
حاوره / محمد محمد إبراهيم –
الثورة اليمنية ليست إنقلاباٍ بكل المقاييس
واحدية الثورة اليمنية تحققت في إنسانية الهدف وجسامة التضحية المشتركة
سبتمبر ثورة حطمت العنصرية واللاهوتية وأوصلت إلى رأس السلطة رجلاٍ من عامة الشعب وهو المناضل العظيم عبدالله السلال
¿ اليمنيون اشتركوا جميعاٍ في تحرير وتوحيد الجنوب وأول شهيد أكتوبري في ردفان كان يقاتل الملكيين في حجة قبل اسبوع من استشهاده وهو «لبوزة»
¿ الانقلاب لا يخرج عن كونه مجرد النقل الشكلي للسلطة السياسية من طرف إلى طرف آخر لا يختلف فيه (المنقلب) عن (المنقلب عليه) في شيء إذا لم يكن الثاني أسوأ
¿ الثورة تعني فلسفة التغيير الشامل والجذري للنظام السياسي والاجتماعي والفعل الثوري والإنساني الذي يحكم الشعب في استبدال حاكم آخر ينتمي للشعب
في الحلقة الأخيرة من هذا الحوار الاستثنائي مع المفكر الاجتماعي المؤرخ الدكتور حمود صالح العودي.. نسلط الضوء على جدلية الماضي والحاضر والمستقبل حول الثورة اليمنية المباركة في يوبيلها الذهبي وتحديدا ما يجري من رؤى تتناقض في مجملها مع واقعية الانتقال من النظام الملكي إلى الجمهوري ومن الحكم الملكي الفردي تحت مظلة الحق الإلهي إلى حكم الشعب نفسه بنفسه تحت مظلة مجتمع ديمقراطي يمنح الشعب حق اختيار من يحكمه ..
استثنائية الحوار ليس في كون العودي شاهداٍعلى عصر احتضنت مساحته الزمنية عتبات هذا التحول الذي اختزل في الأحداث والمسارات التي تزخر بها ذاكرته وسْطرت في الحلقة السابقة من هذا الحوار الصحفي الذكرياتي.. بل لكونه مؤرخاٍ ومفكراٍ اجتماعياٍ وقارئاٍ جيداٍ ومْناظراٍ سياسياٍ يملك مفاتيح التأصيل التأريخي والاجتماعي للثورة السبتمبرية الأكتوبرية وواحديتها في إنسانية الهدف وجسامة التضحية.. العودي تحدث في هذه الحلقة الثالثة والأخيرة بلسان متتبع لبيب وعقل مدركُ ملم بحيثيات الثورة السبتمبرية وتناقضها المفاهيمي والواقعي مع الانقلاب متطرقاٍ في هذا الطرح إلى المنطلقات الواقعية والميدانية للثورات المعروفة في كل أنحاء العالم مثبتاٍ توافر هذه المنطلقات في الثورة اليمنية 26 سبتمبر و14 أكتوبر التي قضت على الإمامة والاستعمار واستمرت في زخمها رغم التحديات وجسامة التضحيات حتى تحققت الوحدة اليمنية المباركة… إلى تفاصيل الحلقة الأخيرة من هذا الحوار :
حاوره / محمد محمد إبراهيم
> بين جدلية الماضي والحاضر والمستقبل.. يبرز من يصف الثورة اليمنية بالانقلاب.. ما هو تفنيدك لمثل هذه الـرؤى كونك مؤرخاٍ ومفكراٍ اجتماعياٍ ومؤلفاٍ ضليعاٍ في هذا المقام¿!!
