وادي مذاب جنة في قلب الصحراء

دكتور/ ياسين عبدالعليم القباطي –
الحلقة الثامنة عشرة
في سائلة مذاب بالقرب من صحراء الجوف جدول مياه عميق كالنهر فيه برك عمقها متران تسبح فيها الأسماك º سيشبع سمك الصحراء جوع 40 مجاهدا من بيت أبوحسن وقرى آنس و10 مجاهدين انضموا اليهم من جربة الطلح º السمك وفير يسبح في البرك العميقة في صحراء اليمن ما أروعك يا وادي مذاب يا مغيث الجياع !!.
اصطاد المجاهدون ما استطاعوا من السمك وأشعلوا النار وقاموا بشوي السمك على الجمر وعاد الدليل بالتمر من قرية مقارض القريبة من الوادي وفيها سوق تحضر اليه قوافل الجمال التمر من حضرموت وبضائع من حريب ومارب وأحضر معه حليباٍ يحمله بقربة جلد فأكلنا السمك والتمر وشربنا حليبا لذيذا فكانت وجبة لطالما حلمنا بها في جربة الطلح رغم كثافة القادمين إليها من قبائل اليمن وجعلوا من واديها المقفر سوقا يطل عليه قصر سيوف الإسلام قصر عبارة عن حائط خلفه كهف عميق وخارجه ثلاث غرف مرتبطة بالكهف وهي مجالس سيوف الإسلام الذين يستقبلون المجاهدين ليعطوهم الذهب وتعليمات الحرب لإستعادة المملكة المتوكلية اليمنية من يد الكفار الفراعنة وأنصارهم من اليمنيين المسرولين الخارجين عن طاعة مولاهم الإمام . لم نشبع في جربة الطلح رغم الأسواق والذهب كما شبعنا في وادي مذاب الواحة الغناء وسط صحراء الجوف الذي تجري فيه الجداول وتنتشر على جوانبه الأشجار وتزرع فيه أنواع الحبوب وأشجار القطن وتمرح فيه الغزلان والوعول.
مكثنا بقية يومنا بجوار الجدول مستمتعين بصيد السمك والسباحة في ذلك الجدول وبتنا ليلة أخرى في السائلة وفي صباح اليوم التالي تحركنا منها نحو قرية ظهرت أمامنا º كانت تلك القرية احد حصون الملكية وقد أصبحت خالية على عروشها بعد أن كانت كما يظهر من جمال مبانيها عامرة حتى وقت قريب º الحصن المهجور مبني بحجارة ملونة حمراء يحيط به سور مرتفع بني بحجارة ضخمة مشذبة منقوشة وتدل الآثار على ان ذلك الحصن قد قصف قريبا بالطائرات فجدران القلعة محطمة وأسوارها منهارة فالقلعة تقع على ربوة وسط قاع مفتوح وتحيط بها أشجار السدر والاراك والطلح وتشرف على أرض واسعة حولها فهي إذاٍ هدف سهل لنيران الطائرات المصرية .
استمررنا في السير نبتعد عن تلك القلعة المقصوفة فوصلنا قبل مغرب ذلك اليوم الى بئر المهاشمة في حزم الجوف عاصمة حضارة معين وليس لدينا ما نأكله أمعاؤنا تتلوى من الجوع صلينا المغرب والعشاء وعلى بعد شاهدنا ضوءاٍ باهراٍ لم نره ولا عهدناه من قبل شرح لنا الدليل ( بأن مصدر ذلك الضوء الساطع يعود لمواقع الجيش المصري فلديهم مكائن تصنع ضوءاٍ باهراٍ يعمي العيون ) وطلب منا الدليل بأن نسرع لنمضي بعيداٍ والسير بالظلام فحاولنا اثناءه فقد بلغ بنا التعب مبلغه واشتد جوعنا ولكنه أصر على السير وقال ( اذا بقينا هنا الى الصباح فلن يدعنا المصريون نمضي وسنؤسر أو نقتل ولن نفلت من أيديهم) تسللنا في الظلام مبتعدين عن القلعة وعن معسكرات الجيش المصري المتواجد في حزم الجوف وسرت معهم على رجل محروقة مؤلمة وأنا متعب مستند في سيري على كتف أخي عبدالولي حتى صعدنا الجبل المؤدي الى عقبة الجوف .
سرنا طوال الليل على ضوء باهت من قمر يوشك أن يختفي ويتركنا للظلام º كانت اول مرة نواجه فيها مشقة السفر ليلا منذ خرجنا من بيوتنا º تحركنا مسرعين لا نجد ما نأكله يهلكني الجوع والتعب º وفجأة طلب منا الدليل بأن نكف عن السير وندخل للإختباء في احد الكهوف المظلمة كان الوقت متأخرا بعد منتصف الليل º لم يكن الكهف خاليا فقد وجدنا فيه احد البدو ولديه نصف كيس من الذرة اشتريناه منه بريالين º أفرغ المجاهدون الذرة في حوض وصبوا عليها الماء من قربهم الجلدية حتى رطبت وكان ذلك عشاء 50 مجاهدا كانت هي الوجبة الوحيدة لذلك اليوم حبوب ذرة نيئة مختلطة بالحصى .
