الإعلام.. وإعادة تدوير الأزمات
محمــــد محمـــــد إبراهيـــــم
(…. هنا أو هنا يا زحف نرتاح ساعة / تعبنا وأتعبúنا المدار المسلح// كطاحونة نأتي ونمضي كمنحنى / يشد إلى رجليه تلا مجنحا // فيا ذكريات التيه من جر قبلنا خطاه/ وأمسى مثلنا حيث أصبحا // ركضنا من الميلاد قرنا وليلة / ولدنا فكان المهد قبرا تفتح// ومتنا كما يبدو رجعنا اجنة / لنختار ميلادا أشق وأنجحا)….
قد لا يكون من المناسب أن أبدأ الحديث عن الإعلام وأمل اليمنيين بهذه المعادلة الفلسفية لشاعر اليمن الكبير عبدالله البردوني لكن ما يجري في اليمن من اقتتال وسفك دماء يبدأ بالكلام وينتهي بمعارك تبذر صراعا لمستقبل أكثر قتامة.. كل جوهر هذه المطاحنة حدث عارض يخلق منه الإعلام معارك ضارية تدور رحاها عبر المواقع الإلكترونية وينتهي بها الأمر إلى ترجمة واقعية في حضرموت أو صعدة أو الحديدة أو على مشارف العاصمة.. وكما لو أننا أمام فيلم كرتوني يتشاركه مجموعة من الأطفال الصغار في مقاهي الأنترنت.. إنها دوامة مستمرة ما أن تهدأ ريحيها إلا ليعصف الإعلام بنيرانها من جديد مثلما تختصر المعادلة الشعرية السابقة حال اليمن على مر العصور..
العلاقة الأهم التي تربط هذه الأرجوحة الشعرية -التي تعكس انكسار الأمل لدى الرائي اليمني حين فقد الهجس الثوري معناه الحقيقي في نقل اليمنيين إلى مرحلة الدولة والبناء واحترام اليمنيين لآدمية بعضهم البعض- إن بيت القصيد اليمني منذ زمن طويل واضح في هذا المقطع الشعري وربما سيظل بيتا لقصيد اليمن المستقبلي فقد أبتلي اليمنيون بـ(دواخ) السياسة ودورانها في حلقات مفرغة من ضياع الأمل وذوبان المشاريع الوطنية الحقيقية.. فلا مجال للراحة والاسترخاء فالشعب يعيش الأمل جيلا بعد جيل..
واقع الإعلام اليوم يترجم بلا شك مأساة اليمنيين الخالية صفحاتهم من سنة التقلبات بين الراحة والتعب بين السراء والضراء وبين الجمع والشتات فقط كل ما نعيشه هو مسار حاد من الانحدار تتداعي فيه الآلام علينا دون رحمة وكما لو أن اليمنيين فقط “يهرفون بما لا يعرفون” ليموتوا جماعات وفرادى ويحرقوا مشاريعهم مطبقين – بما يجري في ما بينهم من تناحر – المثل الشعبي اليمني المعروف “من مشنقة إلى مشنقة فرج”..
لست متشائما مما يجري على الساحة اليمنية – خصوصا وللخير مخاضات لا يعلم خيرها البشر- بل تذكرت هذا المثل وأنا أقرأ وأتابع باهتمام ما تمطره المواقع الالكترونية والصحافة والقنوات الفضائية المفتوح بثها المباشر على جريان الدم اليمني من أخبار منها ما هو ناري وخلفه ألف تحريض وتحريض ومنها ما ينقل ما جري مجترحا من الواقع ما يسد كل نافذة للمستقبل ومنها ما يرمي بوضوح لتوسيع دائر الانتحار.. وغيرها من مغازي تأجيج الفتنة المتخفöي دائما خلف ” مصدر مطلع” أو “مصدر موثوق” أو “مصدر مقرب” أو “خبير سياسي” وغيرها من المصادر التي تغذöي المواقع الالكترونية والصحف ومواقع التواصل الاجتماعي بسيل عرöم من الاختلاقات والأكاذيب التي تؤجج الفتنة في كل مكان..
إنها مهنة إدارة لعبة الموت بتأجيج الفتنة ليقاسم الإعلاميون السياسة جرائم سفك الدماء وإطالة الحروب وإعادة تدوير الأزمات والمعضلات بوجوه تختلف عن بعضها لتجعلنا نسلم بواقع قدرنا..
ومع هذا يظل الأمل رافعا سارية العبور إلى المستقبل ليس لأن كل ما يجري من أزمات -عرف تاريخ صانعيها بتجار المصلحة ووصفت عاداتهم بثقافة السير عكس التيار- لإجهاض مشروع الدولة اليمنية الاتحادية والمدنية الحديثة بل لأن المرحلة تقتضي الإصرار على مواصلة العزم لترجمة المخرجات إلى واقع ملموس وبدون ذلك ستظل الزوابع تتناوش اليمن..