العشوائيات.. محاضن لتفريخ الجريمة

انعدام التخطيط حالات الفقر البطالة تدني مستوى التعليم التسرب من التعليم غياب السلطات الأمنية.. كلها عناوين لتلك الأحياء التي تتمدد كل يوم على أطراف العاصمة من كافة الاتجاهات في صورة مفزعة من العبث والفوضى.
العشوائيات تجمعات سكانية نشأت خارج سياق التطور الطبيعي للمدن فغابت عنها الكثير من مظاهر التحضر بالإضافة إلى غياب الأجهزة الأمنية نتيجة لبعدها عن مركز المدينة ولتلك الأسباب وغيرها باتت بمثابة مفرخة للجريمة بل ومنطقة مصدرة للمجرمين أفراداٍ وعصابات.

في ناحية ما من منطقة جبل السنينة.. كالعادة يعود محمود الريمي مساء بعد يوم حافل بالكدح والعمل المضني إلى أسرته المكونة من 3 بنات وولد وأمهم في منزله المكون من غرفتين لا تتجاوز مساحة كل منهما 3 إلى 4 أمتار مبنيتين من “البلك” بالإضافة إلى حمام في الحوش سقفه من الصفيح وفي الركن المقابل من الحوش أيضا يقع المطبخ بدون باب يواري بؤسه.. أما باب الحوش فهو عبارة عن برميل تم بسطه ليتخذ شكل الباب إلى حد ما..
محمود الذي يعمل بائعا متجولا يبيع البطاطس المسلوقة والبيض لا يفتأ يدفع عربة يدوية أمامه طوال اليوم كما لو كانت صخرة سيزيف ليعود بما سهله الله له من النقود التي يسير بها حياته. يقول : منذ سبع سنوات وأنا أعيش على هذه الحالة وفي هذا البيت الذي استأجرته حينها بمبلغ 4000ريال والآن ارتفع الإيجار إلى 12 ألف ريال.. ويضيف: نمشي هذ الحياة كيفما جاء فكل شيء هنا متعب لا خدمات ولا شوارع مسفلتة ولا مجاري ولا مستوصف والمدرسة بعيدة شوية ولو تشتي تشتري حاجة مابلا تجيبها معك أو ترجع مشوار إلى السوق بالإضافة إلى المشاكل التي لا تنقطع في هذه الحارة فدائما ما نسمع “سرقوا بيت فلان أو سيارة فلان كسروا رأس فلان نهبوا فلان تقطعوا لفلان تضارب فلان وفلان تقاتل فلان وفلان … إلخ من هذه المشاكل”. فالحياة هنا جحيم- حسب تعبيره.
تلك صورة مبسطة ونموذج واحد مما هي عليه العشوائيات التي أحاطت بالعاصمة صنعاء من جميع جهاتها إحاطة السوار بالمعصم كما يقال فمن حزيز جنوباٍ إلى نقم ومسيك إلى سعوان شرقاٍ إلى بني حوات شمالا وعودة إلى وادي أحمد ومذبح والسنية غرباٍ تكاد تكون الحالة هي ذاتها.. تجمعات سكانية طارئة تتمدد بطريقة غير منظمة وتفتقر للتخطيط وبناء عليه تغيب الخدمات والمرافق العامة التي تمثل ضرورة للحياة.
تلك التجمعات العشوائية باتت تمثل مشكلة تتفاقم مخاطرها يوما بعد يوم فبالإضافة إلى غياب الخدمات وصعوبة الحياة فيها غدت بيئة خصبة لانتشار الجريمة بمختلف أنواعها ومستوياتها.
حالة سائدة
يقول الرائد ناجي القرشي نائب مدير قسم شرطة السنينة: معدل الجريمة في هذا الحي مرتفع نوعا ما حيث تواجهنا الكثير من القضايا وهي في أغلبها عبارة عن سرقة (نشل) وسرقة بالإكراه بالإضافة إلى قضايا أسرية عبارة عن خلافات وشجارات واعتداءات بالضرب. وأيضا قضايا إطلاق نار وقتل في بعض الأحيان أو شروع بالقتل.