نمنا حتى آذان الفجر فأيقظنا الدليل وواصلنا السفر قبل أن يبدأ القصف في ضوء النهار º فقد كانت طائرات الجمهورية تقصف تلك المناطق نهارا وتوقف القصف ليلاٍ .
وصلنا عقبة الجوف قبل الظهر º هي ليست بعقبة كإسمها بل قاع منبسط مساحته حوالي كيلومتر مربع وتحيط بها الجبال من جميع الجهات وتكثر فيها شجر الطلح وبعض أشجار الأراك والحشائش وحطب كثير مترام على الأرض القاحلة وكان أملنا أن نلتقي بمولانا الأمير محمد بن الحسين بن يحيى بن حميد الدين غير أنه لم يكن متواجدا عند وصولنا فقابلنا نائبه السيد بن إسحاق وهو خال الأمير رجل ضخم الجثة يلبس الثياب الملكية وقميصاٍ ناصع البياض وتوزة وعمامة (اعور العين).
استقبلنا ابن اسحاق بمكتب لا يعدو عن كونه كهفاٍ في احد الجبال المحيطة بعقبة الجوف وكهوف العقبة مثل كهوف جربة الطلح المتقدمة التي تستخدم كمقرات متأخرة لحكومة المملكة المتوكلية اليمنية كانت الكهوف مخازن للمحروقات وللاسلحة وللذخيرة وللمواد الغذائية ولزكائب المال والذهب عليها حرس شداد كما في جربة الطلح.
وبعد استقبالنا أمر النائب بصرف التمر والدقيق والمعلبات تونة وصلصة وفول لغذائنا وعلينا التصرف بالخبز والطبيخ وكان المجاهدون يقومون بصنع الخبز على تنور مصنوع من البراميل الحديدية º بعضهم يقوم بطباخة الأرز مع الصلصة كان النشاط والحركة في عقبة الجوف دؤوبة ومع تجمع المجاهدين في جربة الطلح أنشئت أسواق تحت الصخور الضخمةº صخور بارتفاع دورنا في آنس تحمينا تماما من قصف الطائرات وفي السوق يباع كل شيء يأتي من السعودية وكان غذاؤنا الأساسي خبزاٍ وتمراٍ أما الماء فكان غير كاف كان المصدر الوحيد للماء هو بئر واحد فقط.
يقضي المجاهدون نهارهم في الإستماع لنائب الأمير وهو يستقبل الوفود الواصلة من القبائل والبدو في ساحة العروض وعندما تأتي الطائرات كان الجميع يهربون الى المغارات هربا من رشاشات الطائرات وقذائفها وعندما تذهب الطائرات كنا نعود لممارسة أعمالنا اليومية العادية وفي احد الأيام سمعنا صوت طائرة قادمة من بعيد فنادى المراقب من فوق الربوة للاحتماء داخل الكهوف والمغارات º قصفت الطائرة المنطقة التي كنا فيها بالرشاشات والقنابل فأصابت إحدى الشظايا احد المجاهدين داخل الكهف وأردته قتيلا وقتلت أيضا حماراٍ كان متواجداٍ بقرب البئر فسقط في البئر وعند خروجنا من المغارات وجدنا جثة الحمار قد سدت البئر فنزل المجاهدون الأشداء على الفور الى البئر وربطوا الحمار بالحبال وقاموا بسحبه الى الخارج وبعد إخراج الحمار أصبح الماء ملوثا بروث الحمار ودمه فيا للمصيبة !! كان هذا البئر هو المصدر الوحيد للماء في المنطقة فشرب المجاهدون الماء ملوثا وانتشر الإسهال والحمى بينهم ومات ثلاثة من المجاهدين .
مكثنا في عقبة الجوف شهراٍ كاملا كنا نرى السيارات والشاحنات القادمة من نجران محملة بالأسلحة والذخائر يتم افراغ حمولتها في الكهوف وعندما نراها يتشوق الفتيان لاقتناء تلك الأسلحة التي قطعوا من اجلها مئات الكيلومترات لم يصرف لنا أي سلاح أو ذهب º كان املنا هو مقابلة سيف الاسلام بن يحيى حميد الدين الذي كان في نجران ولم يعد .
وكنت متشوقا للسفر إلى نجران لاكتشاف سر مرضي على يد أطباء مولانا الإمام النصارى .
وإلى الحلقة القادمة

قد يعجبك ايضا