من الندم المؤجَّل إلى الموقف العاجل قراءةٌ في درس: {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ}
علي أحمد شرف الدين
المشهد الذي يرصده هذا الدرس صريحٌ جارح: صداقاتٌ وولاءاتٌ وثيقة في الدنيا تنقلبُ يوم القيامة لعنًا وخصومةً وطلبًا عبثيًا للانتقام؛ وحينها لا ينفع ندَمٌ ولا يغيِّر المصيرَ إدراكٌ متأخّرٌ لحقيقة المضلّين. الرسالةُ المركزية ليست خطابَ خوفٍ مؤجَّل، بل دعوةٌ إلى موقفٍ عاجل: البراءةُ من الإضلال هنا والآن، وبناءُ بديلٍ معرفيٍّ وعمليٍّ يضعُ خطابَ الباطل «تحت الأقدام» مجازًا. قال شهيد القرآن السيد حسين بدر الدين الحوثي رضوان الله عليه: «لا نستطيع أن نجعلهم تحت أقدامنا ولو مجازًا إلا بعمل.» بهذا التحديد القاطع ينتقل بنا من التأثّر الوجداني إلى برنامج الفعل.
ليس المطلوبُ سلامةً فرديّةً باردة؛ معيارُ الصدق أن تتحوّل معرفةُ الله إلى خدمةِ خلقِه، وأن يُترجَم الذكرُ والخشوعُ إلى إنقاذٍ وهداية. قال شهيد القرآن: «فإن الميدان الذي يعكس إيمانك القوي وعلاقتك القوية بالله هو الناس، ميدان الحياة». بهذا الميزان يُفتَضحُ كلُّ تدينٍ ينغلق على لذّةٍ روحيةٍ خاصة ويترك الناسَ في مهبّ التضليل. فالمؤمنُ الحقيقيّ يُعرَف بقدرته على الانتقال بالمحبّة من مساحة الوجدان إلى حيز المنفعةٍ والهداية في الواقع العملي، دون الاقتصار على حرارة المشاعر.
ومن هنا يأتي تصحيحُ مفهوم «الجهاد» خارج قوالب التهويل وسوء الفهم: إنّه حركةُ إنقاذٍ معرفيٍّ وأخلاقيٍّ واجتماعيٍّ في قلب المجتمع. قال شهيد القرآن السيد حسين بدر الدين الحوثي رضوان الله عليه: «الجهاد في سبيل الله أين ميدانه؟ … الجهاد في سبيل الله هو الناس أنفسهم؛ أن تعمل لإنقاذهم لهدايتهم؟» في جواب سؤالٌ مهم يحوّل الشعارَ إلى وظيفةٍ يومية: التثقيف، حمايةُ مجالسنا من الخطاب الملبَّس، نشرُ المادة الصحيحة وجعلها متاحة للناس، ومزاحمةُ منابر الإضلال ببدائلَ جذّابةٍ وواضحةٍ.
يُلحّ الدرس على تفكيك هيمنة المُضلّ في ثلاثة مسارات متلازمة: نزعُ الشرعية، تحييدُ الأدوات، وبناءُ البديل. ففي الشرعية: لا يُسمَع لقولٍ بلا برهان، ولا تُمنَح منصةٌ تُكسِبُ الخطابَ المريبَ وجاهةً رمزيّة. وفي الأدوات: تُسَدّ منافذُ التأثير (المجالس والمجموعات والوسائط)، ويُحاصَرُ «المحتوى» الضارّ بمحتوى أنفعَ وأوضح. وفي البديل: نذهب إلى الإنتاج لا الاكتفاء بالنقد. قال شهيد القرآن واصفًا معنى «تحت الأقدام» في الواقع: «فليكونوا منبوذين هم وضلالهم… لا قيمة له ولا اعتبار له، ولا نتأثر به ولا نلتفت إليه».
ولأن الإضلالَ يعمل بوسائطه الحديثة وبميزانياتٍ واسعة، يفرض الدرسُ إيقاعًا يناسب الزمن: صناعةُ موادّ خفيفةٍ نافعةٍ ومنتظمة، وتوزيعُها الذكيّ. قال شهيد القرآن السيد حسين بدر الدين رضوان الله عليه: «نجمع كم ما أمكن من الأشخاص الذين يهتمون بالنشر…» ثم نبّه إلى وسيطٍ رخيصٍ وفعّالٍ في زمنه ما يزال معناه صالحًا اليوم: «أصبح الشريط يقوم مقام إنسان» والمعنى اليوم: إنّ «المحتوى» ـ صوتًا وصورةً ونصًّا ـ يمكن أن يبلّغ حيث لا نصل بأجسادنا، وأن يثبّت في ذهنٍ ضائعٍ ما لا يثبتهُ خطابٌ عابر.
