من ملامح الحس النقدي عند البردوني

مارس البردوني النقد بشقيه الثقافي والأدبي وكانت له عدة إصدارات طوال تأريخه الإبداعي والفكري وهو في جل إصداراته النثرية يسعى إلى إعادة تشكيل العلاقات وفق أنساق جديدة متخذاٍ من الماضي نافذة إلى استشراف المستقبل ولعله كان مؤمناٍ أو مترجماٍ للمقولة الفلسفية التي ترى أن هناك صلات محتملة بين العوالم المتخيلة والعوالم الواقعية .
لذلك فنحن نجده في نقده الثقافي يتعامل مع النص الأدبي بوصفه ظاهرة ثقافية وكانت جل دراساته تبدأ بالسياق التداولي فالسياق المعرفي ثم السياق الاجتماعي والنفسي ثم السياق الاجتماعي الثقافي وكان يربط أهدافه الموضوعية بالنص الأدبي بدءاِ بالنص كفعل لغوي ثم بعملية فهمه وتأثيره وأخيراٍ بتفاعلاته مع المؤسسة الاجتماعية .
وهو بذلك يحاول إخراج النصوص المكونة للبنى الثقافية الجمعية في محاولة لإعادة إنتاج دلالتها مخضعاٍ إياها للوصف والتحليل والتفسير والاستنطاق والتأويل .
وهذا المذهب في القول نلمح مصداقيته في جل إصداراته النثرية وخاصة كتابية ( قضايا يمنية ) (وأشتات ) ولعل في استعراضنا لبعض عناوين موضوعاته ما يغني عن التدليل والتحليل في هذه العجالة التي لا تروم أكثر من الإلماح إلى رؤيته للواقع وسعيه الحثيث لإعادة تشكل علاقاته وفق إنساق جديدة تلبي طموحات المتغير الثوري لنأخذ مثلاٍ موضوع ( المسئولية والسؤال ) ( والحركات الثورية مالها وما عليها ) ( وصور الأحداث في مرايا شعرية ) (وثقافة الثورة أو ثورة الثقافة ) وما سوى ذلك من الموضوعات التي تستنطق النص الأدبي وتخلق من أنساقه الداخلية علاقات جديدة متوافقة مع المتغير الثقافي والحضاري .
ولا يكاد النقد الأدبي ينفصل عن النقد الثقافي عند البردوني إذ في الغالب يتداخلان كما نلحظ ذلك في موضوع ( النقد الاجتماعي في الأدب القديم) والنظرة الاجتماعية في نقد سكينه بنت الحسين يقول في موضوعه الأول :
( فابن الرومي على فرط حسه الشعبي كان أعلى الأصوات تنديداٍ بثورة الزنج التي اكتسحت البصرة في القرن الـ 9م كان نقده من وجهة ثقافية لأن أولئك الثوار مجموعة أميين لا يملكون بديلاٍ أفضل :
لهف نفسي عليك أيتها البصرة لهفاٍ يزيد منه أوامي
دخلوها كأنهم قطع الليل إذا راح مدلهم الظلام
وذلك لأن تلك الحركة كانت لا تقدر أن تبين للناس غايتها وأسباب قيامها بهذا تعرضت بعض الحركات للنقد الشعري لعدم فهمها أو لعدم أفصاحها عن الانتصار للشعب ( أشتات ص 26 ) .
ولعل الدلالة التي أراد الكاتب إعادة إنتاجها غير خافية على أحد من خلال المثال السابق إذ يكاد القول يفصح عن الحركة الوطنية اليمنية من باب الإسقاط وإعادة إنتاج المعنى .
وقد تطرق البردوني إلى قضايا ربما كانت من القضايا المسكوت عنها في خطابنا الثقافي المعاصر مثل الخصومات الأدبية كما في موضوعه ( قيمة أدب الخصومات ) من كتابه ( أشتات ) إذا خلص في هذا الموضوع إلى القول :
قيمة هذا الفن الخصومي معرفة الجديد ومصطلحاته وثورته وإن كانت على حساب جهل القديم أو تجاهله فقيمة أدب الخصومات متطورة بتطور الأدب المختصم منذ كان هجاء إلى أن أصبح صراع عقائد سياسية وعداوات فنية تورد حدائق الأدب ولا تورد بالدماء صفحات السلاح لأن هذه العداوات تثير الملكات دون أن تلوث يدها بدم أحد كالعدوات العشائرية والدولية فالنظافة والإثارة أروع قيم أدب الخصومات ( أشتات) ص 46) .
وأيضاٍ (قصائد المهرجانات) التي رأى أنها شكلت بحوثاٍ وملاحظات وأثرت الثقافة وأضاءت تبصر الشاعر لكي تكون قصائد المهرجانات للشعر أولاٍ وللمهرجانات ثانياٍ .
وفي ذات السياق كانت له وقفة نقدية من “المؤتمرات الأدبية” التي رأى فيها انها تشكل تعارفاٍ مكرراٍ لا معرفة وقد تؤكد صداقات لا ثقافات وقال أن العراق أول قطر يتنبه إلى المجيد بين المهملين من أنظمتهم فأنتهج مبدأ الدعوات الخاصة إلى مهرجاناته الأدبية متجاوزاٍ الاتحادات ووزارات الثقافات لأنها لا تبعث أدباء حقيقيين وإنما تبعث محاسيب ومحسوبين وقال :
المؤتمرات دليل الوعي السياسي ولكنها ليست السياسة ودليل النضج الأدبي ولكنها ليست النضج لأنه لا يأتي منها وإنما إليها) .
