معضلة الحراك الجنوبي
كريم الحنكي
تتمثل تجليات المعضلة الرئيسة التي يعاني منها الحراك الجنوبي في تبايناته العديدة والحادة أحياناً إزاء مختلف الأحداث والشؤون التي تمس قضية الجنوب، إلى جانب ما يسمه من ضعف بالغ في مساره السياسي مقارنة بمساره الميداني والجماهيري. أما معضلته الرئيسة نفسها والتي لم يستطع تجاوزها بعد ولم يظهر حتى ما يشير إلى إمكان تجاوزه إياها في المستقبل القريب، فهي حقيقة أن الحراك السلمي الجنوبي الذي مثَّل حاملاً ميدانياً شعبياً ناجحاً للقضية الجنوبية منذ 2007، لم يستطع حتى اليوم أن ينتج حاملاً سياسياً موحداً تنظيمياً يمكنه ادعاء التمثيل الشرعي لقضية الجنوب. فأقصى ما استطاع الحراك إنتاجه سياسياً هو الانقسام والتشتُّت في عديد من المكوِّنات السياسية الصغيرة، والمجهرية أحياناً، في معظمها؛ بينما الوازن منها لا يكاد يُعَدُّ على أصابع اليد الواحدة.
انقسم الحراك أساساً ومنذ سنوات إلى تيارين كبيرين: متشدِّد يلتفُّ حول محور التحرير والاستقلال، ومعتدل يلتفُّ حول محور تقرير المصير، بيد أن الانشطار قد أدرك كلا التيارين أو المحورين؛ لكنه بلغ بأولهما حد التشظي. فقد اكتفى بالعمل الميداني وبكونه الأقرب إلى العاطفة الشعبية وبالتالي الأوسع جماهيرياً فلم يقدم رؤية سياسية واضحة المعالم لبلوغ ذلك التحرير والاستقلال مع سلمية نضاله، وسرعان ما انقسم بين قيادتي “الرئيس البيض” و”الزعيم باعوم” ثم قيادات ومكونات أصغر؛ لينقسم بعد ذلك بين مؤيد لاستعادة دولة اليمن الجنوبي السابقة، ورافضٍ لهذه الاستعادة آخذاً التحرير والاستقلال صوب بناء دولة الجنوب العربي غير اليمنية مبرزاً إشكال الهوية الكفيل بتعميق الانقسام وتقويض قضية الجنوب برمتها. وتمثل هذا الفصيل في قيادة السيد عبدالرحمن الجفري وحزب الرابطة والمكونات المؤتلفة معه. وبرغم طول المساعي المتعثرة لعقد المؤتمر الجنوبي الجامع لقوى التحرير والاستقلال المختلفة والعديدة، فقد باءت بالفشل، لقيامها ربما على إقصاء تيار الاعتدال أولاً ثم إقصاء بعضها بعضاً بعد ذلك.
أما التيار الآخر الأقرب إلى العمل الدبلوماسي والذي تميز بتقديم رؤى سياسية موثقة لحل قضية الجنوب، فقد مثله المؤتمر الجنوبي الأول المنعقد في القاهرة 2011، بشعار “معاً نحو تقرير مصير الجنوب”، بقيادة الرئيسين علي ناصر وحيدر العطاس ومعهما محمد علي أحمد. لكن الأخير قد عمد إلى التحضير، بعد عودته إلى عدن، لإنشاء مكون جنوبي أوسع يوفق بين التيارين الدبلوماسي والشعبي، فأنتج في ديسمبر2012 رؤية المؤتمر الوطني لشعب الجنوب المنعقد في عدن بشعار “الحرية-تقرير المصير-استعادة الدولة الجنوبية المستقلة”. وهو المكوّن الذي انفردعام2013بتمثيل الحراك الجنوبي في مؤتمر الحوار الوطني الشامل المُقاطع من قبل مؤتمر القاهرة نفسه ناهيك عن مكونات التحرير والاستقلال.
على أساس من ذلك يمكن فهم التباينات والتناقضات كافة بين مواقف المكونات السياسية للحراك الجنوبي، من الحوار الوطني 2013، ومن الحرب الرسمية على القاعدة وتمدد اللجان الشعبية لأنصار الله حتى عمران وصنعاء وغيرهما 2014، ومن الحرب الراهنة منذ مارس2015،ومؤتمر الرياض في مايو؛ فضلاً عن لقاء جنيف التشاوري بين طرفيِّ الحرب اليمنية بملابساتها الإقليمية، منتصف شهر يونيو.فبينما تضمَّن وفد الطرف المشارك من صنعاء ممثلاً عن الحراك الجنوبي دون الوفد الآخر المشارك من الرياض، نجد لبعض قياديي المكونات الحراكية تصريحات للإعلام من مثل: “ننفي علاقتنا ومعنا المقاومة الجنوبية بأي ممثل باسم الحراك الجنوبي أو المقاومة الجنوبية في لقاء جنيف”، و”ننفي حضور أي تمثيل للحراك في جنيف”؛ بينما التزم الأكثرون الصمت حيال ذلك.