ويضيف القرشي: بطبيعة الحال فإن معدل الجريمة يكون في الأحياء العشوائية وأطراف العاصمة مرتفعا على عكس الأحياء داخل المدينة وهذا يعود بالدرجة الأساس إلى طبيعة تكوين العشوائيات حيث أن الازدحام السكاني وكذا حالة الفقر السائدة في هذه الأحياء ذلك يؤدي بطريقة أو بأخرى إلى ارتفاع معدل الجريمة في هذه المناطق. وذلك مما يتطلب منا نحن الأجهزة الأمنية مضاعفة الجهود لمواجهة تلك الجرائم.
عدم التخطيط وغياب الخدمات
العقيد الدكتور أمين حامد خيران مساعد مدير الأمن العام بأمانة العاصمة لشئون أمن الأحياء السكنية يقول: لا شك أن معدل الجريمة في الأماكن والأحياء السكنية غير المخططة يكون مرتفعا على خلاف المناطق والأحياء المخططة ويرجع ذلك لعدة أسباب أولها من وجهة نظري هو عدم وجود الخدمات أو بعبارة أخرى البنية التحتية مثل الطرقات الصرف الصحي الكهرباء المدارس المساجد الحدائق والمتنفسات الملاعب إضافة إلى ازدحام البناء.. كل ذلك يؤدي إلى عامل نفسي سلبي بالنسبة لسكان هذه المناطق ونتيجة لهذا العامل النفسي السلبي المتشكل بفعل البيئة التي تفتقر لمقومات الحياة الطبيعية فإن ذلك ينعكس على سلوكيات الأفراد مما يعزز الميل نحو الانحراف السلوكي وهو ما يترجم في تصرفاتهم على شكل جرائم.. ولو عقدنا مقارنة بين الأحياء المخططة والأحياء العشوائية من حيث مستوى الجريمة ونوعها فسنجد الفرق شاسعاٍ أولا من حيث معدل الجريمة حيث يزداد في المناطق العشوائية بكثير.. ولو أخذنا على سبيل المثال مديرية صنعاء القديمة فرغم تلك الشوارع والأزقة الضيقة إلا أن الجريمة فيها تكاد تكون نادرة الوجود ولعل ذلك بسبب توفر المرافق العامة في كل حارة حيث نجد المدرسة والجامع والبستان والمقشامة والسبيل والسوق والحمام الخارجي… إلخ من مرافق الحياة بالإضافة أيضا إلى الترابط الاجتماعي فيها بعكس مناطق أخرى مثل نقم أو مسيك مثلاٍ أو بني حوات أو السنينة مثلاٍ حيث يكون معدل الجريمة هناك مرتفعاٍ.
السبب الثاني وهو الفقر حيث تشكل هذه الأحياء العشوائية منطقة جذب للفقراء نتيجة لرخص إيجارات البيوت والعقارات فيها والمعروف عادة أنه أينما وجد الفقر في المجتمع يرتفع معدل الجريمة تدني مستوى التعليم وكذلك عدم وجود تثقيف ديني وأسري حيث أن الأسر التي في الأصل يغلب عليها الجهل والأمية منشغلة هنا بمتطلبات الحياة وبالتالي يغيب دور الأسر في التربية والتنشئة السليمة بالإضافة إلى غياب دور مؤسسات التعليم حيث يكون مستوى التعليم متدنياٍ وذلك يمثل عامل تهيئة للانحراف ويؤدي إلى انتاج أفراد غير أسوياء. أضف إلى ذلك أن هذه المناطق تمثل بؤرا يتجمع فيها الأشخاص الذين يميلون إلى الجريمة مستغلين صعوبة وصول الأجهزة الأمنية إليها بحيث تمثل بالنسبة لهم ملاذاٍ آمناٍ.