– أولا ما يجب أن نستوعبه هو أن من حق أعداء الثورة أن يحاربوها وليس مجرد وصفها بالانقلاب.. ولهذا المنطق الجدلي في الاختلاف كان وما يزال البعض- يتنكر لثورة السادس والعشرين من سبتمبر العظيم-رغم أننا اليوم نعيش إشراقة ذكرى إشعال الشمعة الذهبية الخمسين من عمرها والبعض الآخر يصنفها انقلابا وليس بثورة, وللبعض الأول أجندته الخاصة المنطلقة من مبدأ رفض الثورة أصلا من القوى الرجعية والاستعمارية القديمة والجديدة في الداخل والخارج , لأنها قد جاءت نقيضا لمصالحهم وبديلا تاريخيا لوجودهم وتأكيدا لحقوق ومصالح الشعب في الحرية وحكم نفسه بنفسه, حيث جاء في أولى مبادئها الوطنية والتقدمية الستة التحرر من الاستبداد والاستعمار ومخلفاتهما وإقامة حكم جمهوري عادل وإزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات وفي ثاني هذه المبادئ بناء جيش وطني قوي لحماية البلاد وحراسة الثورة ومكاسبها وثالث ورابع وخامس وسادس هذه المبادئ والأهداف الخالدة رفع مستوى الشعب اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا وإنشاء مجتمع ديمقراطي تعاوني عادل مستمداٍ أنظمته من روح الإسلام الحنيف والعمل على تحقيق الوحدة الوطنية في نطاق الوحدة العربية الشاملة واحترام مواثيق الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والتمسك بمبدأ الحياد الإيجابي وعدم الانحياز والعمل على إقرار السلام العالمي وتدعيم مبدأ التعايش السلمي بين الأمم.
أهداف ومبادئ مغايرة
> ما الذي تراه تلك القوى في هذه الأهداف.. حتى تقرأها بهذه العدائية¿
– ترى إلى هذه المبادئ والأهداف بأنها كانت وما تزال تتناقض مع أهداف وممارسات الإمامة الظلامية المستبدة في الماضي بدءاٍ من تكريس حكم ملكي مستبد وادعاء الحق الإلهي وتكريس الفوارق السياسية والعنصرية بين فئات وطبقات المجتمع, وانتهاءٍ بجيش كانت مهمته الأولى والأخيرة البطش بالشعب والحراسة على الأبواب, ومع الإدارة الاستعمارية المستغلة لحقوق وموارد الشعب وتكريس التمزق الداخلي لوحدته الوطنية والقومية والحيلولة دون حريته واستقلاله, حيث كان من حق هؤلاء وقتها قبل الثورة وإبان إشراقتها العظيمة لا أن يرفضوها شكلا ومضمونا فحسب بل وأن يحاربوها بكل ما أوتوا من قوة, وذلك ما حدث طوال عقد ستينيات القرن المنصرم وعلى امتداد ساحة الوطن شمالا وجنوبا في حرب الدفاع عن الثورة والجمهورية في شمال الوطن وحرب التحرير في جنوبه, وذلك هو البعض الأول الذي انهزم أمام إرادة الشعب وثورته وسنة التغيير وحتمية قانون التاريخ.
