سيرين حسن
ظلال الحقيقة
هذه الرواية هي سرد لعوالم ظِلالية يتداخل فيها الخيال بالواقع بالسحر, في لغة رصينة جذابة يظهر مستواها من الصفحة الأولى للرواية.. لغة فلسفية تطرح الكثير من الآراء والأفكار والأحداث, متمازجة مع حكايات شخصيات يقابلها البطل في أصقاع الأرض المختلفة.
هاكم بعض الأمثلة على نوعية اللغة الفلسفية التي أتحدث عنها.. في ص106 يقول بطل الرواية: لاشك أنني سأبلي حسناً.. لا شك في ذلك.. نعم لا شك..رددت كأنما أنا الشك.
و الشك موجود في فلسفة ديكارت التي تقول” أنا اشُك إذاً أنا موجود”.
وفي ص134 يقول: ترى ما عساه الفارق بين الحقيقة والوهم؟ أليس كثيراً ما تعبرنا أوهام نحسبها حقائق, وحقائق نحسبها أوهاماً؟! أترانا حقاً في هذا المكان؟! ألا يمكن للوهم أن يكون أقرب إلى الحقيقة من الحقيقة نفسها؟!.
وفي ص166 يتحدث الكاتب عن فلسفة الموت: أليس الحياة و الموت الخيارين الوحيدين الحقيقيين المتاحين أمامنا, ومادونهما مجرد افتراضات ليس من شيء يدل ليها قطعية.
الشخصيات: لقد استخدم ” كافكا” في رواية له الحروف عوضاً عن الأسماء, فكانت هذه الحروف كفيلة بالواجب وألغت التركيز الزائد على أسماء الشخصيات بقدر ما جعلت التركيز ينصب على الأحداث وصُلب السرد.. كذلك فعل وليد في اختيار حروف لشخصياته كحرف(ل) للبطل الرواي و(أ.ح) للشيخ و(ر) لفتاة.. كذلك استخدم الصفات للإشارة للشخصيات ( شيخي, ذو الوجه القنفذي, السمسار..وغيرها).
وهذا خيار اتخذه الكاتب ليخرج به عن المألوف في عالم الرواية كما فعل كافكا قبله.
العناوين: كانت العناوين في الرواية محظ تفكير ومخطط وفلسفة لاعشوائية, تتناسب مع المضمون و فكرة الرواية واذكر منها: غاية الخلاص- التجرد من التجرد.. الحكمة- إدراك الإدراك ..وكذلك العناوين التي اتخذت أجزاء من جسم الإنسان: الرأس, الجيد, الأمعاء.. الخ من العناوين الغريبة المغايرة للمألوف والتقليدي في الروايات.
زمن الرواية: انطلق الزمن من الحاضر ليحكي البطل (ل) عن رحلته مع الظِلال من الطفولة إلى الشباب, ورحلته إلى الهند و مصر
والعراق والسعودية عائداً إلى صنعاء(كأغلب الكتاب اللذين ينطلقون برواياتهم من صنعاء ليعودوا إليها), سارداً قصص الشخصيات الأخرى التي يقابلها على لسانها ليكون السرد بنفس النسق كخطاب مباشر للقارئ.. لكن زمن لغة السرد يتغير في بضعة مواطن معدودة بان يستبق البطل(ل) الحدث بقوله( سيحدث كذا أو كذا) مثلاً في ص 303 يقول: سيصلني خبر وفاة
والدي و أنا في قاعة الامتحانات في آخر العام الثالث.
ويتغير مسار الزمن أيضا في مواطن أخرى إلى الماضي ليحكي قصة إحدى الشخصيات كصاحب الدار الذي سكن فيه البطل (ل) في ص285.
ذكرنا وليد بمرور الزمن ونوه إليه بما يدل عليه من ألفاظ كقوله في ص 189: لاكتشف أن 6 اشهر انقضت لم اشعر بها.. وفي ص143 : تركت الأيام الثلاثة التي قضيتها في المحجوبة حضوراً طاغياً.. أو في ص 149: كنت متحرقاً لمن علقت أقدارهم بي زوجتي وطفّلي انقضى ما يزيد عن السنة وأنا غائب عنهم, وهذا التذكير بمرور الزمن يُبقي القارئ في المسار الصحيح لتحليله الذاتي و تساؤلاته عما أخذته الأحداث من وقت.
الحوارات: لغة السرد من الراوي الداخلي(ل) تخللها بعض الحوارات القليلة جداً و التي تعد على الأصابع مثلاً في ص 263, ص306 وص307.. ورغم قلة الحوارات إلا أن الكاتب استطاع أن يوفي الأحداث حقها بالوصف على لسان البطل.
كما لم يهمل وليد فكرة أن البطل يخاطبنا مباشرة وعليه أن يراعي وجودنا كقراء فتخلل النص بعض الجمل التي تذكرنا بمباشرة الحوار من (ل) إلينا.. مثلاً في ص151: قد يتساءل البعض عما إذا كنت احمل أو استخدم أياً من وسائل الاتصال الحديثة.
وفي ص 223 : ومن بين تلك الكتب لآخذ إلا ذلك لكتاب متوجهاً من غوري إلى ذلك المكان الذي لست من السذاجة بحيث أحدده هنا.
الحيّز أو المكان: لم يذكر الكاتب مكاناً أو بلداً إلا بالوصف والأسماء والتفاصيل التي ستكون كفيلة بحمل القارئ مع البطل في رحلته الغرائبية فيشعر مع البطل, يرى بعينيه, يقاتل الظلال معه, يغوص في الظلام ويغيب عن الوجود معه.
كانت الأماكن تلعب أدوار بطولة وتتآنسن بعض الجمادات في رواية دماج كما ورد في ص 135″ سريرها المختار بعناية وهي مسجاة عليه يبدو مغشياً عليه مثلها وشاحباً أيضا, حتى الجدران كذلك.
لم يغفل الكاتب عن سرد تاريخي لأصل الجفر وانتقاله على مر العقود من أيدي لأخرى, كما أورد شرحاً لأنواع الظلال وتلميحات في أكثر من موطن لماهية الظلال الموجودة حولنا والتي يعزو إليها بكل الكوارث والشرور, حتى الأوبئة الجديدة التي انتشرت مثل أنفلونزا الطيور, جنون البقر والإيدز ما هي إلا من فعل الظلال التي تنشر المرض لتتحكم بعدها في تسويق دواءه الذي لا يمتلكه سواها.
يقول الكاتب في ص 152: التحرر من روح القطيع المسيطرة على غالبيتنا, أليست روح القطيع ما يجعلنا نحن الأشخاص المستقلين ننقاد بلا وعي وراء أي سلوك جماعي حتى لو كان وهماً.. إن معظم من يصمهم الخاضعون ب (غرباء الأطوار) هم من يجترحون معظم التغيرات الحياتية ايجابية أم سلبية.. وهذه رسالة غير مباشرة كالكثير من الرسائل التي يسربها وليد للقارئ الفطن, لتكون روايته رسائل تحفيزية للتغيير والمقاومة وعدم أعطاء الظلال مساحة لتنمو فيها على حساب أرواحنا.
أعاد وليد ذكر حادثة “الكهف المنجوث” مراراً, ليبقى القارئ في شبكة رابطة مع بداية الرواية والحدث الأول فيها لينتهي إلى نفس الموضع في زمن دائري, ليترك القارئ مع ظله الذي أصبح أكثر وضوحاً, فيتلفت مع كل أشعة شمس تسلخ عن جسده ظَلاً يلاحقه ينتظر الفرار في عتمة الظلام.
Prev Post