضا التفكيك الفلسفي وتحليل الوسائط والنقد الثقافي الشعبي، وبمقدور هذا المنهج أيضا أن يفسر نظريات ومجالات علم العلامات، ونظرية التحليل النفسي، والنظرية الماركسية، والنظرية الاجتماعية، والأنثروبولوجية، ودراسات الاتصال، والبحث في وسائل الإعلام، والوسائل الأخرى المتنوعة التي تميز المجتمع، والثقافة المعاصر وغير المعاصرة.
ومن خلال تطبيق هذه المناهج، يؤكد المؤلف أن الشكل الأدبي أو النوع الجمالي أيا كان شكله ونوعه وجنسه، هو في الأساس سوسيولوجيا تسير في اتجاه مواز لمسار النص، وهو ما يعني في اتجاه آخر أن ما يعتبره المؤلف بالوعي التاريخي والاجتماعي في النص الشعري، هو القوة الفاعلة الدائمة وراء تغير وتبدل الأطر والأشكال والرؤى المنهجية والجمالية والمنطقية والمعرفية.
• النظرية الأدبية
ومما سبق يؤكد المؤلف على أنه لا توجد ثمة معرفة جاهزة، بل إن كل نص هو في حقيقة الأمر طور التشكيل والتحور والتغيير، وكل شكل جمالي أو منهجي فيما يتعلق بالنصوص الشعرية التي عالجها المؤلف في كتابه، هو شكل حضاري واجتماعي في التحليل الأول والأخير.
ومن خلال هذا الجدل العميق بين النظرية الأدبية وطبيعة أنساق الحياة الحية، يظهر الحاضن الثقافي والوجودي للنص الشعري، وهو ما يدفع المؤلف لأن يؤكد على أن ما يحاول البعض الترويج له بوجود قطيعة تاريخية بين النص الشعري والتاريخ الثقافي الحاضن له، هو في حقيقة الأمر قطيعة مضللة بكل تأكيد، بل هي ليست قطيعة مضللة فقط، إنما هي غير ممكنة على المستوى المنطقي أو العقلي أو العملي.
وفي نفس الوقت، فإن المؤلف يسلم بتعدد صور العلاقات الجدلية المعقدة بين طبيعة المعايير الجمالية والمعرفية وطبيعة الواقع الثقافي والاجتماعي والحضاري الذي تنبع منه هذه المعايير، وتنبت فيه هذه المقاييس لتمثل في النهاية نمطا فكريا عاما للرؤية والحكم والتفسير والتخييل والاستشراف أيضا.
وهو ما يدفع المؤلف للقول أيضا بأن كل ولادة تشكيلية أسلوبية جديدة في الشعر هي مواز جمالي لمخاض ثقافي واجتماعي وتاريخي، وبالتالي فكما تعددت أشكال المخاضات التاريخية والثقافية والحضارية تعددت بالضرورة أشكال المخاضات الأسلوبية لشعرية الطبع والتطبع، وهو ما ظهر من خلال تتبع الشاعر لأشكال هذه الشعرية بتعدد الظروف والمعطيات الحضارية التي مر بها الشعر العربي من عالم البداوة والسلاسة إلى عام الحضارة والتطبع والتمدن.
يذكر أن كتاب “الطبع والتطبع في الخطاب الشعري القديم” للدكتور محمود عبدالحفيظ ، صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة ، ويقع في نحو 233 صفحة من القطع المتوسط.

قد يعجبك ايضا