> تحدثت عن البعض الأول .. ماذا عن البعض الآخــر¿ وما هي دوافع القائلين بحسن نية بأن الثورة السبتمبرية انقلاب وليس بثورة¿
– البعض الآخر ممن يرون في سبتمبر وأكتوبر مجرد انقلاب أو انقلابات عسكرية وليس ثورة فهم صنفان الأول وهم من يردد هذا القول والمفهوم بسوء نية مسبقة كجزء لا يتجزأ من مبدأ الرفض والكراهية والحقد على الثورة وكل ثوابتها الوطنية في النظام الجمهوري والوحدة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية… أما الصنف الثاني ممن يردد نفس الكلمة أو المفهوم «انقلاب وليس ثورة» ولكن بحسن نية واجتهاد فكري وثقافي يحتمل رأي صاحبه الصواب كما يحتمل في رأينا الخطأ عملا بمقولة الإمام الشافعي رحمه الله «رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصواب» فإن دافعهم الأساسي الأول ليس التقليل من شأن مفهوم الثورة بقدر ما قد تكون مجرد نزعة متطرفة أو مزايدة في الغيرة عليها بحجة أن ما حققته لا يرقى إلى مفهوم الثورة ناهيك عن كثير من الأخطاء والنواقص التي تقر بها من مفهوم الانقلاب وتبعدها عن مضمون الثورة, وهو ما نختلف معهم بالرأي فيه بكل تأكيد ونؤكد بأن ما قد تحقق على الأرض جدير بمنح سبتمبر وأكتوبر هوية ومضمون الثورة عن يقين دون أن ننكر الكثير من الأخطاء والنواقص بل والمخاطر المحيطة بمسيرة الثورة , المهم أن كلاٍ منا يبحث عن الحقيقة أو ما يقترب منها قدر الإمكان وليس له رأي مسبق أو مصلحة جانبية مضادة معلنة أو مبطنة على غرار الفاقدين لمصالحهم الاستعمارية والرجعية المتخلفة في الماضي, فهذا الصنف هو وحده من يستحق التحاور معه حول مفهومي الثورة والانقلاب ودلالة ومضمون كل منهما واختلافه عن الآخر كخطوة أولى, ثم إسقاط أو تطبيق ذلك على المتغيرات التاريخية لسبتمبر وأكتوبر عام 1962 و 1963م وتقرير ما إذا كان ذلك انقلابا أم ثورة بدءاٍ بتحديد المفاهيم والدلالات العلمية والسياسية والاجتماعية لكل من الانقلاب والثورة.
> ما هي هذه الدلالات..¿!.
– أولاٍ مفهوم الانقلاب لا يخرج عن كونه مجرد النقل الشكلي للسلطة السياسية من طرف لآخر أو من مجموعة لأخرى أو اغتصابه لها بالقوة على الأصح في إطار النظام الواحد ولا يختلف فيه الثاني (المنقلب) عن الأول (المنقلب عليه) في شيء من حيث المضمون السياسي والاجتماعي إذا لم يكن أسوأ , وما يميز الانقلاب في هذه الحالة عن توريث الأنظمة الملكية والسلاطينية عند الوفاة أو التنازل السلمي من الآباء إلى الأبناء وفي كل الأحوال من تداول السلطة سلميا هو استخدام القوة والعنف من قبل طرف ضد آخر من داخل أو خارج السلطة كانقلاب الأبناء ضد الآباء كما حدث في عمان أو قطر والإخوة ضد بعضهم كما حدث في الكويت أو كما يحدث في الأنظمة الجمهورية العسكرية غير الوراثية وما أكثرها في تاريخ حزب البعث في سوريا والعراق والقوميين في اليمن كانقلاب (5) نوفمبر و (13) يناير, وقد لا يكون الانقلاب مجرد صورة طبق الأصل لما قبله حيث قد يكون تراجعا إلى الخلف كما في الانقلاب الانفصالي عام 1961م الذي أفضى إلى تدمير أول تجربة وحدوية للعرب في العصر الحديث بين مصر وسوريا وهكذا فالانقلاب بالمجمل هو مجرد الاغتصاب للسلطة بالقوة في وضع سياسي واجتماعي ثابت كما هو بلا تغيير سياسي واجتماعي يذكر إذا لم يكن ردة وتراجعاٍ إلى الخلف, وهو يبدأ وينتهي كحدث تآمري سريع ودافعه الأول والأخير هو إقصاء طرف سياسي أو عسكري ما لآخر من على رأس السلطة والاستيلاء عليها بالقوة.
