وادي الضجوج
*وجدي الأهدل
إنه الوادي المخيف الذي لا أحد يجرؤ على الدخول إليه وكل من يصادفه في طريقه يلتف حوله ولا يعبره. كان هذا المكان المظلم حتى في وضح النهار – لتشابك أشجاره والتفافها حول بعضها بكثافة – مسكنا للجن وحتى أشجع الرجال لا يغامر بالدنو منه. يروي أهل الجبل واقعة (عبدالرحمن الدقداق) كموعظة لمن تسول له نفسه وطئ تراب الوادي المسكون. يقولون إن هذا الفلاح القوي البنية حمل فأسه ودخل وادي الضجوج وقت الزوال ناويا قطع شجرة شوحط وبينما هو يتحسس جذوعها ليختار أجودها ويصنع من خشبها هراوات يبيعها في السوق إذا به يلحظ جديا وبره أسود يجلس مقرفصا بهدوء على العشب. أعجب بقرنيه كانا مستديرين كهلالين يسلبان اللب من روعتهما. لاحظ أن الجدي كان ينظر إليه وعلى فمه ابتسامة بشرية! فكر عبدالرحمن في أخذ الجدي وقدر أن مذاق لحمه مطبوخا في القدر سيكون طيبا. اتسعت ابتسامة الجدي وامتدت إلى شدقه الأيسر وكأنه يسخر من الخواطر التي دارت في خلد عبدالرحمن. علق فأسه على أحد الأغصان وتقدم بثبات نحو الجدي انحنى وبسط ذراعيه ليحمله لمح عبدالرحمن تغضن جفني الجدي ونظرة نارية من حدقتيه ثم وثب عليه وضربه بأحد قرنيه على خده ولاذ بالفرار. ومنذ تلك الساعة عاش عبدالرحمن ألوقا.
في الليل تشاهد قرى الجبل أضواء فوانيس تومض كالنجوم من وادي الضجوج وراقب القرويون أشكالا محددة كانت تتكرر نمطيا. الحاج (حيدر أبوالوقت) الذي له بصر بعلم الفلك أخبرهم أن الجن يرتبون فوانيسهم في الوادي كما تتوضع في السماء نجوم برج الجدي.
في النهار يسمع الناس باستمرار صوت امرأة تطلق صرخة رهيبة طويلة ترجف لها القلوب “آآآآووووم”. الصرخة في بدايتها قوية جدا ثم تخفت بالتدريج وكأنما صاحبتها قد تردت من شاهق إلى قعر وادي الضجوج. فجأة ودون أي ارتباط بوقت محدد تردد الجبال صدى صرخة المرأة الساقطة. ويقال إنه يمكن توقعها مرة واحدة على الأقل قبل غروب الشمس مباشرة. يتناقل أهل الجبل أن صاحبة الصرخة هي (سلمى بنت الزواك) التي مضت بقدميها إلى وادي الضجوج قبل مائة عام وتسلقت شجرة ذرح لتقطع حطبا من أغصانها وكان الوقت بين الضحى والظهيرة. في المساء خرج زوجها وأولادها للبحث عنها ولدها الأكبر وحده الذي ساوره الشك فذهب يبحث عنها في وادي الضجوج وجدها ملقاة في مجرى غيل ماؤه قليل كدر كانت عاجزة عن الحركة تحتضر. كانت في فمها حبات ذرة سليمة لم تهرسها بعد بأسنانها. قام الولد باستخراج الذرة من فمها ثم سقاها بكفه من ماء الغيل. أخبرته أن امرأة معلقة في الهواء دفعتها من فوق شجرة الذرح. أوصته أن يزغرد إذا رآها. حملها الولد بين ذراعيه وقبل أن يصل بها إلى البيت كانت قد فارقت الحياة والشمس قد غاب نصف قرصها في البحر البعيد. يزعم واحد من أحفادها اسمه (صوفان) أنه دخل مرة إلى وادي الضجوج فرأى امرأة تمشي في الهواء متجهة نحوه رجلاها وأذناها كرجلي وأذني العنزة فتذكر وصية جدته وزغرد بطول صوته ولدهشته تحولت المرأة إلى شعاع وتلاشت كأن لم تكن.
وادي الضجوج هو الضلع الأعوج المفقود من أضلاع الجبل أعلاه حيد صخري أملس كحد الشفرة لا يجرؤ حتى الضبع على الاقتراب من حافته وأسفله غيل يرشح من بين تجاويف تعشش فيها الثعابين ويتحدر منه ماء فيه بقع طحلبية ضاربة للسواد. والقرويون يتجنبون الشرب منه لمذاقه المر. في الليالي التي يغيب فيها القمر معربدا في الصحراء يحدث أن يضل البعض طريقه ويدخل بطريق الخطأ إلى وادي الضجوج.. كل الذين انتهكوا حرمة الوادي ليلا تعرضوا للرجم والمحظوظ منهم من يسرع بالخروج قبل أن تصيبه الحجارة وأما المتمادون منهم فإنهم يتلقون وابلا كرش المطر فيهربون والدماء تنزف من أجسادهم وهؤلاء المنكودين يظلون لسنوات طويلة بعد شفاء جروحهم يعانون من الآثار النفسية لهجوم الجن.
يتحدث أهل الجبل عن المختفين.. وهم أشخاص دخلوا إلى وادي الضجوج ولم يرهم أحد بعد ذلك أبدا. باستثناء رجل واحد يحمل اسما غريبا (جمل الليل) عاد بعد غيبة طالت ثلاثين عاما. سعيت إليه وقابلته وتأكدت من قصته بنفسي. قال إنه كان معروفا في الجبل بسمعته كسارق داهية مصيبة الله يسرق الزوجة من تحت زوجها وهو يضاجعها دون أن يشعر به الزوج! قال إن القرويين لقبوه ب(المطحنة) لأنه كان إذا تسلل إلى أرض أحدهم يقتلع الثمار التي في رؤوس الأشجار والمنطرحة على الأرض والمكبوسة في جوف التراب فلا يكاد يسلم من يده أخضر أو يابس فشبهوه بالمطحنة التي تطحن كل ما يسكب فيها. ولما رأى والده أن الناس يعيرونه بهذا اللقب أطلق عليه لقب (جمل الليل). قا