مجموعة قصصية من 80 صفحة ضمت 24 نصاٍ قصصياٍ قصيراٍ.. صادرة عن دار العماد في القاهرة لعام 2014م.
ولأن قراءة السرد متعة غير منتقصة كانت مجموعة “في انتظار سنتا” ضمن قراءاتي لشهر يوليو الفارط .
ومن أول نص جذبتني هذه المجموعة. بعد أن ظننت قبل البداية أني سأنجز قراءتها في جلسة واحدة لصغر حجمها. لتأخذ مني عدة جلسات قراءة.لم تكن عبئاٍ علي.. بل متعة وبحثاٍ في مقاصد النص..أبحث عن جوانب التلاقي بين نصوص المجموعة وأوجه التضاد.. عن محاور مشتركة في أسلوب الكاتبة وتقنياتها لأقارب تلك النصوص في مقال أنجزه عنها.
زاد إعجابي بتلك النصوص من إعادة القراءة كقارئ متذوق للقصة القصيرة.. لأجد أن هناك أكثر من زاوية يمكنني مقاربة نصوص المجموعة .. فهناك: الوصف.. التهكم والسخرية.. أفكار النصوص ذات المنحى الاجتماعي… الخ .
أخذ مني كل نص أكثر من قراءة ليس لشيء إلا للمتعة والتأمل .. إضافة إلى ذلك الأسلوب المشوق في عرض الفكرة والوصل بالقارئ إلى ما يراد تقديمه . لحظات قراءتي ولروعة ما تلك النصوص تمنيت لو أنها تصل إلى أكبر عدد من القراء .. وتنشر على نطاق واسع وبما يليق بجهد الكاتبة المبني عن وعي متقدم من حيث فنيات السرد ومعالجة الفكرة.
وبداية مقاربتي سأتناول بدايات ونهايات بعض تلك النصوص. بعد ملاحظتي أن الكاتبة اعتمدت مع بداية كل نص على عدة جمل تمهيدية.. ولم تلق القارئ بالقارئ بصورة مفاجئة في أتون أحداث النص وبشكل مبهم.
فمثلا النص الأول في المجموعة “المظلة” تقرب لنا تلك الصباحات الشتوية الباردة.. ثم تعرج إلى علاقة الطقس بالمشاعر الإنسانية. ثم وبعد البداية تأتي بحرص الأم وخوفها على أبنائها ووقايتهم بالعديد من الملابس والمظلات بشكل مبالغ فيه.. مقدمة عدة لوحات ومشاهد سردية تعمق خضوع الابنة حتى بعد أن أصبحت طالبة في الجامعة لما تراه أمها مناسبا لها ما يجعلنا نستذكر طفولتنا أقرباءنا من أم وأب وإخوة كبار أو أقارب وحرصهم الشديد على حمايتنا من الأخطار.
ومن نص ثان بعنوان”الصيد” يقدم لنا متسول يبحث عن ما يسد رمقه بين مخلفات المطاعم.. ناقلة لنا نظرته ومفهومه لما حوله في جمل تمهيدية” نظر خلسة يمنةٍ ويسرةٍ وما لبث أن بلغ غايته.. يمد يده باحثا عن أمل.. يرى كيساٍ كبيراٍ مكوماٍ.. يفتحه بلهفة ما يلبث أن يتعكر صفوه. فالعلب البلاستيكية التي ملأت الكيس كانت فارغة” قد يقول قارئ إن ما ورد ليس بداية فحسب بل نصاٍ مكتملاٍ.. فيه أيضا البداية والوسط بعقدته والنهاية بمفارقتها. وأقول إن هذا أيضا ما تمتاز به تلك النصوص إذا لو انتقلنا للوسط سنلاحظ أن كل وسط نص مكتمل الخصائص.. وكذلك النهايات. وتلك البداية هي أحد أجزاء النص الثلاثة لدى الكاتبة والتي يأتي بعد ذلك الوسط ثم النهاية. هكذا يشعر القارئ بأن الكاتبة تصنع نصوصها من ثلاثة أجزاء رئيسية.. لكل جزء وظيفته.. فالكاتبة كما هو النص القصصي المتعارف عليه تضع العقدة في المنتصف.. وسنتحدث بشكل موجز عن العلاقة بين الثلاثة الأجزاء لدى القاصة لاحقا.
