القبيلة.. بين جدلية الفكر وجودية الدولة
محمــد محمــد إبراهيـــــم
محمــد محمــد إبراهيـــــم –
كانت ولم تزل وستظل القبيلة والدولة في اليمن ركيزتين نديتين تشكلان عمق الجدلية التاريخية في التناول الفكري والاجتماعي للتاريخ السياسي اليمني.. لكنها ستبقى- رغم جدليتها التي شغلت الطبقة النخبوية فكريا واجتماعيا وثقافيا- معطى تاريخيا منشود الولاء ولبنة بنيوية في الأساسات الوجودية للدولة ولا تكتمل أركان الحكم والسيطرة والسلطة للدولة إلا بولاء القبيلة حتى ولو كان هذا الولاء يقود إلى اللادولة وهو ما مرت به اليمن منذ رحيل الوجود العثماني عنها..
يأتي هذا المشهد الدراماتيكي الذي تلعبه القبيلة في السلطة والحكم في اليمن منذ نهاية الدولة العثمانية على نقيض التاريخ اليمني القديم والوسيط حيث كانت تلعب القبيلة دورا بنيويا يفضي إلى إسهام فعلي في تشكيل ملامح الدولة اليمنية وحضارتها كقيم بنيوية نفعية للمجتمع وليس كقيم نفوذية وتسلطية دل على ذلك المعالم التاريخية في طول البلاد وعرضها من المدرجات وطرقات القوافل التجارية المعبدة ومحطات التوقف والراحة لهذه القوافل وصهاريج المياه التي تجدها في المراعي والغابات البعيدة عن التجمعات السكانية وفي مشاهد تعكس التماسك الذي كانت تعيشه القبيلة والحاكمية في البناء وليس في النفوذ.
الأهم من ذلك أن الحالة الطبيعية للتلازمية بين القبيلة والدولة هو أن تكون القبيلة تابعة للدولة مهما كان للأولى رموزها الكبيرة في تسيير شؤون الحكم.. ولعل هذا هو الفارق المنطقي الذي كان يثبت نفسه في الفترات القصيرة التي كانت تعرف بقوة الدولة عبر فترات التاريخ المعاصر-مثلا- ومن خلال محاولات طفيفة لتمدين القبيلة لكن سرعان ما تتمكن القبيلة عبر رموزها من تسيير شؤون الدولة حول محور القبيلة فتخرج الدولة بأسرها عن السياق بفعل مقاومة القبائل الأخرى وعلى شكل صراعات تفضي إلى صيغ جديدة تبدأ خطواتها بشكل صحيح وتستمر بقدر صلابة وحكمة الحاكم ومقاومته لنفوذ قبيلته عليه كحاكم في المقام الأول..
ومن يقرأ التاريخ يجد أن كثيرا من الحاكميات اليمنية المتعاقبة -بمن فيها الإمامة- حاولت الاتكاء على القبيلة كسند هام في الحكم والسيطرة وبعضها حاول ترويض القبيلة وتمدينها خصوصا مع بداية النظام الجمهوري لكن كانت الأمور تفضي إلى بروز القبيلة كقوة مسيطرة تنزع حاكما وتضع آخر مكانه نظرا لأن الرموز السياسية التي كانت تريد الوصول إلى سدة الحكم تنطلق من القبيلة مستدينة منها قوة القرار والنفوذ.. وبالتالي كان سداد هذا الدين يعكس نفسه على تقاسم النفوذ السياسي واستمرار الولاء..
الشاهد الأهم باتجاه الدولة بمفهومها النفعي والاجتماعي كان في محاولة الرئيس إبراهيم الحمدي إبعاد القبيلة عن الدولة وتعزيز قيم وجود الدولة بلحمتها مع الشعب على كل خارطة الوطن وقد عكس هذا التوجه الناجع نفسه في مشروع التعاونيات الواسع الذي جعل كل مواطن يلمس وجوده الاجتماعي والتنموي في ظل هذه الدولة التي وصلت إلى كل منزل وقرية.. لكن سرعان ما ثارت حفيظة القبيلة تجاه سياسة تمدين المجتمع بحضره وريفه خوفا من تحويل الرعاع إلى وجود بشري ينعم بوطن المساواة وأنه لا فرق بين الشيخ والرعية إلا بالقانون وكانت النتيجة استشهاد الرئيس إبراهيم الحمدي وبعده الرئيس الغشمي الذي ظل متحفظا تجاه عودة نفوذ القبيلة إلى مفاصل الدولة فارضا ثقافة الدولة بقوة أجهزتها الأمنية والعسكرية والمؤسساتية– رحمهما الله جميعا-..
بعد هذه التجارب المرة التي أفقدت اليمن معادلة الثقة بمشاريع الدولتية كان الحل الأمثل والحكيم- من منظور دولتي عميق وبعيد المدى- لمعضلة إفساد القبيلة لوجودية الدولة وسلطتها هو التعايش بين الدولة والقبيلة ومحاولة جر القبيلة ولو تدريجيا إلى مربع المدنية وكان هذا المشروع الذي تبناه الرئيس السابق علي عبدالله صالح ناجحا إلى درجة كبيرة جعلت الأفق الحاكمي أمام فرصة ذهبية لترويض القبيلة وتمدينها تجلى هذا في الثمانينيات حيث حصلت طفرة نشر التعليم في كل أنحاء اليمن كأساس متين لتنوير المجتمع وإذابة صخور القبائلية في مجتمع المعرفة سواء في جنوب الوطن أو شماله..
وبعد إعلان الوحدة المباركة ظل الجو مفسحا أمام الدولة الحقيقية بنظامها الواحد وظلت الجهود مستمرة لتمدين القبيلة.. لكن النظام السياسي أخطأ حينها بتوظيف القبيلة في الصراع السلطوي الذي أفضى إلى حرب صيف 94م واستفراد طرف بالانتصار للوحدة اليمنية المباركة لكنه استدان ولاء ومساهمة القبلية في صناعة هذا النصر فكان قضاء الدين في أن ظلت القبيلة مستحكمة بتسيير شؤون