المؤسسة العسكرية في الدولة المدنية

محسن خصروف

محسن خصروف –
الحلقة السادسة

أما بالنسبة للحر فانية فإن الحديث عنها لا بد وأن يكون مبنيا على رؤية عميقة وفهم موضوعي للبيئة التي تم فيها غرس أو استزراع ( Transplanted ) منتسبي القوات المسلحة الذين ينحدرون من بيئات اجتماعية مختلفة باعتبارها بيئة جديدة أو حقلا جديدا تتشكل في داخله مؤسسة اجتماعية جديدة لها ملامحها ومضامينها الجديدة المتميزة إلى لا تعني الانسلاخ كلية عن الواقع الاجتماعي بكل موروثاته .
وفي إطار الرؤية العميقة للبيئة الاجتماعية لا ينبغي التركيز على عامل بعينه كالاحتراف للوقوف على ظاهرة اجتماعية في حجم الظاهرة العسكرية ذلك أن الاحتراف لا يمكن التعويل عليه إلا في ظل مجتمع مدني له ملامحه الواضحة أو هي على الأقل في طور التكوين وبما يعنيه ذلك من قواعد دستورية وقانونية تحدد بوضوح شكل ومحتوى النظام السياسي وطبيعة العلاقات التي تربط بين مؤسساته المختلفة بما فيها المؤسسة العسكرية كما أن الحديث عن المجتمع المدني أو التعويل عليه في ظل تخلف اقتصادي واجتماعي شاملين أيضا يصبح نوع من الترف ذلك أن قيمة المجتمع المدني ذو الآفاق الديمقراطية لا بد وأن تكون ممهورة بتوجهات جادة نحو التنمية الاقتصادية – الاجتماعية التي تؤدي بالمجتمع إلى الخروج من دائرة التخلف وبالتالي من دائرة التبعية الاقتصادية أو الارتهان الأمر الذي يصبح معه الحديث عن الاحتراف العسكري أو الثقافة السياسية وكذلك الحريات السياسية حديثا موضوعيا يعني أن المجتمع الذي يفتقر إلى أحد هذه العناصر فإنه قد يكون عرضة لظاهرة من الظواهر التي قد يترتب عليها شكلا من أشكال الاضطراب السياسي والاجتماعي ومنها الظاهرة العسكرية .
ولعل تجربة السودان تجربة دالة في هذا الصدد . فقد أفتتح أول برلمان منتخب وشكلت أول حكومة منتخبة على أسس ديمقراطية تعددية عام 1954م ونال الشعب السوداني استقلاله السياسي عام 1955. وتم إسقاط الحكم المدني الديمقراطي بعد ذلك بثلاث سنوات ليصعد العسكريون إلى السلطة عام 1958فكيف حدث ذلك ¿
منذ الأيام الأولى للاستقلال كان حرص القوى السياسية التقليدية شديد على احتكار السلطة السياسية وفي سبيل ذلك بذلت جهود كبيرة لتحجيم أنشطة القوى السياسية الجديدة التي تطمح إلى أحداث تغييرات جذرية يتحقق من خلالها إعادة توزيع الثروة الوطنية ولما كانت القوى الجديدة قد اتجهت نحو استنهاض القوى الحية في المجتمع السوداني وخاصة المنظمات الجماهيرية فإن القوى الاجتماعية التقليدية قد واجهت ذلك بأن عملت على تسييس القبائل والطوائف السودانية التي هي الأساس الذي قامت عليه الأحزاب التقليدية الأمر الذي خلق صعوبات أمام تطور العمل السياسي في السودان .
هذا فيما يتعلق بالعمل السياسي أما الجانب الاقتصادي فإن السودان لم يحقق أية انجازات تذكر بل ظل سوقا مفتوحة للسلع الأجنبية ومنتجا للسلع الأولية خاصة القطن وهو ما أدى إلى تسريب جزء كبير من الدخل القومي إلى مراكز لاستهلاك الرأسمالي وخاصة بريطانيا كما أنعكس سلبا وبشكل مباشر على دخل الطبقات الفقيرة ومستوى معيشتها .
وفي ظل سيطرة كبار الملاكين الزراعيين على الإنتاج الزراعي التقليدي نأت البورجوازية التجارية بنفسها عن الإسهام بصورة جادة في إحداث التحولات التنموية رغم التسهيلات التي حظيت بها وأثرت الكسب السريع الذي لا يتطلب المغامرة برؤؤس الأموال وتركزت استثماراتها في المجالات التي لا تؤدي إلى توسيع قاعدة الإنتاج ولا إلى جذب أقسام واسعة من السكان وخاصة مجالي التجارة والمضاربات العقارية وفي مثل تلك الأوضاع كان القطاع العام هو المستثمر الأول في السودان إلا أن إمكانياته كانت عرضة للتبديد وبقيت بعيدة عن تلبية الاحتياجات الأساسية للتحديث الذي يقوم على الإنتاج الزراعي والصناعي حيث كانت نسبة 31% من مجموع استثماراته تنفق على جهاز الدولة الإداري مما أصابه بالجمود والانكماش(36 ).
وبصورة إجمالية فقد ظل الاقتصاد السوداني على وجه العموم أسير القطاعات التقليدية التي ظلت تنتج 56% من الدخل القومي منذ 1956م وحتى عام 1960م كما أنها كانت تستوعب 87% من مجموع القوى العاملة (37 ). الأمر الذي يعني أن القوى السياسية التي كانت ممسكة بزمام الحكم في حينه قد حالت بتشبثها بأساليب الإنتاج التقليدية دون إدخال قوى اقتصادية جديدة تقدم طريقا بديلا للطريقة التقليدية وتسهم في قضايا التغيير الاجتماعي الذي سيؤدي بالفعل إلى تدعيم وتطوير وعقلنة العمل السياسي ويسهم إلى حد كبير في تحجيم الرواسب الاجتماعية التقليدية التي حكمت العمل السياسي في السودان وتجلت بصورة واضحة في أن أكبر طائفتين فاعلتين في السودان هما : طائفتا « الأنصار» و « الختمية» قد أصبحتا بكل نزعاتهما القبلية الإقليمية المذهبية الأساسين الرئيسيين اللذين قام عليهما حزبان من الأحزاب الرئيسية في السود

قد يعجبك ايضا