إدوارد سعيد والثقافة العربية »ما بين عالمين«
هشام علي
هشام علي –
في سيرته الذاتية أطلق إدوارد سعيد صفة «خارج المكان» لتكون عنوانا لمسار حياته وسيرته الثقافية ما بين عالمين ولادته وطفولته في فلسطين ومصر وشبابه وباقي حياته في أمريكا مع رحلات متواترة الى لبنان ومصر في الصيف من كل عام.
هذه محاولة لكتابة سيرة ذاتية لهذا المفكر داخل المكان داخل الثقافة العربية أو في سياقها وضمن التحديات التي تواجهها.
كيف تتشكل هذه العلاقة بالثقافة العربيةليس في استقبال فكر إدوارد سعيد في أوساط المثقفين العرب وحسببل في التكوين الثقافي أو إعادة التكوين العربي لهذا المفكر الذي لم يعرف هل كانت الكلمات الأولى التي نطق بها في الطفولة عربية أم انكليزية¿
وقد دخل بعد ذلك مدارس الانجليز والأمريكان منقطعا عن اللغة العربيةمحاصرا داخل اللغة الانكليزية وممنوعا ومحروما من الكلام بالعربية داخل المنزل وخارجه. وكان قراره الشجاع وهو يحاضر في كبرى جامعات أمريكا أن يتعلم اللغة العربية والأدب العربيأن يملأ فراغات تكوينه الثقافي ويشفي ذاته من مرض الغربالذي زرعه والده في نفس ذلك الفتى العربي حين القي به في مدرسة أمريكيةغريب الوجه واليد واللسان.
كيف نكتب سيرة معاكسة لهذا المفكرداخل المكان لا خارجهفي علاقاته المتشابكة بالثقافة العربيةوفي سياق مفهوم للمكان لا يتحدد بالأرض وحسببل يشمل الإنسان والثقافة والعلاقات المجتمعيةأي الحياة بكل أشكالها فوق الأرض.
وينبغي التنويه هناأن هذه الكتابة لسيرة إدوارد سعيد داخل المكان وخارجه لا تعني أنه ما بين عالمين فهذا ما يرفضه إدوارد بصورة قاطعةلكنها محاولة لرصد تأسيس إدارة قوية للانتماء للوطن والثقافةدون أي إحساس بالانغلاق أو التشظي بين عالمين على الرغم من معاناته الدائمة التي حملها على كاهلهسواء في اسمه المشطور نصفين أو في انتمائه الأكاديمي إلى مؤسسة علمية كبرىوفي نشاطه ونضاله السياسي من أجل فلسطين رغم وجوده في أحد أكبر القلاع الصهيونية في أمريكا.
عاش إدوارد سعيد ما بين عالمين: إدوارد سعيد المفكر الأمريكي الفلسطيني الأصل أستاذ النقد المقارن في جامعة كولومبيا أحد كبار النقاد الغربيين المعاصرين استطاع الوصول إلى أعلى المراكز الأكاديمية في أمريكا وأوروبا.عاش معظم حياته في مدينة نيويورك. المدينة الخرافية الرائعةالتي أحبها وارتبط بها وشكلت جزءا مهما من سيرته وتكوينه الثقافي. نيويورك كما يقول إدوارد سعيد ليست مدينة أمريكية إنها مدينة لا تنتمي إلا إلى ذاتها.
لقد منحته نيويوركبما فيها من تنوع ثقافي وتقدم فكري جعلاها عاصمة ثقافية للعالممنحت إدوارد سعيد أفقا ثقافيا واسعا يشمل الرؤية المتفتحة للهويات المتعددة وغير الجامدة والمنفى كفضاء رحب كريم.
إدوارد سعيدالفتى العربي الفلسطيني الواصل إلى أمريكا في بداية سنوات المراهقةبعد أن أتم الدراسة الأولى في القاهرة في مدرسة « فيكتوريا كولدج» البريطانية وهي المدرسة التي أنشأتها بريطانيا لتربية جيل من أبناء الطبقة البرجوازية المصرية يتكلمون بالإنجليزية ويفكرون بعقلية المستعمر البريطاني الذي يحكم مصر ويهيمن على ثقافتها ويمنع طلاب المدرسة من الكلام بالعربية.
وفيكتوريا كولدج هي المدرسة التي درس فيها «مصطفى سعيد» بطل رواية الطيب صالح الشهيرة « موسم الهجرة إلى الشمال»والتي وصفها هذا البطل الأسطوري قائلا: انها المدرسة التي أنشأها الاستعمار ليعلمنا كيف نقول « نعم» بلغتهم وبالمناسبةهناك صفات مشتركة بين إدوارد سعيد البروفسور الفلسطيني – الأمريكي وبين مصطفى سعيد البروفسور السوادني في رواية الطيب صالحلعل أهمها العبقرية والذكاء بالإضافة إلى الانشطار الفكري والنفسي بين عالمين.وهذا موضوع بحث آخر للمقارنة بين ما هو واقعي وماهو سردي متخيل.
وقد حمل إدوارد سعيد صفات التمرد منذ الطفولة فهو يتمرد على قوانين المدرسةويقال أنه طرد من كلية فيكتوريا لأنه تكلم بالعربية.
ولذلك أخذه والده إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليواصل الدراسة هناك. وكان والده « وديع سعيد» قد أكتسب الجنسية الأمريكية بعد هجرته إلى أمريكا وقد تأثر بثقافتها ومظاهر الحياة فيها. وهذا هو سبب إطلاق أسماء غير عربية على أبنائه , كان هذا هو الانشطار المبكر في الهوية:«ادوارد» و«وسعيد» يقول إدوارد سعيد إنه كان يلزمه خمسين سنة لكي يعتاد على « إدوارد» ويخفف الحرج الذي يسببه له هذا الاسم الانكليزي الأخرق الذي وضع كالنير على عاتق «سعيد» اسم العائلة العربي القح. هكذا حمل إدوارد سعيد هذا الاسم العربي الجريح معه إلى أمريك