ظلمة يائيل ـ ظلمة الذات: رحلة البحث عن اليقين
الثورة/ أحمد الفراصي

لقد أصبح من اليسير في هذا العصر المتداخل المعارف الوافر المعلومات الدقيق في تقسيمه للأشياء وتعريفه للماهيات التفريق بين عمل المؤرخ وعمل الروائي في تعاملهما مع الحدث التاريخي . حيث تنحصر مهمة المؤرخ في عرض أحداث التاريخ بكل دقة وحرفية من غير أن تكون له وجهة نظر يعيرها القارئ أي اهتمام في حين أن الروائي ينبغي عليه التركيز على وجهة النظر الخاصة التي تميز عمله عن عمل المؤرخ والاهتمام بمعالجة الأحداث سرديا بما يتلاءم مع وجهة النظر تلك ويتفق مع طروحاتها. ولعل ما يؤكد التفات كتبة الرواية الى مثل هذه الفروق الجوهرية ما نجده في رواية “ظلمة يائيل ” لمحمد الغربي عمران التي لاذت بالتاريخ ومجريات أحداثه ليكون مهادا نفسيا لمسببات وقائعها ومسرحا تتحرك على خشبة أيامه شخصياتها زارعا في ذات المتلقي منذ فواتح المتن وهم الحضور التاريخي وواقعية الحدوث وهم لا تلبث المسافة التأويلية أمامه كثيرا للسيطرة عليه واكتشاف رؤية المتن الخاصة التي تغيت بوساطتهö المحافظة على ذاكرة المعاناة الإنسانية على نطاق الأفراد في بحثهم الدائم عن اليقين ومحاولاتهم المستميتة في سبيل الخروج من دهاليز الظلمة والتيه الذاتي المستفحل مما يجعل من ضرورة النظر إلى تلك الرموز اللغوية بوصفها إشارات أطلقها المتن للقارئ داعيا إياه إلى تلقيها وفك شفراتها بطريقة ما .
وأمام تلك الغاية يمكن النظر إلى رواية “ظلمة يائيل” بوصفها رحلة في مدارج المعرفة قام بها “جوذر” الشخصية الرئيسية في الرواية ـ باحثا عن يقينه الخاص بعد أن تاه في معمعة المذاهب والمعتقدات المختلفة السائدة في عصره بعد أن عاش طرفا من حياته متقلبا بين أشكال المعرفة ومختلف الطروحات المتباينة متأرجحا في شطر آخر منها بين دين أبيه ومعلمه “الإسلام” ودين أمه “اليهودية” وبين المذاهب المتعددة داخل الإسلام متنقلا في ثالث بين رياض العلم والفن وبين الفن والإلهام والحدúس ليتجذر في ذاته ـ بسبب ذلك التشظي المعرفي ـ مبدأ الشك من حقيقة كل ما يحيط به “كدت أن أقول له أن لا إيمان لي بشيء ..هو الشك من كل شيء يؤثث عقلي ..صـ193″ مما دفعه إلى تلك الرحلة التي كانت الخيبة التامة ثمرتها واللا جدوى عصارتها إذ لا يستطيع أحد فيها أن يقول أن ثمة ظمأ روحي قد روي أو جوع معرفي قد أشبöع كل ما هنالك أن اللا يقين قد أمسى هو الحدث الذي أسدلت الرواية أستارها عليه :”أجلس في زاوية المعلم.. أستعد لاستقبال ما يطلب نسخه.. أفكر في كتب الغرفة الخلفية.. أنتظر اليوم الذي أستطيع اكتشاف أسرار الكتب المخبوءة بأمان .. الكتب التي كانت السبب في سجني .. وفي قتل المعلم .. أتأمل السائرين في أزقة السوق ..أشعر بأن علي أن أنشغل بنسخ الكتب ونقشها بالزخارف .. وأنتظر قدوم من أنتظر ظهوره .. وسأظل متخفيا بشعري أترصد في كل اتجاه .. وأنتظر بشوق صـ390”. هذه هي حصيلة رحلة “جوذر” الباحث عن “اليقين الوجودي” وعن “شوذب عاطفته الضالة” الشقي في بحثه عنهما وشكه القتال في وجودهما شكه الذي لم يبرأ منه واستمر لأجله في رحلته المضنية واثقا أن هذا العناء قد يشفى إذا تم اللقاء والكشف. ولكن هل ثمة أمل في اللقاء والكشف¿ وهل يستحق مثل هذا الأمل ما تحمله “جوذر” في سبيله من شقاء وعذاب ¿ يؤكد المتن أنه في لحظات الشك واليأس القاتل يحاول “جوذر” أن يقنöع نفسه بصرف النظر نهائيا عن التفكير فيهما أو البحث عنهما: “تعبت .. تعبت بحثا عن الحقيقة صـ385” . ولكن ما أن تعود آلام الداء التي لا تطاق حتى تلح عليه ليعود إلى التفكير في احتمال اللقاء ويمسي على اقتناع تام بأن عليه أن يجدهما معا. “وأنا أبحث عنها أحلم أن أقابلها يوما وجها لوجه.. أن أراها.. أسمعها وتسمعني. .. أم أنها ستسخر مني. ..وتمرح وتعبث بي ¿! مثلما هي الآن تشقيني .. ودوما يستبد بي سؤال: هل الإدراك طريق الشقاء ¿ أم أن إثبات وجوده الإمعان في عذاب أرواحنا ¿! سأبحث عن إله أو رب أدواته العطف والسلام. ..يحتويني بفيضه .. يلبي مناجاتي ..أدعوه فيهب لنجدتي : صـ322 323 “. ولكن ـ قبل ذلك ـ أليست نقطة انطلاقه في بحثه هي التي حكمت على مسعاه بالخيبة الأزلية¿ فلقد أراد بكل جوارحه الحصول على “اليقين الإلهي اللقاء العاطفي” اللذان سيخلصانه ـ كما يعتقد ـ إذا اجتمعا من كل الهموم والمتاعب التي يعيشها. ولكن هل يمكن للإله أن يلبي نداء من لا يناديه إلا ليرفع عن كاهله المسئوليات التي وجöد من أجلها في الحياة ويهتم فقط بمغرياتها الزائلة ¿ هل يمكن أن يتم التجلي لمن لا يريد من تجليه سوى أن يمنحه فرصة التملص من المصير الذي كتب على البشر جميعا ¿ ” لماذا يا رب أمي لماذا يا إله معلمي .. تتركاني في قفار العذاب. ..أي شقاء تحيكاه ¿ الأني لم أجد أحدكما أو أنتما معا ..أم أني ضللت الطريق¿ ..هل البحث رديف للشقاء¿ م