
عبدالقادر الشيباني –
الإذاعة كوسيلة رائدة من الوسائل الإعلامية الأولى أثرت في أول عهدها على مستويات عديدة وأعطت من المعارف والعلوم والأفكار وهي الوسيلة الأولى التي ناقشت الكتاب وساعدت في تشكيل الآراء من مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية كما أنها أثرت في عواطف المستمعين من الناحية الفسيولوجية لكن وسائل الإعلام الحديثة التي تطورت ونافستها باقتدار وطغيان ماذا أعطت¿¿ أعطت ثقافة استهلاكية تهيمن عليها القوى المتكبرة التي تسيطر في مجملها عليها وتساندها للأسف الشديد بعض الحكومات العربية مع أن عروبة اليوم في (تب التب وغضب الرب) وسائل الإعلام الحديثة جعلت الإذاعة المسموعة في معزل وصحيح أنها الوسائل الحديثة متطورة في التجارة والربح والإثارة والإغراء فأول وآخر معطياتها مخاطبة الغرائز والنوازع النفسية وتحريك الشهوات الباطنية.
الإذاعة اليمنية وأعلامها
في وقت متقارب من أواسط الخمسينيات بدأ انتشار البث الإذاعي من إذاعتي عدن وصنعاء افتتحت الإذاعة في عدن مع أول زيارة للملكة اليزابيث 1954م إلى عدن وزيارتها الثانية تأتي إلى عدن هذه الأيام بعد 58 عاما في هذا العام 2012م الإذاعة في صنعاء شتاء عام 1955م افتتحت وإن كانت من قبل ترسل على جهاز إرسال بسيط وبث محدود وكواحد من مستمعيها في جدة في الفترة المسائية كنت حريصا على متابعة برامجها من عام 1956م وإن كانت ذاكرتي لم تعد تسعفني إلا باليسير فمواد برامجها في الأولى في البث أتذكر منها ركن الطلبة ومجلة الأثير ومختارات من المكتبة وحديث مسائي يومي وما يطلبه المستمعون وركن القصة وركن الألغاز الذي حرصت على متابعته مع زميلي في الدراسة عبدالرحمن الشهاري والرائع في كتابة الألغاز أنها كانت منظومة شعرا والإجابات بالشعر لأن كتابها من نوابغ الأدباء والمؤرخين والمجيبين على الألغاز من المثقفين الأدباء والألغاز تلك الفترة الإذاعية كانت بمثابة اختبار للذكاء والبديهة على سبيل الذكر أورد نموذجين لألغاز تلك الفترة المبكرة من إذاعة صنعاء مثل:
وما اسم خماسي لأعظم مادة
تعيش بها الأرواح لا سيما البشر
وكم فتشوا عنه لإدراك كنهه
فعادوا بلا عين أصابوا ولا أثر
وإن تحذف الثاء فاسم مملكة لنا يمانية
من دون ريب لمن خبر
وعاصمة في دولة عربية
يصح بها المذياع في ساعة السمر
وبالحتف إلا اثنين منه فإنه
أخص قريب نحو والدك الأبر
وإن شئت تصحيفا له فاسم شاطئ
على البحر يدري صدق ذلك من عبر
هذا اللغز الطويل والحل في الأخير هو عثمان.
النموذج الثاني ملغزا كاتبه بالقلم يقول:
وما فارس يمشي بميدان فضة
يجر ذيولا خلفه كالحنادس
ويركبه عند النزال ثلاثة
وفي مشيه يمشي كمشي العرائس
أعلام الإذاعة الرواد في صنعاء وعدن
عند بداية الإرسال وتوسع البث الإذاعي كان لا بد من اختيار أمهر المهندسين وأثقف الكتاب والإذاعيين … أيام كانت الإذاعة مركز إشعاع يستمع إليها القاصي والداني والمقيم والمسافر ويا ويل من يخطئ في اللغة لأن أكثر المواظبين على الاستماع من الناقدين والمصححين للأخطاء وغالبا ما يكونون من فقهاء وأدباء وبلغاء إلى حد أن المنفذين أمام الميكرفون كانوا قدر الإمكان يتحاشون الكلمات الدارجة حتى قيل كما أشيع أن مقدم الأغنية لا ينطقها كما ينطقها غنائيا المطرب أو المطربة فأغنية فريد الأطرش يؤديها صاحبها غنائيا هكذا (ما ألي وأولتوله) حتى أغنية أم كلثوم التي تغنيها وهي (غني لي شوية شوية) ينطقها المذيع غني لي قليلاٍ قليلاٍ أو أغنية فريد الأطرش (ما قال لي وقلت له) ففي عدن أدت الإذاعة في أول عهدها الخمسيني على براعة المهندسين والخبراء الفنيين وعلى نخبة من أدباء تلك المرحلة والكتاب المشهورين ومن رجال الدين كان في طليعتهم.
