مجموعة أقاصيد ..تزيد عن الخمسة وتسعين نصاٍ.. بعنوان “حياة.. قيد الاحتراق” للقاصة صابرين الصباغ صادرة عن دار الهدى الإسكندرية 2014م.
لم تكن هذه المجموعة هي المجموعة الأولى للكتابة التي أقرأها.. فلها عدة روايات.. وعدة مجاميع قصصية ونثرية .. لذلك استفدت من تجربتها السردية في كتابة أكثر من مجموعة قصيرة جدا. والتي عادة ما تثير إعجاب القارئ لأفكار ومواضيع نصوصها.. والأكثر دهشة تلك الدقة في بناء النص.. واختصار كلماتها بما لايخل.
الصباغ عاشقة لفن السرد.. تكتب بحب وصدق ولذلك تشعر القارئ بنبض كلماتها.. وتصنع جسورا خفية بين تلك النصوص والقارئ الذي حتما سيتساءل أي قدرة امتلكتها هذه الكاتبة وأي سلطة لها على النص القصير جدا¿
الصباغ تكتب بروح الفنانة .. وهذه النصوص خير دليل لمن يقرأها. ولا أخفيك قارئي الكريم أني احترت في تحديد الزاوية التي سأكتب بها مقاربتي.. تلك الحيرة التي تولدها كثرة المعطيات.. وليس شحتها. ولهذا أجزم بأن الصباغ ضمن القلائل في الوطن العربي من يجيدون كتابة فن القصة القصيرة جداٍ. القصة الومضة.. الأقصودة.. تلك التي تجمع بين لغة الشعر.. وخفة النكتة.. وعمق الحكمة.. وحدث وسرد القصة.
وأعترف بأن مالفت انتباهي في نصوص المجموعة أن الكاتبة تقدم أروع نصوصها التي لا تتجاوز العشر كلمات.. أي السطر الواحد.. وبالمقابل نجد أن الفكرة تتوه كلما قدمت النص الطويل بفنيات الأقصودة.
ثم قادتني بداية تلك الملاحظة إلى النظر في عناوين نصوص المجموعة.. لأجد أن من بين 96 عنواناٍ هناك نص وحيد عنوانه من ثلاث مفردات “الف ثورة وثورة” وأربعة نصوص عناوينها من مفردتين” نيران صديقة , مسدس صوت,جناح الذل,فما ظلم” مقابل واحد وتسعين عنواناٍ عناوينها من مفردة واحدة. هذا يعطينا فكرة أن الكاتبة تجيد تطبيق ما استشهدت به في الصفحة الثالثة من هذه المجموعة حين قدمت إصدارها كإهداء” إلى العلامة محمد بن عبد الجبار بن حسن النفري صاحب المقولة الشهيرة:كلما اتسعت الرؤية ..ضاقت العبارة. فهو لم يكن يدري أن مقولته هذه بعد قرون ستكون مدخلا من مداخل الحداثة في الأدب” انتهى نص الإهداء. أو الاستشهاد. وهذا لم يأت من فراغ بل بادراك وإيمان بهذا الفن الذي لا يجيده إلا القلة.. أما من يكتبونه فكثر.
بعد العناوين دفعتني النصوص إلى إحصاء مفرداتها.. لأجد أن أقصر نص “عكاز” وهو أول نصوص المجموعة قد تكون من ست كلمات .. أي نصف صدر. بينما أطول نص “مارثون” وهو آخر نصوص المجموعة تكون من خمس وستين كلمة.. أي إحد عشر سطراٍ. وبين النصين نجد أن نصوص المجموعة قد توزعت على النحو التالي: نص واحد من خمس مفردات .. ونص من ست مفردات..وثلاثة نصوص من تسع مفردات.. ونص تكون من عشر.. ونص من إحدى عشرة كلمة..وثلاثة من اثنتي عشرة كلمة..وستة نصوص من ثلاث عشرة كلمة.. وستة من أربع عشرة مفردة.. وستة من خمس عشرة كلمة وسبعة من ست عشرة كلمة.. ونص من سبع عشرة كلمة.. وخمسة من ثمان عشرة كلمة.. وأربعة من تسع عشرة.. وهكذا تتوزع تلك النصوص .. حتى نصل إلى أطول نص والذي يتكون من خمس وستين كلمة . بمعنى أن أربعة وأربعين نصاٍ لم تصل مفردات كل منها لأكثر من ثلاثين مفردة.. وأربعة لم يصل كل نص إلى أربعين مفردة.. أما نصوص المفردات الأربعين فهن نصين فقط.
بمعنى أن نصوص المجموعة والتي قاربت المائة نص .. كانت القصيرة جدا أكثر من الطويلة.. فالذي لم تتجاوز العشر مفردات عشرة نصوص .. والتي لم تتجاوز العشرين كلمة خمسة وثلاثون.. واثنان وأربعون بين العشرين مفردة والثلاثين. وهذا يعطي مؤشرا على قدرات الكاتبة في كتابة النص القصير والمكثف جدا.
