ذكريات عابقة بحب اليمن

ستظل اليمن وجهة كل باحث لمعرفة تاريخها العظيم وحضارتها العريقة ومقصد كل عاشق للطبيعة وسحرها الذي يأسر القلوب والعقول وما كتب عن اليمن ليس بقليل وما نشر ليس بأقل فهناك الكثير ممن زاروا اليمن وفتنوا بها بجبالها ووديانها وسهولها وشواطئها من مستشرقين وباحثين من أجانب ومن عرب فكتبوا عن التاريخ وعن الإنسان الذي يصنع التاريخ عن الطبيعة وسحرها وعن كل ما قابلهم في رحلتهم داخل اليمن.
وأمامنا كتاب لأحد هؤلاء ممن عشقوا اليمن وعاشوا فيها فترة ليست بقصيرة وحاولوا بقدر المستطاع زيارة أكثر الأماكن وسجلوا كل لحظة زاروا فيها اليمن وكتبوا عن آثارها وحضارتها ووديانها ومدرجاتها وهو الدكتور مصطفى محمود سليمان أستاذ الجيولوجيا بجامعة الزقازيق وأحد الأكاديميين المصريين الذين عملوا في جامعة صنعاء وترأس قسم الجيولوجيا في كلية العلوم منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي ولطبيعة عمله كأستاذ جامعي وجيولوجي أكاديمي فقد قام برحلات عديدة شاركه فيها طلابه في القسم وهذه الرحلات شملت معظم مناطق اليمن المختلفة سجل خلالها انطباعاته ومشاهداته وذكرياته وكان نتاج ذلك هذا الكتاب الذي اسماه “رحلة في أرض سبأ” سنحاول تصفحه ومعرفة محتوياته:

اليمن السعيد
لقد بدأ المؤلف كتابه بوصف الطبيعة الخلابة والجميلة لهذا البلد السعيد وما شاهده من مناظر تبهج النفس وتسر الناظرين ووصف الإنسان اليمني وماله من مهارات وطاقات شهدت بها كتب التاريخ وذهل للإمكانيات والثورات المعدنية والبترولية والبشرية والسياحية الموجودة حالياٍ التي لابد من استغلالها حيث يمكن عبور حاجز التخلف الذي ورثه النظام الإمامي بسهولة ويكون لهم دور اقتصادي وسياسي مستقبلاٍ ويضيف: إن ما عاناه اليمنيون في ظل حكم الأئمة لم يكن بقليل فالتاريخ قد نسيهم في ظل تلك الحقبة فقد عمل الأئمة على إغلاق الأبواب والنوافذ على هذا الشعب الحي وجعلوا الأساطير والخرافات تحاصرهم وقد انعكس هذا التاريخ على كل مظاهر الحياة في اليمن وعلى اليمنيين أنفسهم.
الباب الشامخ
وفي أحد المشاهد الجميلة التي أعجب بها المؤلف والتي رآها في باب اليمن هو خروج الناس بعد الانتهاء من صلاة الجمعة وزحفهم نحو باب اليمن الذي لا يزال كما كان فهو أحد أبواب صنعاء القديمة السبعة والذي لا يزال قائماٍ شامخاٍ شموخ اليمنيين فيقول متعجباٍ:
إذا قدر لشخص أن يتواجد في منتصف النهار مثلاٍ في مكان مثل باب اليمن في صنعاء القديمة وبخاصة بعد صلاة الجمعة فإنه يشاهد أفواجاٍ متلاطمة من البشر يسيرون ببطء ويرتدون ملابس قصيرة ملونة زاهية متوجهة ويحملون على اكتفاهم الشيلان والكوافي الخضراء والحمراء والزرقاء والصفراء والسوداء المزركشة بالقصب الأصفر اللامع.
ويصف الرجال المزينين بالخناجر فيقول: وعدد قليل من الرجال قد كحلوا أعينهم بكحل أسود فأصبحت حافات جفونهم سوداء لامعة بصورة واضحة جداٍ وقد لف كل واحد من هذه الحشود وسطه بحزام مزركش مثبت بخنجر معقوف ذي حدين يسمى جنبية ولا تخلو هذه الحشود من الأقزام وقد اختلطت فيها السلالات البشرية المعروفة.