أما مفهوم الثورة باختصار شديد فينحصر في كونها فلسفة التغيير والتطور بأسرع وقت ممكن ومن أقرب الطرق وأقل التكاليف وبالشعب ولمصلحته بالدرجة الأولى..وهي الفعل الثوري الإنساني الذي يحكم الشعب في استبدال حاكم ينتمي للشعب ويرضاه الجميع لا يهدف إلى مجرد استبدال حاكم مكان آخر بالقوة – كما هو هدف الانقلاب – بقدر ما تهدف الثورة إلى تغيير النظام السياسي والاجتماعي تغييرا جذريا وشاملا نحو الأفضل بإزالة مفاسد النظام السابق وتغييره كتغيير النظام الملكي بنظام جمهوري أو النظام الدكتاتوري بنظام ديمقراطي أو ثورة التحرر من الغزو والاستعمار الأجنبي وبكل ما تعنيه المضامين السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية لهذه المفاهيم المتناقضة الشكل والمضمون تناقض الخير والشر والظلم والعدل والحرية والعبودية والقديم..
والتغير الثوري بحد ذاته فعل يتعدى البيئة السياسية والاجتماعية إلى مجالات حياتية أخرى كالعلم والتكنولوجيا والاقتصاد وحتى النظام الطبيعي نفسه, حيث كثيرا ما شكلت كل الاكتشافات والاختراعات العلمية حلقات لا نهائية من الثورات الصناعية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتاريخية.
المنطلقات العملية للثورة
> هل ثمة منطلقات عملية ميدانية تميز الثورة على الانقلاب ¿
– الثورة في أي مكان في العالم لا تخرج عن أربعة منطلقات ما يبدأ بحدث عسكري سريع من قبل الجيش الوطني كثورة (23)يوليو في مصر بقيادة عبدالناصر التي ألغت النظام الملكي وأقامت النظام الجمهوري وغيرها من نماذج الثورات العسكرية العربية الجمهورية ضد الأنظمة الملكية في العراق وسوريا وليبيا واليمن وينتهي بعملية مستمرة وتراكم من التغييرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الجذرية اللاحقة نحو الأفضل وبلا توقف.
وثاني هذه المنطلقات إن الثورة تبدأ بحراك شعبي وجماهيري واسع النطاق وسريع ضد الاستبداد الفردي أو العائلي والطبقي المستغل كما في الثورة الفرنسية وثورة الخميني في إيران التي تنتهي بإسقاط النظم الاستبدادية سريعا وتؤسس لأنظمة شعبية وطنية وديمقراطية عادلة وكما هي اليوم ثورات الربيع العربي الراهنة.
وقد تبدأ الثورة – وهو المنطلق الرابع – بنضال وطني سياسي وعسكري في آن كما في حركات وثورات التحرر الوطني من الهيمنة الاستعمارية المباشرة وغير المباشرة كما في ثورات التحرر الوطني في العالم الثالث على امتداد القرن الماضي وأبرزها الثورات المنتصرة كثورة الشعب الفيتنامي ضد الاحتلال الأمريكي وثورة المليون شهيد في الجزائر وثورة التمييز والفصل العنصري في جنوب أفريقيا وما هو في طريقه إلى النصر إن شاء الله كثورة الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني.
أما المنطلق الرابع لثورات التغيير في التاريخ الحديث فهو نموذج ثورات النضال السياسي السلمي بنفس طويل والبناء الاقتصادي بعزم لا يلين وأبرز نماذجه تركيا حزب العدالة والتنمية وماليزيا مهاتير محمد.
والمهم في كل الأحوال هو أن تحافظ الثورة على دلالة مضمونها ومحتواها الثوري المستمر بصرف النظر عن مسمياتها وشعاراتها السياسية, فقد تفقد الثورة الكثير من مضامينها السياسية والاجتماعية وحتى الأخلاقية التي تجسد حكم الشعب لنفسه بنفسه باختصار شديد رغم احتفاظها بشكليات المسميات والشعارات الثورية والجمهورية والحرية والديمقراطية ولكن بمضامين عكسية وجوفاء, تماما كما في حال معظم الأنظمة العربية الجمهورية المتهاوية اليوم.