نص ثالث ” الخلطة السرية” بداية حين يكون أفراد الأسرة في الفة تجمعهم من بعض ثم يغير المال تلك الألفة ونأتي بالجمل الأولى للنص “مين هيعمل الفول¿ “بابا” تردد الأفواه الخمسة في نفس واحد فتبتسم الأم .. وتفرغ دماسة الفول متمتمة “” طازة ولسة مستوي حالا”….” وبداية أخرى من نص بعنوان ” الطابور” وهذا النص يختلف عن بقية النصوص التي تناولت القاصة جل مواضيعها من داخل المجتمع المصري.. لتنتقل في الطابور إلى مجتمع نفطي مسلطة الضوء على مقدار ما تلاقيه العمالة الوافدة من استغلال وتعسف ” الساعة السادسة صباحا يأتي الصوت صاخبا من خلف نافذتنا الزجاجية .. ألمح تلك الأجساد المتراصة .. أتعجب.. وأسأل نفسي: متى يبدأ هؤلاء يومهم ¿ أتابع الصفوف التي تقوم بتمارين صباحية ككتيبة عسكرية .. ثم انتباههم الشديد لرئيسهم وهو يلقي عليهم تعليمات اليوم ونأتي بعد المقدمة على نهاية النص حيث تقول الفقرة الأخيرة منه” أخلي الموقع واكفهرت المنطقة.. وتوقف البناء.. وبت أسمع بديلا عن أصوات الطوابير الصباحية.. أصوات أزيز الآلات الضخمة والرافعات الحديدية بفعل الرياح وبعد أسابيع انتبهت على صخب .. نظرت من نافذتي .. كانت هناك حافلات تحمل وجوهاٍ أخرى أكثر نظارة تحمل في عيونها بعض الأمل تتبع أوامر بتنظيف المكان من النفايات ثم توالت التمرينات الصباحية كل يوم.” ومع بداية النص ونهايته كانت هناك عدة فقرات في متن المنتصف تبين محاولة العمال الاحتجاج على أوضاعهم إلا أنهم قمعوا.. وتم الاستغناء عنهم.
نهاية أخرى من آخر “الحرز” في هذا النص تجمع لنا الكاتبة الفقر والإرادة حين تكافح فتاة في سبيل نيل حقها من التعليم رغم حاجتها لما يسد رمقها.. بعد أن استحدثت الإدارة التعليمية نظام تفتيش حقائب الطلبة بغاية الخوف من دخول أو تهريب الممنوعات..جاء في النهاية “بعدما دارت بعقلها الأسئلة والاستجوابات وافقت على منحهم سرها الأكبر .. في شنطتها وجدوا بقايا سندوتشات الطلبة التي تجمعها من الطاولات بالاتفاق مع عامل الكافتيريا …”
ما يلفت في فقرات بدايات ونهايات تلك النصوص أنها تمثل نصوصا مكتملة.. بل إن جميع فقرات بعض النصوص هي الأخرى تمثل كل فقرة نصا مكتملاٍ .. إذا ما تأملنا أثناء قراءتنا لكل نص بشكل فاحص.. وتأملنا كل فقرة.. وفصلناها عما سبقها ولحق بها .. لنكتشف أن المساحة السردية بين بداية تلك النصوص ونهاياتها تعج بالنصوص الجميلة.
إذاٍ تأتي جل فقرات تلك النصوص كنصوص مكتملة.. ومن فقرات البدايات والنهايات.. وهذا ما يعطي القارئ مزيداٍ من المتعة.
أمر آخر .. تلك اللغة المختصرة من مفردات منتقاة بعناية .. إلى جمل جاء تركيبها بشكل مدهش بما يسمى بالتكثيف.. حيت تقدم لنا الكاتبة جملا ببناء محكم.. وبتراكيب رائعة. لتنتهي بتلك الفقرات التي تمثل كل فقرة نصاٍ متصلاٍ ومنفصلاٍ عما يجاوره.
ونعود للعلاقة بين بداية كل نص مع نهايته .. فبعض تلك البدايات ترسمها الكاتبة كنقيض للنهايات.. فقد نجد بعض البدايات يبدو في مشهد حيوي مبشر بأمل .. ليأتي نهاية النص بمشهد خامل فيه من خيبة الأمل كما هو في نص “الطابور” ونص” الخلطة السرية” و”الحرز” ونص بعنوان “ريحة الكحك” ونص “بطاقة هوية”. نص أخير بعنوان “رحيل” يتماثل مع ما سبقه.