سيواجه هذا المسارُ اعتراضًا وتشويهًا؛ وهذه سنّةُ الطريق. لكنها ليست ذريعةً للتراجع؛ بل معيارُ جدّيتنا. كما قال شهيد القرآن: «ولا نبالي إذا كان هناك من يعارض… لم نكن نكترث بها.» ليست المكابرة، بل وضوحُ الوجهة: الإصلاحُ مقصدُنا، لا الخصومةُ لذاتها؛ والخصومُ يأتون سواءً كنت على حقٍّ أو باطل، لكنّ «العمل» هو الذي يُثبت وجهتك أمام الله والناس.
الدرسُ يحمّلنا أيضًا مسؤوليّةَ الفعل في الدائرة الشخصية: الصحبةُ والقرينُ والزعيمُ والرمزُ و«المجلس». ولكي لا يتحوّل تقديسُ اليوم إلى لعنةِ الغد، يضع قاعدةً حاسمة: قاطع ما يهدّدُ دينك قبل أن يقطعك يوم القيامة. قال شهيد القرآن السيد حسين رضوان الله عليه: «اجعلهم هنا في الدنيا تحت أقدامك، اجعل المضلين تحت أقدامك هنا في الدنيا حيث سينفع». إنّ وقفَ «التبييض» المجتمعيّ للمضلّين ـ بإظهار البراءة العلميّة والخُلقيّة منهم ـ ليس قسوةً؛ إنّه رحمةٌ بالناس وإنقاذٌ للمغترّين.
على الضفّة المقابلة يرسم الدرسُ ملامح الروح التي نحتاجها كي لا ينقلب العلمُ بخلًا والهدى أنانيّة. إنّها الروحُ النبوية؛ حرصٌ يوجع القلب، وغيرةٌ على هداية الخلق، واستعدادٌ لبذل الجهد والمال والكلمة. قال شهيد القرآن: «كان حريصًا على هداية الآخرين، حريصًا جدًا ومهتمًا جدًا». ثم يوبّخُ تديّنًا بلا تبليغ: «أن تتعلم أو تعرف هدى… ثم لا يكون لديك اهتمام أن توصل الهدى إلى أقصى دائرة ممكنة، فاعلم بأنك كالتاجر البخيل يجمع الأموال ثم لا يصرف شيئًا لا في سبيل الله، ولا حتى في حاجاته الضرورية». هكذا تتبدّى حقيقةُ الدين: ليس لذّةَ معرفةٍ فقط، بل كلفةُ إنقاذٍ مستمرّة.
ومن هنا يتّضح خطٌّ عمليٌّ جامعٌ بين فكر الدرس وواجباتنا اليوم: كلّ شعورٍ دينيٍّ لا يتحوّل إلى أثرٍ في الناس ناقصٌ بالضرورة. وكلُّ خطابٍ إصلاحيٍّ لا يشتغل على «وسائط» الناس ومجالسهم وخياراتهم الإعلاميّة سيظلّ يحسن التشخيص ويفشل في العلاج. وكلُّ ترفّقٍ بسمعةِ مُضلٍّ على حساب سلامة العامّةِ يزرعُ اليوم بذورَ حسرةِ الغد. والعملُ الذي يطلبه الدرس ليس «فزعةً» عابرة، بل عادةً أسبوعيّةً مُقاسة: قراءةٌ ونشرٌ وتحصينٌ وتقييمٌ وتحسين.
إنّ روح هذا الدرس تُلخِّصها ثلاثُ جُملٍ ينبغي أن تصير لافتاتٍ في قلوبنا وفي قنواتنا: قال شهيد القرآن: «فإن الميدان الذي يعكس إيمانك القوي وعلاقتك القوية بالله هو الناس، ميدان الحياة.» وقال شهيد القرآن: «والجهاد في سبيل الله هو الناس أنفسهم؛ أن تعمل لإنقاذهم لهدايتهم؟» وقال شهيد القرآن: «لا نستطيع أن نجعلهم تحت أقدامنا ولو مجازًا إلا بعمل.» فإذا استقرت هذه الجُملُ في الوعي، تحوّل الندمُ المؤجّلُ إلى موقفٍ عاجل، وتحولت المحبّةُ إلى خدمة، والعلمُ إلى هداية، والكلمةُ إلى إنقاذ.