سبب آخر يورده د. خيران وهو البطالة حيث أن هذه المناطق تزداد فيها الكثافة السكانية وبالمقابل تزداد البطالة وذلك يؤدي بهؤلاء الشباب العاطلين إلى الاندفاع تحت ضغوط الحياة ومتطلباتها إلى السلوك غير السوي. أما من حيث نوع الجريمة أو مستواها فيختلف من الأحياء العشوائية إلى الأحياء المخططة ففي حدة مثلا تجد الجريمة منظمة وإذا جاز القول سنقول أنها أكثر تطوراٍ في أساليبها بينما في العشوائيات تكون الجريمة أكثر انحطاطاٍ وتزيد فيها نسبة الجرائم الأخلاقية.
دور الأمن وإشراك المجتمع
وعن دور الجهات الأمنية في مثل هذه المناطق يقول د. خيران: هناك دور وقائي نقوم به وذلك من خلال إيجاد مراكز شرطة في هذه الأحياء بحيث يكون لنا تواجد هناك ورغم وجود بعض الصعوبات ومنها على سبيل المثال صعوبة وجود مكان نقيم فيه مركز شرطة فنضطر أن نستأجر مبنى للمركز بالإضافة إلى محاولة أشراك المجتمع في مواجهة الجريمة قبل وقوعها. وفي سبيل ذلك نحاول أن نتلمس أوضاع البيوت والمساكن والأسر والأفراد الساكنين فيها عن طريق عقال الحارات حيث نربطهم بنا وكذلك المجالس المحلية والحرس الليلي وذلك من أجل رصد التحركات للأفراد المشتبه بهم وموافاتنا أولا بأول بالمعلومات التي من شأنها أن تمكننا من مواجهة الجريمة قبل حدوثها.. وهناك دراسة لدينا لتفعيل دور المجتمع في محاربة الجريمة وإشراك المجتمع مع الأمن بحيث نكون فريقاٍ واحداٍ للحد من الجريمة. أما بالنسبة لدورنا بعد وقوع الجريمة يضيف خيران: وذلك من خلال ملاحقة المجرمين والجناة ورصدهم وأماكن تواجدهم وسكنهم وبالتالي تسهل عملية ضبطهم.. وهنا أتمنى من أمانة العاصمة الاهتمام بمسألة التخطيط الحضري وإشراك شرطة أمن العاصمة فيها إذ أن ذلك له أهمية فمن خلاله نتمكن من تحديد أين يكون مركز الشرطة أين تكون الملاعب أين تكون الحدائق والمتنفسات وغيرها من المرافق العامة لأن ذلك له أهمية كما أسلفنا في إيجاد متنفس لدى الأفراد ولا سيما الأطفال والمراهقين والسباب ينفسون من خلاله عن أنفسهم فالملاحظ في الوقت الحاضر هو أن الشباب يقضون أوقاتهم “مخزنين” في الدكاكين ومحلات الإنترنت وغيرها من الأماكن التي تتيح لهم الالتقاء بأشخاص منحرفين وأصحاب سوابق ومنحرفين وتلك تعتبر من الأسباب التي تؤدي إلى انحراف الشباب.