في بادية البث عبدالله محمد حاتم وهو يمتلك صوتا حسنا باعتباره إمام وخطيب مسجد الهاشمي في الشيخ عثمان وكذلك الشاعر والفنان لطفي جعفر أمان إلى جانب أنه شاعر غنائي ورسام وله صوت جهوري كصوت إبنه المذيع حاليا في عدن وهو جهاد لطفي ومحمد سعيد جرادة من نوابغ الشعراء وكبار المدرسين توالت بعد هؤلاء كوكبة من المهندسين والمخرجين والمسرحيين والمطربين فاستقطبت الإذاعة في سنوات الخمسينيات الأخيرة إلى بداية الستينيات علوي السقاف خالد محيرز منور الحازمي محمد مدي عبدالرحمن باجنيد ومحمد بلجون وعبدالحميد سلام وعبدالله عزعزي وكانت إذاعة عدن سباقة ببث أغاني الطرب لكبار فناني تلك الفترة أمثال:
الشيخ علي أبو بكر ومحمد علي الدباشي وعمر غابة وعلي عوض وأحمد عبيد قعطبي الجراش وإبراهيم الماس وفضل محمد اللحجي ويوسف أحمد سالم وأحمد يوسف الزبيدي وتبعهم كوكبة من الشباب في أواخر الخمسينيات في مقدمتهم محمد مرشد ناجي ومحمد سعد عبدالله وحسن عطا وعبدالكريم توفيق ومحمد صالح حمدون وسالم بامدهف وخليل محمد خليل وأحمد قاسم وطه فارع ومحمد عبده زيدي ومهدي حمدون وغيرهم مثل اسكندر ثابت وكانت معظم برامج إذاعة عدن في الخمسينيات ثقافية فنية غير سياسية إلا أقوال الصحف المحلية والعربية والأجنبية كانت تقدم يوميا إضافة إلى ندوات ولقاءات فنية تغلب عليها الفرفشة والفكاهة أما إنشاء أول فرقة درامية في عدن فهي فرقة المصافي التي قدمت عروضا ناجحة في الأداء والتمثيل.
هذا وكانت أغاني المخادر والمهرجانات السينمائية الفنية تسجل للإذاعة حتى أصبحت المكتبة الإذاعية في عدن وهي المكتبة الموسيقية أغنى مكتبة بالتنوع الموسيقي والغنائي وهذا ما شهدته أيام بنفسي أيام تقديمي لبرنامج (نافذة الشروق).
العنصر النسائي
بدأت إذاعة عدن تستقطب الأصوات النسائية من أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات في الوقت الذي أكثر كان الشارع العربي يتابع باهتمام إذاعة القاهرة وصوت العرب وخاصة برنامج الجزيرة والخليج الصباحي الذي كان يشرف عليه الإذاعي سعد غزال وكان صوت اسكندر ثابت يذاع من صوت العرب مثل أغنية يا مسافر من ضفاف النيل إلى وادي تبن وهي من كلمات عبدالله هادي سبيت بدأت أول كوكبة من الإذاعيات منهن طالبات أو مدرسات وكل واحدة تمتلك قدرا من الثقافة واللغة مثل فوزية غانم وفوزية عمر وعديلة بيومي وصفية لقمان وأخريات كان هذا قبل التحاق كوكبة متطلعة ودراسة في الستينيات والسبعينيات سنأتي إليها في حلقات قادمة وتألق العنصر النسائي في عدن قبل إذاعة صنعاء ولكن بعد قيام ثورة 26 سبتمبر و14 أكتوبر أخذت المرأة بعد بضع سنوات مكانها المرموق ليس في الإذاعة فحسب ولكن في شتى المجالات الثقافية والاقتصادية والسياسية والتعليمية.
رواد الإذاعة في صنعاء
الإذاعة في صنعاء لم تستقطب إلا النوابغ من الأدباء والمثقفين ومن كبار المهندسين والفنيين والمدرسين فالكتاب أيامها كان الأنيس والجليس لم تمض سحابة نهار أو ينجلي سواد الليل إلا وقد قرأ الإعلامي أكثر من كتاب لهذا كان خريج مدرسة دار العلوم في صنعاء كخريج مدرسة دار العلوم في صنعاء كخريج الأزهر أو جامعة القاهرة إن لم يكن فرع دار العلوم أغزر اطلاعاٍ ويختلف الوقت فابتدائية الأمس أفضل من جامعة اليوم على حد تعبير الأستاذ الرميحي لذا كان في طليعة الإذاعيين من 1956م إلى 1962م أحمد الرعيني وعبدالله حمران وعبدالعزيز المقالح وعبدالوهاب جحاف ومحمد الجرموزي ومحمد البابلي ويحيى الأخفش ومحمد عبده نعمان الحكيمي ومحمد طاهر الخولاني وفي هذا الحلقة الأولى نختار علمين يمنيين من أعلام الإعلام :
1- عبدالله باذيب 1931-1976م علم إعلامي بارز صحفي وكاتب وسياسي ملتزم بالفكر الاشتراكي التقدمي عرفته الأوساط السياسية الفكرية والقومية على المستوى الداخلي والخارجي له عدد من الاصدارات الصحفية منها مجلة المستقبل التي أصدرها عام 1949م وهو في حقل الدراسة كانت كتاباته الصحفية متميزة بالالتزام والنقد والموقف وهي الكتابات الإعلامية التي كانت تترجم للانجليزية لهذا تعرض أكثر من مرة للسجن خاصة بسبب مقالته الشهيرة «المسيح الجديد الذي يتكلم الانجليزية».
