لا شكّ أن إضعاف اليمن وإبقاءه في دائرة الفقر والصراع لم يعد مجرد خطأ سياسي عابر أو نتيجة ظرف تاريخي معقّد، بل تحوّل – في الوعي السياسي السعودي – إلى ما يشبه أيديولوجيا ثابتة، تُوجّه السياسات وتُحدد طرائق التعامل مع الدولة اليمنية منذ عقود. فالسعودية، كما يبدو من مجمل سلوكها الإقليمي، لا ترغب في رؤية يمنٍ قوي، مستقر، يتجه نحو بناء مؤسسات دولة حديثة، لأن ذلك – من منظورها – يمثّل تهديداً مباشراً لتوازن النفوذ ولطبيعة العلاقة التقليدية التي اعتادت عليها.
لقد تعاملت السعودية، على مدى عقود، مع اليمن بوصفه ساحة نفوذ خالصة، تُدار وفق منطق الوصاية لا وفق قواعد الاحترام المتبادل. ولهذا لم تتردد في شراء الولاءات القبلية والحزبية، وتوجيه الصراعات الداخلية، وإغراق البلاد في أزمات متتالية تُنهك الدولة وتُبقي المجتمع في حالة إنهاك دائم. فاليمن القوي بالنسبة للسعودية ليس مكسباً استراتيجياً، بل مصدر قلق وجودي؛ لذلك تمضي في سياساتها وفق معادلة “إما تابع ضعيف… أو عدو يجب إنهاكه”.
ومن يتأمل التجربة الحديثة، يلاحظ كيف حرصت السعودية على أن يبقى اليمن فاقداً لقدرته على اتخاذ القرار السيادي، وأن تعتمد حكوماته المتعاقبة، على الدعم المالي والسياسي السعودي بصورة تُفقدها استقلاليتها. وهذا النمط من العلاقة، القائم على الإفقار والارتهان، هو ما منع البلاد من بناء دولة مؤسسات مستقلة. ولعل تجربة الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي مثال صارخ: حين حاول تأسيس مسار وطني قائم على السيادة والتنمية والانضباط المؤسسي، بدا ذلك بالنسبة للسعودية خروجاً عن “الخط الأحمر”، فانتهت التجربة سريعاً قبل أن تكتمل ملامح مشروعها الوطني.
واليوم، تتجلى هذه الذهنية بشكل أكثر وضوحاً، حيث تُنفق السعودية مبالغ هائلة من المال السياسي في واشنطن وعواصم أخرى، لشراء النفوذ وتأمين الغطاء الدولي لسياساتها في المنطقة. إنها ترى في ذلك جزءاً من معادلة بقاء النظام السعودي نفسه، وليس مجرد اختلاف سياسي مع اليمن. فبقاء اليمن ضعيفاً ومنهكاً هو شرط – من منظورها – لاستمرارها لاعباً إقليمياً رئيسياً، وللحفاظ على صورتها كـ”الحليف الموثوق” لدى الولايات المتحدة.
وعلى الجانب الآخر، يجري تصوير اليمن، في العقل السياسي السعودي، كبلد “متخلف”، بحاجة دائمة للدعم والإعالة، بينما تُقدّم السعودية نفسها للقوى الدولية بوصفها الدولة المستقرة، الغنية، الشريكة، المحورية. وهنا تكمن خطورة المعادلة: فهي لا تقتصر على تعطيل مشروع الدولة اليمنية، بل تمتد إلى صناعة رواية كاملة تُبرّر التدخل المستمر، وتمنح السعودية حرية التصرف في الشأن اليمني بلا قيود.
إن هذه الذهنية – إن بقيت – لن تدفع المنطقة إلا إلى نحو مزيد من التوتر، لأنها تقوم على رؤية قديمة تتصادم مع حقائق العصر، ومع تطلّعات الشعب اليمني لبناء دولته المستقلة. فاليمن ليس “حديقة خلفية” لأحد، ولا يمكن لشعب يمتلك هذه الجغرافيا والتاريخ والوعي أن يقبل إلى الأبد أن يكون تابعاً أو مستجدياً.
إن الخروج من هذه المعادلة ليس مهمة سياسية فحسب، بل معركة سيادة ووعي، تُخاض ضد كل محاولات الإضعاف والإفقار، وتستلزم مشروعاً وطنياً يمنياً خالصاً، يرفض الارتهان لأي قوة، ويعيد للدولة دورها وللمجتمع ثقته بذاته وقدراته.
في كل الأحوال، إنّ التجربة التاريخية والواقع السياسي المعاصر يثبتان أن السعودية لن تسمح لليمن بأن يعيش مستقبله الطبيعي كدولة مستقلة وقادرة، ما لم تحدث مواجهة حقيقية من أجل تقرير المصير. فاستمرار الهيمنة، وشراء الولاءات، وإعادة إنتاج الضعف، كلها أدوات راسخة في استراتيجية الإبقاء على اليمن دولة بلا سيادة كاملة. ومن هنا يصبح تقرير المصير خيارًا لا ترفًا سياسيًا، بل ضرورة وطنية لصناعة المستقبل، واستعادة القرار اليمني، وبناء دولة قادرة على النهوض بعيدًا عن الوصاية والهيمنة.