> من منطلق ما ذكرت .. هلا قدمتم صورة لما حصل في 26 سبتمبر 1962م ¿
– ما حدث في سبتمبر 1962م في شمال الوطن وأكتوبر1963م في جنوبه واستمر بعد ذلك هو ثورة بكل المقاييس والمنطلقات المشار إليها آنفا, فقد تم إسقاط اعتى نظام ملكي رجعي متخلف واستبداله بنظام جمهوري شعبي متحرر في شمال الوطن والتحرر من أعتى نظام استعماري عرفه التاريخ هو الاستعمار البريطاني في جنوب الوطن, ويكفي أن نتذكر ونذكر بأن لاهوت وكهنوت الإمامة الملكية الرجعية لأسرة بيت حميد الدين ومن والاها قد كانوا يرون بأن في لحمهم ودمهم من الفضل والنقاء ما ليس في لحم ودم غيرهم من سائر البشر وأن لهم بمقتضى ذلك حق مقدس في الحكم والسلطة ما ليس لغيرهم ويكفي حجة لسبتمبر كثورة أن ثورته قد جاءت في يومها الأول وفي مثل هذا اليوم المجيد قبل خمسين عاما بتحطيم هذا اللاهوت والكهنوت العنصري المقيت والمنافي لجوهر الدين الإسلامي وأوصلت إلى رأس سلطة الجمهورية الجديدة رجلاٍ من عامة الشعب كانت أسرته تحترف شرف مهنة بيع فحم الحطب في الأسواق وهو المناضل العظيم عبدالله السلال رحمه الله كأول رئيس للجمهورية محل لاهوت وكهنوت الإمام البدر الذي كان يفخر بأنه سيمضي على سيرة أبيه وجده في الحكم تطبيقا لجوهر الإسلام المفترى عليه من قبل الإمامة الملكية المتخلفة, دون إدراك إن الإسلام الحق ما جاء إلا ثورة ضد الكهنوت واللاهوت وتحقيق العدالة والمساواة بين البشر أسودهم وأبيضهم وعربيهم وأعجمهم كما يقول رسول العدل والسلام صلى اللِه عليه وآله وسلم : «الناس سواسية كأسنان المشط لا فرق بين أسود ولا أبيض ولا عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى كلكم لآدم وآدم من تراب» صدق رسول الله, وصدق الباري مرسل رسوله القائل في محكم كتابه «ما كان محمدا أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله».
واحدية الثورة
> وكيف تجسدت واحدية الثورة 26 سبتمبر و14 أكتوبر¿
– تجسدت واحدية الثورة اليمنية 26 سبتمبر و14 أكتوبر في كون الأولى جمعت اليمنيين من كل منطقة شمالاٍ وجنوباٍ في خندق واحد للدفاع وكون الثانية امتداداٍ طبيعياٍ للثورة الأم وكلاهما اجتمعا في واحدية الهدف والتضحية..ويكفي سبتمبر وأكتوبر كثورة واحدة ونسيج واحد أن معظم مناضليه وأحراره وشهدائه من أشرف الرجال الذين رفضوا الدعاوي السلالية والعنصرية وثاروا ضدها, أنه لم يضع حداٍ نهائياٍ لهزيمة اعتى حكم استعماري في التاريخ ويخرجه مهانا من جنوب الوطن فحسب بل وصنعه لوحدة أكثر من عشرين سلطة وإمارة ومشيخة إقطاعية وقبلية مختلفة في نظام جمهوري وطني وتقدمي واحد خال من القبلية والعصبية والمناطقية والطائفية التي كانت تقسم الأرض والشعب إلى أنظمة إقطاعية وعشائرية وراثية متخلفة على امتداد أرض الجنوب ولا تقل سوءاٍ وتخلفاٍ عن نظام الإمامة في الشمال وتحت إدارة ورعاية وتخطيط الإدارة الاستعمارية البريطانية وعلى مدى أكثر من قرن ونيف من الزمن.