على أن أحداً لا يملك الحق في نفي صلة الأستاذ غالب مطلق بالحراك الجنوبي وتمثيله، وهو المعيَّن في الحكومة الأخيرة وزير دولة ضمن حصة الحراك، فقد كان أحد قياديي مكوِّن المؤتمر الوطني لشعب الجنوب المشاركين في مؤتمر الحوار الوطني وأحد أعضاء مجموعة مكاوي التي تمكن الرئيس هادي من شقها عن قيادة محمد علي أحمد، فخالفته عند انسحابه الشهير ومعظم من معه اعتراضاً على تقسيم الجنوب إلى إقليمين ضمن مشروع الفيدرالية اليمنية من ستة أقاليم الذي أصر عليه هادي. كما شارك مطلق في “حوار موفنبيك” الأخير بين القوى السياسية اليمنية والحوثيين، وكان ممن استمر في ذلك الحوار منشقاً على المكاوي الذي انسحب منه عقب استقالة رئيس الجمهورية ثم هروبه إلى عدن قبل اندلاع هذه الحرب.
يقول أحد ناشطي الحراك السياسيين: “ليس بإمكان أحد احتكار تمثيل الحراك الجنوبي أو نفيه عن أحد طالما لم يتوصل بعد إلى جسم قيادي موحَّد ومُعترَفٍ به يضطلع بذلك”.
ويعلل هذا القصور بأن:”النشأة السياسية المتشظية للحراك ولَّدت نزعة استئثارية لدى عديد من مكوناته وقياداته، نزعةً تنافسية إقصائية ستظل سبباً للتباين غير البنَّاء في ما بينها بحيث يلغي كل منها الآخر وينفيه وفقاً للأهواء والنوازع النفعية غالباً وتجاذباتها المحلية والإقليمية أحياناً؛ بصرف النظر عن اتفاقها أو اختلافها في الرؤى والأهداف العامة والوسائل”.
يفسر ذلك إلى حد ما اختلاف تلك التباينات منذ اندلاع الحرب التي أظهرت انقساماً عابراً لمكونات محوري التشدد والاعتدال الحراكيَّين كليهما: بين صامتٍ مترقب؛ وبين مؤيد صارخ لدخول الحراك السلمي في المقاومة المسلحة المشاركة في هذه الحرب بوصفها مفروضةً على الجنوب من قِبل الشمال، رغم أنها تقاتل في خندق واحد إلى جانب أنصار شرعية الرئيس هادي وحزب الإصلاح وعلي محسن والتنظيمات السلفية والجهادية والسعودية؛ وبين رافضٍ هامسٍ لمشاركة الحراك فيها بوصفها حرباً لا تعني الجنوب ولا تخدم قضيته أيَّاً كان الطرف المنتصر فيها، رغم كون محافظاته الغربية ساحة رئيسة لها.
فقد كان من اللافت اتفاق السيد البيض، “الرئيس الشرعي للجنوب” عند كثير من قوي التحرير والاستقلال، مع الرئيس العطاس -أحد أبرز قادة المحور الآخر- في مباركة “عاصفة الحزم” وتأييد التدخل العسكري السعودي لإعادة هادي، وبالتالي تثبيت الوحدة بالفيدرالية التي يرفضها محوره المتشدد.لكنه لم يشارك في مؤتمر الرياض الذي انفرد العطاس بحضوره من بين كبار قادة الحراك في الخارج والداخل، ليتساوى بذلك مع مستشار رئيس الجمهورية السيد ياسين مكاوي رأس المجموعة التي باتت تعرف منذ 2013 بوسم “حراك هادي”.وليصبح الرئيس العطاس لاحقاً مستشاراً رئاسياً هو الآخر.
وبقدر ما كان مثيراً للانتباه اختلاف موقف البيض عن موقف القطب الآخر لمحوره الزعيم باعوم الذي آثر الصمت احترازاً إزاء ما يجري، كان مثيراً كذلك اختلاف موقف العطاس ذاك عن موقف القطبين الآخرين في محور تقرير المصير ذاته، ناصر ومحمد علي أحمد اللذين لم يكتفيا بالامتناع عن تأييد عاصفة الحزم السعودية؛ بل طالبا بوقفها ووقف الحرب عموماً وانسحاب قوات الجيش وأنصار الله من الجنوب.
كان الأخيران هما الأقرب من بين قادة الجنوب وحراكه إلى تأييد لقاء جنيف الأول بالنظر إلى اتساق موقفيهما من الحرب والتدخل السعودي، وترحيب ناصر المعلن بالدعوة الأممية الموجهة إليه سابقاً لحضور حوار جنيف الذي كان مزمعاً في 28مايو الفائت، قبل أن يتم إلغاؤه؛ كما تم لاحقاً إفشاله المتوقَّع بعد تحويله إلى “مشاورات جنيف”في يونيو2015لينتهي إلى مفاوضات جنيف2 الذي تقرَّر عقده في هذه الأيام قبل أن تؤجله السعودية لعدة أسابيع على أمل أن تحقق فيها ما عجزت عن تحقيقه طوال سبعة أشهر كاملة من عواصفها التي قد ترفدها الآن باستراتيجيتها في سوريا.
ومع ذلك، فيبدو أن الانقسام -الذي ابتلي به الحراك الجنوبي- لم يوفر ناصراً وبن علي أخيراً؛ إذ يعزى إلى رئيس مؤتمر شعب الجنوب ما يشبه التخلي عن موقفه السابق من التدخل العسكري في الشأن اليمني الداخلي والمباركة المتأخرة للعاصفة؛ وذلك في بيان صادر عنه يوم الرابع عشر من أكتوبر 2015 بالتزامن مع الاحتفالية الهزيلة والمبتذلة التي أقيمت في عدن تحت صورة زعيمي التدخل الخارجي في اليمن: الملك السعودي والرئيس الإماراتي.