جامعة صنعاء.. الجوهرة اليمنية
أما جامعة صنعاء التي هي مقر عمل المؤلف فقد تحدث عنها المؤلف وعن التطور المتسارع التي تشهده هذه الجامعة منذ إنشائها في العام 1970م حين بدأت بكلية التربية حتى وصلت الآن إلى كليات مختلفة كالطب والهندسة والشريعة والتجارة وغيرها فظهرت المباني الحديثة والجميلة الممزوجة بالطراز المعماري اليمني تجلت من خلالها براعة المبدع اليمني.
ويصف ذلك بقوله: وبعض منشآت صنعاء لا مثيل لها في كثير من بلدان العالم الثالث وبخاصة كلية الطب فهذه الكلية هي لؤلؤة  الجامعة فقد أقيمت هذه الكلية في شمال صنعاء على مساحة كبيرة فوق ربوة عالية وأحيطت بالحدائق المدرجة الجميلة التي يتم الاهتمام بها ورعايتها.
لا بد من صنعاء وإن طال السفر
كعادتها صنعاء تفتن كل من يراها ويعيش فيها كيف لا فمبانيها القديمة تسحر الأبصار ومآذنها العالية تشتت الأذهان ومتنفساتها الرائعة تبهج النفوس وتزيل العلل ويبدو أن المؤلف قد أعجب بهذه المدينة الساحرة فقال عنها: قد حبا الله سبحانه وتعالى صنعاء بربيع دائم فهي على علوها من سطح البحر الذي يقدر بـ2400 متر لا تعرف الثلج وهي على قربها من خط الاستواء لا تعرف قيظه غير فترات وجيزة ويسقط المطر على صنعاء في أيام الصيف وقد يبدأ مبكراٍ من منتصف شهر مارس وحتى اكتوبر وعندما يسقط المطر فإنه يغسل جدران بيوت صنعاء وشوارعها فتزداد بهاء وجمالاٍ ويغسل هواءها فيصبح أكثر رقة وعذوبة.
وكان لصنعاء قديما من أسباب العمران والمجد والغنى حتى قصدها الناس من جميع أرجاء الجزيرة العربية وعبر عن ذلك شاعر مجهول ربما يكون الزاجر كما يقول ابن خرداذبة في المسالك والممالك بقوله:
لا بد من صنعاء وإن طال السفر
وإن تحنى كل عود وانعقر
والعود هو الجمل المسن وصار هذا البيت مثلاٍ وهو يضرب على إمكان المستحيل وقالوا أيضاٍ:
لا بد من صنعاء وإن طال السفر
 لطيبها والشيخ فيها من دِبر
وتعني كلمة دِبر هو الشفاء من المرض كما وصف مباني صنعاء من الداخل وزاد إعجابه بالقمريات التي تزين المنازل من الداخل ومن الخارج وطريقة صناعتها والأدوات المستخدمة في ذلك.
سقطرى وشجرة دم الأخوين
من المناطق التي زارها المؤلف وتعرض لها في كتابه بالكثير من الوصف والإعجاب والدهشة بسحر الطبيعة التي تتمتع بها جزيرة سقطرى هذه الجوهرة التي تسكن المحيط وقد عبر عن ذلك بحديثه عن قراها ومنازلها وجبالها وسفوحها ووديانها ونباتاتها وحيواناتها وناسها وعاداتهم وتقاليدهم.
ومما قال: إن أرخبيل سقطرى هي امتداد جيولوجي للجزيرة العربية وأفريقيا وقد ارتبطت تاريخياٍ وسكانياٍ ببلاد المهري في شرق حضرموت وقال إن أجداد المهري كانوا يسمون حبشت وتعني حاصد اللبان والمر والصبر والنباتات العطرية وقد هاجر بعضهم بسبب الحروب والغزوات التي تعرضوا لها إلى بلاد كوش بشرق أفريقيا وكونوا مملكة حبشت واكسوم التاريخية ونقل المهاجرون معهم لغة وخط جنوب الجزيرة العربية وهو الخط الذي لا يزال سكان الحبشة يستعملونه حتى يومنا هذا مع بعض التعديلات وقد انقرض هذا الخط من جنوب الجزيرة العربية بعد أن اكتسحته لغة شمال الجزيرة العربية لغة القرآن الكريم وربما كانت لغة أهل جزيرة سقطرى الحاليين هي لغة إحدى ممالك جنوب الجزيرة العربية مع بعض التعديلات.