بعد ذلك ذهب بي الأمر لإحصاء حروف كلمات بعض نصوصها.. لأجد أن المفردات التي لا تتجاوز الثلاثة أحرف تصل إلى الثلثين في المائة في أكثر نصوصها. ولا أريد التعمق في هذا المنحى.. فقط أردت المرور على العناوين وعدد كلمات كل نص.. للتدليل على قدرة الكاتبة في تقديم نصوص غاية في الإيجاز والتكثيف.. يصل الأمر في دقة بنائها إلى أننا لو أضفنا كلمة أو حذفناها لأختل النص.. بل في أكثرها لو غيرنا من حرفُ واحد لتغير المعنى للنص.
وما أردته هو أن أقدم أهمية وصعوبة هذا الجنس السردي الذي لا يجيده إلا القلة ويكتبه الآلاف.. ولا يعني من يكتبه أنه يجيده.
نصوص الصباغ تأتي في مستوى عال من النضج الفني والموضوعي. فهي تقدم لنا نصوصا لا تخلو من السخرية .. وأخرى ما أن ينتهي القارئ من قراءتها حتى يأخذه التفكير والتأمل حول مغزاها ومدلولها.. وثالثة تستخدم الرمز لما يمكن أن يوصل إلى القارئ ما يمكن أن يشرح في صفحات.
وقليلا ما تستخدم الصباغ المفارقة والتضاد.. معتمدة على عمق المعنى.. وجزالة وقوة المفردات المنتقاة بدقة فائقة .. كما لو كانت الكاتبة في مختبر تضع مقادير محددة وتعي ما تصنع لتخرج بترياق فعال.. أو عطر غاية في الروعة.
معتمدة تقديم بعض نصوصها كما لو كانت لقطات سينمائية وأخرى مشاهد مسرحية.. وثالثة لوحات سردية تضج بالمعاني والدلالات.
متنقلة بين الهم الاجتماعي والسياسي.. والوجداني.. والإنساني.. غائصة في هموم الفرد البسيط .. وذلك الأكاديمي المستنير.. ومع الجندي والفلاح والعامل والموظف.. متنقلة بين غرف النوم.. وشوارع تعج بالأحداث.. وهموم أم أستشهد ابنها إلى أم تخاف على ابنها العاق. إلى العشيق والمعشوق والرجال المتسلطة. فحولة مستلبة. ونساء لا يهمهن الا الحياة.
وبذلك يجد القارئ نفسه في أكثر من نص أحدى شخصيات تلك النصوص.. بل وهو عينه من يعنيه النص. لتومض الدهشة الكامنة لسحر تلك الألاعيب السردية وما تحمله. ويشتعل فتيل العقل ويوقد نبض القلب.
“توكأت على عصاه.. فنخر عصاه سوسهن” هل العصا هي الصحة.. الفحولة.. هذا النص فارق برمزيته.. بديع في مدلولاته.. فما هي العصا.. ومن هن .. ومن هي¿ ” عزم على التغيير ..قرر ألا تراه خائنا.. فاقتلع عينيها” أي جبروت تحمله هذه الكاتبة لتصنع لنا نصوصاٍ بهذا القوة وهذه المعاني التي يمكننا تحميلها اجتماعيا وسياسيا.. ودينيا .”علمه والده أن عدوه الأول الحرية..فجمع كل المفاتيح.. صهرها وصنع منها قضبانا” هو نص بقوه وفرادة بقية النصوص .. يبعث على التأمل والتفكير العميق. “سقط بيتهم من القصف الجوي.. أخرجت دميتها مغبرة جلبت قطعة قماش بيضاء كفنتها.. بكت…” تلك الكلمات القليلة تمنحنا أفقا من التفكير .. وأكثر من قراءة لنص باتع “جلس بالمعتقل والأصفاد في يديه وقدميه كلما انتهى من قراءة كتاب سمع صوت الأصفاد تتكسر” ونص أخير أصطفيه من بين عشرات النصوص الفارقة الباعثة على التأمل ” أتمسح بالزجاج حد الالتصاق كذبابة سمجة..أقدم زهرة لحبيبته وعند إصراري يشتريها.. يمنحها لها تبتهج..أحصل على المبلغ وأرحل بعيداٍ.. أتعجب من سعادة المرأة بزهرة واحدة.. وأنا أمتلك العديد منها…”
وأنا أقرأ تلك النصوص متخيلا الصباغ كم تشقى في البحث عن فكرة مناسبة.. ثم تأخذ بتقليبها والبحث عن لغة لتكسيها.. ثم تعدل وتغير حتى ترضى بها.. نصوص كالمنمنمات والأشغال الفنية الدقيقة.
كلمة أخيرة.. كلنا نكتب النص القصير جدا.. لكننا لا نمتلك القدرة على إنجاز النص الفارق.. النص المدهش كما هي الصباغ.
نصوص أمتعتني ودعتني لكي أكتب عنها.. بإعجاب شديد. شكرا للأستاذة الرائعة صابرين الصباغ.. وننتظر جديدك دوما.