أسس باذيب في أوائل ستينيات القرن الماضي تنظيما سياسيا عام 1961م ملتزما بمنهج الفكر الاشتراكي وهو تنظيم الاتحاد الشعبي الديمقراطي شعاره «نحو يمن حر وديمقراطي موحد» لاقتناعه أخيرا بحتمية وحدة اليمن والنضال الدؤوب ضد المستعمر والرجعية.
ومن الإصدارات الصحفية الثانية التي أصدرها هي «جريدة الطليعة» بعد نزوحه إلى مدينة تعز في أواخر خمسينات القرن الماضي واشترك معه نخبة من المفكرين الكتاب والساعين لتغيير النظامين الإمامي والاحتلال البريطاني.
تسلم بعد الاستقلال أكثر من حقيبة وزارية وزيرا للتربية والتعليم وفي عام 1972م وزيرا للثقافة والسياحة .
جمعت الكثير من كتاباته في مجلدين بعنوان «مختارات من كتابات باذيب» وافته المنية وهو في قمة عطائه الفكري والسياسي في أغسطس عام 1976م.
2- أحمد حسين المروني: علم إعلامي وتربوي بارز وهو المعروف بشعره الوطني الحماسي ومواقفه الصارمة الشجاعة فهو أولا وأخيرا علم شامخ في الإعلام قبل أن يكون معلما ومدرسا في المعهد العلمي بعدن أو في كلية بلقيس بالشيخ عثمان وذلك في مطلع ستينات القرن العشرين ولا زلت أتذكر له من الأشعار التي كتبها وهو في عدن بحكم تلمذني في الكلية ومنها قصيدته التي ألقاها يوم افتتاح كلية بلقيس في أوائل ستينات القرن المنصرم وفي مطلعها:
شيدوا بلقيس وارفعوا أعلامه
إنما العلم قوة ودعامة
شيدوها مدارسا تسحق الجهل
وتمحو ضلالة وظلامه
وهو الذي اختارني يوم الافتتاح لإلقاء كلمة الطلاب فلا زلت وغيري من الطلاب نحفظ له عن ظهر قلب النصوص الأدبية والشعرية التي كان يلقيها علينا من مخزونه الثقافي بصوته الجاذب والمشوق.
عاد من عدن إلى صنعاء قبل قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م وفي أول تشكيل لحكومة الثورة تولى الأستاذ المروني وزيرا للإرشاد إلى جانب إشرافه المباشر على الإذاعة وهو الوزير الوحيد بين أكثر وزراء الإعلام الذي ظل عطاؤه الفكري والنقدي بلا توقف يكتب ويحاور ويحاضر ويضيف معلومات هامة إلى تاريخ الثورة.
ولم يقف قلمه عن مواصلة الكتابة والتوجيه حتى آخر يوم من عمره وله العديد من اللقاءات المسجلة وقبل رحيله بعامين أجريت معه لقاء لمدة ساعة وكان من أمتع اللقاءات الحوارية الإذاعية ونشهد له يومياته في صحيفة «الثورة».
المروني والبردوني
في فترة حرجة من عام 1964م بل قل في لحظات انفعالية لم تترك للأستاذ البرودني فرصة التروي والصبر ولم نكن قد سمعنا له قصيدة هجاء في شاعر مثله من قبل ففي قصيدة له ربما تكن هي اليتيمة هجا فيها الأستاذ المروني لأسباب قد تكون فيها إجراءات إدارية في توقف مرتبه مع آخرين من زملائه أيام ما كان الأستاذ المروني وزيرا ولأن البردوني أديب وشارع كبير أنب نفسه بعد حين لأنه غير حقود وغير حسود.
وأبى إلا أن يعتذر فكان اعتذاره رائعا بطريقة مؤدية اعتذاراٍ غير مباشر للأستاذ أحمد حسين المروني بأن عطاءه أولا حقه بالمليان وذلك في كتابه رحلة الشعر الصادر في مطلع السبعينات قال عنه: « شعر أحمد المروني لا يحلق ولا يتمرغ وإنما هو وسط فيه عذوبة وهو أقرب إلى حديثه الذي يشبه «شعاره وهي تدلنا على أن أحمد المروني كان حس بالجمال المعنوي المتمثل في صفاء المودة ووفاء الصداقة وكل شيء جميل يتحلى في معاشرة الأستاذ المروني فهو عذب الروح والنكتة مستقيم الأخلاق رفعته الجندية والأفلاطونية على الميوعة واللهو الرخيص ثم قال عنه: «لقد كان أول شاعر صنعاني تغنى بالبطولة المصيرية إبان العدوان الثلاثي.
وقفت وحدها تصد الأعادي
في إباء وعزة وعناد
وقفت مصر وحدها تدحر الغزو
وتجتاح عاصفات العوادي
ففي أول عهده في تجربة الشعر له قصيدة عصماء يقول في الجيش
هذا المقام وهذا الفيلق البطل
تكاد أعينه بالعزم تشعل