ويقول عن شاطئ الجزيرة: وشاطئ جزيرة سقطرى الجنوبي أكثر استقامة من شاطئها الشمالي والغربي وتكثر الخلجان الصغيرة في الساحل الشمالي للجزيرة وتكثر السهول الواسعة في جنوب الجزيرة وتمتلئ تلك السهول بالكثبان الرملية والجزء الغربي قاحل ويشبه غرب شبه الجزيرة العربية.
أما وسط الجزيرة وشمالها فيتكون من جبال عالية ذات قمم وعرة يرتفع بعضها نحو 1500 متر فوق سطح البحر قطعها أودية عميقة واسعة أحياناٍ وتمتلئ بالجلاميد والكتل الصخرية الضخمة وقد جرفتها السيول القوية من قمم الجبال العالية وقد تنمو في هذه الكتل الصخرية شجيرات ونباتات مزهرة جميلة وتشكل منظراٍ خلاباٍ كما في وادي عيهفت الذي يبعد نحو 15 كيلومتر جنوب غرب حديبو العاصمة.
أما الجداول فهي منتشرة في كل الوديان الكبيرة وهي دائمة الجريان وتكون بحيرات صغيرة أحياناٍ وشلالات في أحيان أخرى وتكثر زراعة النخيل فيما يشبه الواحات في الوديان حول مجاري المياه وبحيراتها وتنتج النخيل مرتين إلى ثلاث مرات في العام.
حضارة سبأ وسد مأرب
وعن الحضارة السبئية يسرد المؤلف جزءاٍ من تاريخ سبأ وما مرت به من ضعف وقوة وما كان لها من دور تاريخي في محاولة توحيد اليمن حيث كانت هناك العديد من الممالك والدول متواجدة في كثير من الأماكن وكان لطبيعة اليمن القاسية والجبلية دور في عدم وجود دولة توحد جميع المناطق اليمنية كما اعتبر المؤلف أن دولة سبأ مثلت عمود التاريخ السياسي لليمن القديم فيقول:
واستقر السبئيون في المناطق الشرقية في اليمن واتخذوا صرواح عاصمة لهم ثم استبدلوا بها مارب بعد ذلك وشكلت حضارة سبأ عمود التاريخ السياسي لليمن القديم واهتم السبئيون بالزراعة والري واستصلاح الأراضي وإعطائها للفلاحين لاستغلالها وبنوا سدوداٍ كثيرة أهمها سد مأرب المشهور والتي بفضلها ازدهرت الزراعة في سبأ وعم الرخاء أرجاءها حيث وفر سد مارب ري الأراضي بطريقة منتظمة وتحولت أرض سبأ إلى جنات كما جاء ذكرها في القرآن الكريم.
ويربط المؤلف بين سد مأرب واليمن حيث أصبح هذا السد العظيم جزءاٍ هاماٍ من تاريخه وتراثه حيث يقول المؤلف: إن هذا السد يمثل أهم الانجازات الهندسية العظيمة في الحضارات القديمة وهو يشهد على التقدم الذي وصل إليه قوم سبأ في مجال البناء وهندسة الري والسدود والغرض من إنشاء سد مارب هو السيطرة على مياه السيول المتدفقة من المرتفعات الوسطى وكذلك تخزين المياه أمام جسم السد للاستفادة منها في ري المزروعات طوال السنة خاصة وأن مارب منطقة جافة قليلة الأمطار.
وقدم المؤلف وصفاٍ دقيقاٍ لموقع السد القديم الذي يقع ضمن منطقة ضيقة في وادي اذنه ويقع على الحد الفاصل بين المرتفعات الوسطى والسهول المنخفضة التي تليها إلى الشرق وهي بلاد مارب.
حاول المؤلف بقدر الإمكان تقديم معلومات ثرية عن اليمن وتاريخه وعاداته وقد ركز كثيراٍ على الأماكن التي زارها وسجل فيها ذكرياته وحاول سرد مختلف القصص التاريخية والأساطير التي روت في مختلف المناطق مبدياٍ اعجابه في كل ما شاهده من مناظر في مختلف المناطق التي زارها وفي نمط الحياة البسيطة التي يعيشها اليمني سواء في المدينة أو الريف مندهشاٍ من نمط العمارة اليمنية والذي يختلف من مدينة إلى أخرى بحسب مواد البناء الأولية المتاحة والموجودة في البيئة.

قد يعجبك ايضا