كما يكفي دليلاٍ وحجة لثورة سبتمبر وأكتوبر كثورة واحدة أنها قد انطلقت من السواد الأعظم من الشعب كل الشعب شمالا وجنوبا دون تمييز سواء في عملية الدفاع عن الثورة وانتصارها في الشمال أو عملية التحرير والتوحيد في الجنوب في نفس الوقت ودون تمييز بين من يدافع عنها هنا أو يحرر ويوجد هناك, ويكفي أن نتذكر بأن «لبوزة» أول شهيد في حرب تحرير الجنوب في منطقة ردفان عام 1963م قد كان يقاتل الملكيين وأعداء الثورة في الشمال وفي محافظة حجة تحديدا قبل استشهاده في ردفان بسبعة أيام فقط, وما ذلك إلا نموذج رمزي يؤكد واحدية الثورة وبما لا تقوى كل أبواق الكراهية والحقد على الثورة والوحدة اليوم أن تحجبه, فما كان ولن يكون لروائح العفن من جحور الظلام أن تطفئ أو تحجب ضوء الشمس في السماء وكواكب الشهداء على الأرض الذين ما من قرية في جنوب الوطن إلا ولها شهيد تضيء روحه في كل سهل وجبل من شماله, وما من قرية في شماله إلا ولها مثله في جنوبه, ويكفي سبتمبر وأكتوبر وفاء للثورة والشهداء أن تمت الوحدة السياسية السلمية في الثاني والعشرين من مايو 1990م المعبرة والمكملة لجوهر الوحدة الاجتماعية والوطنية العميقة والأبدية للأرض والإنسان بصرف النظر عن السياسة, ويكفي على الصعيد الاجتماعي أن ما لم يكن يزيد على خمسين ألف إنسان على امتداد الوطن كان لهم علاقة بالعملية التعليمية في المساجد والكهوف وتحت الأشجار قبل الثورة قد أصبح لها اليوم ما يزيد على ستة ملايين طالب وطالبة في آلاف المدارس والمعاهد وعشرات الجامعات وقس على ذلك شتى مجالات الحياة المختلفة من صحة ومواصلات وبنى تحتية وانفتاح على العالم عربيا وإقليميا وعالميا.
أخيـــــراٍ
> في ختام هذا الحوار هل ثمة كلمة أو رسالة تودون قولها لفرقاء السياسة ومجموعة الوفاق الوطني ¿
– ما أود أن أقوله للجميع هو : صحيح أننا عانينا الكثير من الحروب وويلات تشطير انتصار الثورة في نظامين متصارعين لمدة ربع قرن, وصراع الإخوة الأعداء داخل كل نظام على حدة قبل الوحدة, وداخل نظام الوحدة وبعدها وحتى اللحظة وهو ما يهدد اليوم بانهيار الوحدة والثورة فحسب بل وخراب الوطن وخزي وعار أهله من الإخوة الأعداء لأنفسهم وللوطن والذين على مدى خمسين عاما من قيام الثورة وحتى الآن لم يشبعوا حكم بلا شرعية ولا ثراء بلا مشروعية ولا فتن وحروب المصالح التي بلون الدم المقترن بأسمائهم جميعاٍ كما لم يرق لهم اليوم حتى الاتفاق علينا ونحن نحملهم على السلامة من أجلهم وأجل الوطن الباقي قبلهم وبعدهم بكل تأكيد, بل وما فتئوا يعدون العدة للاقتتال كي نمضي في اختصار الكل في واحد أو إحلال واحد مكان واحد, وهنا يصدق علينا وعليهم جميعا مفهوم الانقلاب ويتراجع مفهوم الثورة من حياتنا لكن شعبنا وثورتنا المتجددة بدماء وتضحيات وضمائر أجيالنا الجديدة أكبر من كل الصغائر والصغار الذين أولى بهم أن لا يصغروا أكثر مما قد صغروا وأن يريحوا ويستريحوا جميعا وكفى الله المؤمنين شر القتال عملاٍ بالحكمة القائلة لو دامت لغيرك لما وصلت إليك والعاقل من اتعظ بغيره.
تصوير/ناجي السماوي