نصوص أخرى عكس ذلك تأتي بداياتها محبطة لتختتمها الكاتبة بنهايات سعيدة مثل نص”المظلة” الذي تبدأ الفتاة حياتها دون شخصية مستقلة.. حتى رحيل أمها.. لكنها النهاية تأتي بحرية تلك الفتاة التي ظلت تعيش تحت ظل أمها.. وتلك رمزية للتمرد والانطلاق وتكوين الشخصية. وأيضا في نص ” الصيد” الذي يخيب فيه أمل الباحث عن فتات يأكله في أكياس أحد المطاعم .. لينتقل إلى نفايات مطعم آخر وعندها يجد مبتغاه “يفتش الصندوق هذه المرة وسط نظرات مستهجنة من موظفي أمن المطعم .. يتشبث بمحتويات العلب البلاستيكية والورقية: بضع شرائح بطاطس.. بقايا شطيرة بها فتات لحم..أوراق من الكاتشاب.. يحملها بين يديه .. يجلس غير بعيد في نشوة يتناول وجبته من صيد اليوم” .
نصوص المجموعة لا تقبع متعتها في تلك المفارقات التي تجيد الكاتبة صناعتها في نهاية نصوصها.. بل إن المتعة الكبرى تقع بين فقرة البداية لكل نص والفقرة النهائية.. فوسط النص تأتي جمل تزيد من جذب القارئ.. وجمل أخرى على شكل أسئلة تدفع بالقارئ للبحث عن أجوبة لها.. وهكذا تقدم الكاتبة ألاعيب وفنيات مبتكرة ليرافقها القارئ بمتعة إضافية حتى النهاية.. ولا يتوقف ذلك في النص وما يحمله من إدهاش.. بل إن كل نص يدعوك لقراءة النص الذي يليه. وهكذا دواليك.
عالجت الكاتبة في هذه المجموعة عدة قضايا اجتماعية وإنسانية غاية في الأهمية.. مسلطة الضوء على حياة المهمشين.. من متسولين وأفراد يكافحون في صمت رغم شحة إمكانياتهم.. ولم تبتعد عن معاناة المرأة.
رغم مساحة نصوصها القصيرة إلا أنها أوصلت لنا عبر تلك اللقطات الفنية والمشاهد السردية روائح الناس والمكان.. وصخب الأصوات وتداخلها.. بل ومتعة أن يشعر القارئ بأنه شخصية من شخصيات تلك البيوت والأسر والشوارع والمنشآت الخدمية.. ولم تركز على الحارة بل خرجت إلى الأحياء ومواقع العمل .. وغادرت في بعض نصوصها موطنها إلى حياة المهجر وقسوته في نصيها الرائعين”الطابور”.. و”رحيل” وهناك نصوص فارقة تستحق الوقوف عند مضامينها وبناها الفنية مثل” بطاقة هوية” و ” مركز ثقافي” و “لقد أكلت البيض” هذه النصوص نسجتها الكاتبة بتهكم وسخرية ناقدة أوضاع الفهم الخاطئ للدين.. وفظائع الحروب والتسلط.. ولعنة الفساد المستشري في أجهزتنا الإدارية. لكن لضيق المساحة نكتفي بما تناولناه وباختصار شديد.معتذرا لتك النصوص الناضجة عن عدم تناولي المزيد منها.
مختتما مقاربتي هذه بالحديث حول نص مختلف عن بقية نصوص المجموعة.. بل وعن كثير من نصوص كثير من الكاتبات والكتاب القصصية وهو بعنوان ” في البحث عن بداية” هذا النص الذي سلطت للقارئ أسلوب الكاتبة في البحث عن أفكار نصوصها .. حين تخصص وقتا لمعايشة سكان الأحياء الشعبية وتقف في طوابير الجمعيات والأفران ليس لشيء إلا لتسمع وتعايش ما يدور. مقدمة شهادة في تجربتها بأسلوب سردي جميل.. داعية كل كاتب وكاتبة إلى معايشة الناس من خلال تخصيص أوقات على المترو والحافلة وفي طوابير الجمعية وعلى المقاهي … إلخ ذلك.