في ظني أننا أمام لحظة انتقال نأمل أن تكون حقيقية وفق كل المؤشرات ورموز الواقع – يتوجب فيها التأسيس لقيم أخلاقية بديله للإقصاء , تحضر فيها مفردات الحرية والتعايش وتقدير الرموز ، وأرباب التاريخ الوطني ، نجعل لهم قدرهم ومنزلتهم التي تليق بهم ونترك للتاريخ محاكمتهم , ومحاكمة مراحلهم التاريخية المختلفة ومحاكمة أفكارهم ، فالقوة – وهي نسبية ومائلة – إذا منحتك سحرها وظللك بريقها عن استبصار الحقائق فلن تدرك ذلك إلا بعد أن تسلبك هي محاسن نفسها وتهبها غيرك , لذلك فالعاقل من يتعظ بعبر التاريخ , ويحاول أن يضبط إيقاع المستقبل بما يخفف من حدة الصراع بين القوى , ليؤسس لقيم إنسانية ومدنية بديلة لقيم الفناء والإقصاء .
فالقضية الوطنية والمشكل الأكبر في اليمن ليس في النظام الذي نادينا بسقوطه زمن الربيع العربي.. بل تكمن في الإشكالات التاريخية التي تحول دون إحداث انتقال في لحظتنا الوطنية , لأن الإشكالات أعادت إنتاج نفسها في نماذج وقوى تقليدية فاعلة كانت ومازالت تعيق عجلة التطور في اليمن ,ولن يتحقق التحديث والانتقال ولا الدولة المدنية الحديثة ,ولا الحكم الرشيد ,ما لم تحدث ثورة حقيقة في البنى الثقافية ,والاجتماعية ,ونعمل جاهدين على تطوير المعيارية الاجتماعية الثابتة حتى تتناغم مع العصر والتمدن والتحديث , فالقضية الوطنية ليست في الهدم ولا في التفكيك بل في الوعي بالحالة من جوانبها المتعددة ، فالذين ذهبوا إلى ساحات الاعتصام قبل عقد ونصف من الزمان أغرتهم الانفعالات فتصوروا أن الذي يحدث ثورة ولم يكن يدر في خلدهم أنهم يصنعون أزمة تهدد اليمن في وحدته وفي استقراره ، ذلك أن الثائر الحقيقي يجب أن يمتلك وعياً قادراً على تشخيص الواقع ويملك مشروعاً بديلاً لما هو كائن أما الاستبدال فهو انقلاب تجاوزه منطق التاريخ.
وقراءة الموقف السياسي لبعض القوى السياسية من الواقع يحيلنا إلى مرجعيتين إحداهما تقدمية ثورية تجاوزها منطق العصر , والأخرى لم تحسن القراءة والاستنباط لعبر التاريخ , ولم تحسن قراءة مواقف رموز المرجعية الدينية كونها النبراس الذي يضيئ المسالك المعتمة , فالرسول(ص) في فتح مكة لم يكن في غلظة أخلاق بعض القوى السلفية ولو كان مثلهم في نابية ألفاظهم وغلظة الموقف والأخلاق لتفرق الناس من حوله ، وكلا المرجعيتين كما نلحظ لم ترق إلى مستوى شعار الدولة الحديثة المرفوع كما أن اشتغالها على المنظومة الثقافية التاريخية يتناقض مع استحقاقات اللحظة الثورية التي عملت على الهدم وليس لديها رؤية واضحة للبناء .
فالذين ذهبوا إلى خيار الثورة وليس خيار الإصلاحات في اليمن في زمن الربيع العربي ذهبوا إلى فراغ من فراغ فقد أعلنوا سقوط الأيديولوجيا ولذلك تاهوا وتاهت الثورة في فراغ المصالح الإقليمية والدولية وفقدت الثورة معناها بفقدانها الفكرة، وتحولت إلى حركة اجتماعية تشيع الفوضى وتهدم ولكنها لا تبني.
نحن بحاجة إلى ثورة حقيقية تستهدف البعد الثقافي والبعد الاجتماعي – وقد بح الصوت ونحن نؤكد على ذلك – من أجل إحداث انتقال فيهما , وبالتالي نستطيع تحقيق التطور في البنية السياسية ونحدث ثورة حقيقية في واقع الناس وحياتهم المعيشية , وقبل كل ذلك علينا أن نفهم فهما جيدا أن السياسة إدارة مصالح وليس إدارة عداوات , ومن خلال هذا الفهم نؤسس لقيم جديدة تستوعب ولا تلغي ,وتعترف ولا تنفي , وذلك بالاستفادة من السيرة النبوية التي حفظت مكانة رموز قريش واعترفت بهم دون أن تنفي وجودهم من حركة الواقع , فالآخر موجود وأنت موجود وكل فرد أو كيان يقدم نفسه كما يحب أن يراه الآخر والمعيار هو النفع العام الذي يترك أثرا على المجتمع , والتاريخ مرآة للكل وهو الفيصل في التمايز وقول ما يجب أن يقال عن الكل من الكل , وحركة التاريخ واضحة جلية لمن يحسن القراءة والاستبصار.
قد تكون ثورة 21سبتمبر 2014م ثورة حقيقية لكن العدوان على اليمن عطل الكثير من طاقاتها وصرفها عن المهام النظرية التي كانت تنتظرها، وهو يدرك خطورتها عليه ولذلك سعى بتحالف دولي إلى محاولة إجهاضها في مهدها.
ومما لا شك فيه أننا نمر بمرحلة تاريخية مفصلية وتحتاج هذه المرحلة إلى مهارات التفكير في تحليل وتشخيص المواقف الصعبة والتعامل معها، وتحتاج أيضاً إلى مهارات إنسانية في العمل والفهم والتحفيز، وتحتاج إلى قدرة على التنفيذ بمعرفة متخصصة وخبرة فنية، إدراكاً أن الذي أعلن عدوانه على بلادنا وشعبنا يتعامل بتكنولوجيا المعلومات في مختلف أنشطته سواءً أكانت عسكرية عملياتية أو حتى الأنشطة الذهنية.. وليس بغافل عن بال أحد أن المعلومات في هذا الزمن أضحت هي المصدر الرئيس في الهيمنة، حتى الهيمنة الاقتصادية، فالتكنولوجيا حولت الاقتصاد العالمي من اقتصاد يحتاج إلى المعلومات إلى اقتصاد قوامه المعلومات.
وعلينا أن ندرك أن العدوان لن يتوقف بتوقف نشاطه العسكري على اليمن ,بل سيستمر في استهداف العناصر والكوادر الوطنية والثقافية والعلمية والسياسية كما حدث في العراق ,وهو ماضٍ في تفكيك القوى الوطنية التحررية، فاليمن سيكون مستهدفاً باعتباره قوة تحمل قيما تحررية – وفق توصيف استراتيجية راند – التي تسير على خطاها السياسة الدولية الحالية، لذلك ووفقاً لما هو متوافر لنا من معلومات لا يلزم السكوت والصمت بل التفكير والتخطيط والتنظيم والتوجيه لنكون وجوداً قوياً غير قابل للفناء أو الإلغاء، ومثل ذلك يلزم الارتباط العضوي مع الحاجات الأساسية للإنسان وفق أحدث النظريات الإنسانية التي ترى الحاجات الأساسية هرماً تضيق قمته باتساع قاعدته، وبالتالي تقل عندها عوامل الصراع ومفرداته ويحدث الاستقرار، والاستقرار يجعل من الاستراتيجيات صخرة صلبة تتحطم عليها المؤامرات.