ولعل من الضرورة بمكان أن نقف عند موضوع ديمومة المعاصرة وفصول المستقبل إذ يرى أن تعدد ضروب الشعر وتداخل الأصوات بالصوت الواحد أدل على الأصالة الشعرية وعلى استمرار الابتكار لأن تعدد المستويات يدل على تعدد التحولات في المناخات الشعرية ويقول ( أن التفاني في أدبنا المعاصر هو امتداد من تراثنا الدائم المعاصرة كثورية المتنبي على الروم ونقد أبي العلا التهجمي على كل السياسات والدعوات لأن تلك الأعمال إما للفن أو للمسئولية الشعبية امتلكت طاقة الامتداد لامتلاكها لحظتها التاريخية ويرى أن أي عمل مهما كان عظيماٍ يتعطل بفقدانه لحظته التاريخية ويرى ان الأعمال تتسرمد من خلال امتلاكها لبدء التحول حتى يصبح عصرها كل عصر وموطنها كل الأوطان .
ويقول أن استبصار أحداث الحاضر يتضمن تاريخ المستقبل الذي يتناسج من ذرات الحاضر لأن كل حاضر يصوغ مرحلة أو مراحل من تاريخ المستقبل ويرى أنه ما من عهد مستقبلي إلا وهو من صيغه أحداث ما ماضويه عكست تغيراته النظريات الفلسفية أو الأقاويل الشعرية والكتابية ومثل ذلك يتجلى في النص البردوني الإبداعي الذي يمتلك لحظته التاريخية فيصبح دائم المعاصرة والتجدد لأنه جاء من حس بالمسئولية الشعبية ومن استبصار لأحداث الحاضر فيكاد أن يؤرخ لفصول المستقبل كما في نص ( ربيعة الشتاء ) المكتوب في مايوم 1990م والذي يقول فيه:
ذا جمر صنعاء خفت إذ أحرقوا
فيه بخور الشيخ أن تسعلي
إلى أن يقول:
وقال مضن يا العقيم التي
شاءت مواني هنت أن تحبلي
يا بنت أم الضمد قولي لنا أي علي سوف يخصي علي
ولعل هذه الإشارات التي تؤمي إلى المستقبل كانت أكثر وضوحاٍ في فصول لتاريخ التالية لكتابة النص ومثل ذلك قوله في نص (محشر المقتضين) المكتوب في صيف 92م والمنشور في ديوانه رجعة ( الحكيم بن زايد ) الذي يقول فيه:
شكت إلى أمها أم أرى حسنا
يعود حيناٍ وينسى البيت أحياناٍ
أخاف تزويجه يا أم ثانية
خافي إذا زوجوه الجب عريانا
أخوك (مران ) كم قلنا يعود غدا
وبعد عشرين شهرا عاد جثمانا
لأن من أم صنعاء حاملاٍ قبساٍ
حسته واستمطرت للأهل سلوانا
مثل هذه الإشارات التي تبصر من المستقبل بين ثنايا الحاضر تكثر في النصوص الإبداعية وهي دالة على نفسها مفسرة بأحداثها تاريخها لكل متأمل حصيف لعل أحداث 2011م قد كشفت الكثير من أسرار تلك النصوص .
أما مصطلح الحداثة فيرى أنه مصطلح كل العصور لأن نزعة المغايرة وعوامل التجديد من سمات كل العصور وهو ينكر على الحداثة نفي ما قبلها لأنها امتداد منه ويرى أن الفنون بكل مسمياتها لا تتقاطع مهما أتضحت الفروق … فكم من نماذج فنية حديثة في عصرنا سبقتها أمثالها من النماذج وما زالت تحمل طابع الحداثة رغم بعدها عن الزمن الحديث .
ويقول : ليست الحداثة مجرد اختلاف أشكال ولا هي جمال مجاني بدون مهمات وإنما هي تغيير في النفس كان انعكاساٍ لتغيير في الواقع الثقافي والسياسي فالحداثة رؤية مقرونة بأسباب مادية في أدب كل عصر ( أشتات) ص108.
ويقول : ما من شك أن الإغراق في التجديد منشود ولكن ليس في ظاهر الشكل وإنما في جدة الشكل وحداثة الرؤية وفرادة الزاوية التي تمتد فيها وإذا تتبع أي مثقف هذا النتاج الموصوف بالجده فسوف يجده بين حكمين الحكم الأول يحسب الجدة له والحكم الثاني يحسب غياب الجودة عليه.
لأن غياب الجودة عن الجدة غياب عن الأدب كلياٍ فضلاٍ عن غياب الحداثة فالجودة شرط الجدة وحداثة الرؤية شرطها معاٍ وفرادة المنظور شرط في نفوذ الرؤية وبعد مرماها لأن الجدة قوة تغييرية لا تأتي إلا من متغير نفسياٍ ورؤيويا عن حس بمسؤولية المهمة وبقيمة الحداثة وشرط أدبيتها .
*****
تلك بعض ملامح الحس النقدي للبردوني وهي تومئ ولا تستقصي الأبعاد ولعل الموضوع بحاجة إلى وقفة منهجية لجلاء الصورة وبيانها وحسبنا في هذه العجالة أننا أو مأنا .

قد يعجبك ايضا