مناطق تصدير
وعن أسباب ارتفاع معدل الجريمة في العشوائيات يقول عبدالله منصِر أكاديمي وباحث اجتماعي: تعد العشوائيات بيئة ملائمة لنشوء الجريمة وتطورها وبالتالي انتشارها لتغدو هذه الأحياء العشوائية مناطق مصدرة لعناصر الجريمة سواء كانوا أفرادا أو عصابات وذلك يعود لعدة أسباب منها أسباب اجتماعية إذ أن هذه المناطق العشوائية التي لا تتوفر فيها الكثير من مقومات الحياة الطبيعية عادة ما ينجذب إليها أناس من أنحاء متفرقة يجمع بينهم قاسم مشترك يدفعهم إلى السكن في هذه الأحياء والمناطق رغم مساوئ الحياة فيها وذلك القاسم المشترك هو في الغالب الفقر حيث تكون المساكن في هذه المناطق أقل كلفة سواء من حيث الإيجار أو من حيث سعر العقارات وتكاليف بنائها وبالتالي ونتيجة لعدم تجانس السكان الذين عادة ما يأتون من أماكن متفرقة من البلاد يحدث هناك نوع من الخلل في العلاقات ويفقد هذا التجمع السكاني تماسكه وذلك بدوره يشكل حيزا يمكن الجريمة من النشوء والتطور في هذه البيئة فعادة تجد العلاقات بين الناس القاطنين في هذه العشوائيات تكون واهية وفي أغلب الأحوال تتخذ العلاقات أنماطا مخالفة لما هو سائد في التجمعات الأكثر تحضراٍ حيث يكون مرتكزها هنا هو الجهل والأمية والفقر والتبرم من الواقع وعدم الرضا وانعدام التوافق الاجتماعي.
ويضيف منصِر: وهناك أسباب أخرى لانتشار الجريمة في هذه الأحياء التي اتخذت تسميتها من نمط الحياة فيها والذي تسوده العشوائية وعدم الانتظام فانعدام التخطيط الذي يراعي توفير متطلبات الحياة في هذا الحي ابتداء بالشارع الواسع ووجود المرافق العامة كالمدرسة والمستوصف والجامع والكهرباء ومشروع المياه وشبكة الصرف الصحي وغير ذلك كله ينعكس بشكل سلبي على الأفراد ويخلق لديهم عدم رضا وتبرم من الواقع فيتطرف الأفراد في مواجهة هذا الشعور بسلوكيات مبنية على أساس من الجهل وعدم وجود الوازع الاجتماعي والأخلاقي بالإضافة إلى البعد والتواري عن سلطة القانون وتتحذ هذه السلوكيات في مجملها طابع العنف والعدوانية ومن هنا تبدأ الجريمة في التشكل والتنوع ثم بعد ذلك تدخل الجريمة طور التنظيم أما عن طريق احتراف أفراد أو عن طريق تشكل العصابات الإجرامية.
معالجات مطلوب الأخذ بها
وعن مواجهة ظاهرة تمدد العشوائيات ونمو الجريمة فيها يقول منصر: المشكلة عويصة بالفعل ولمواجهتها يتوجب على جميع الأطراف المعنية التكاتف أولا للحد من توسعها وتمددها عن طريق منع البناء في المناطق التي لم يسبق تخطيطها مطلقاٍ أما المناطق المخططة فيجب أن لا يسمح بالبناء فيها إلا بعد التأكد من استصدار التراخيص والتأكد من إذا ما كان البناء يتم وفق المخطط أم لا وذلك من خلال التعاون بين جميع الجهات المعنية بدءاٍ بأمانة العاصمة والمجالس المحلية والبلدية ومكتب التخطيط بالأمانة وغيرها أما المناطق التي سبق وأن بنيت فباعتقادي أن الأمر هنا أكثر صعوبة ويتطلب تعاون الجميع ابتداء من عقال الحارات مرورا بالسلطات الأمنية التي من واجبها تكثيف التواجد الأمني في هذه المناطق ثم يأتي دور السلطات المحلية التي يقع على عاتقها السعي لإيجاد سبل لتنظيم الحياة في هذه الأحياء عن طريق إزالة ما يمكن إزالته من المخالفات وتوفير الخدمات والمرافق العامة والاهتمام بمستوى التعليم وتوسيع شبكة الضمان الاجتماعي لمواجهة الفقر وغير ذلك من المعالجات المتاحة التي من شأنها أن تنقذ ما يمكن إنقاذه من هذه التجمعات وانتشالها من الوضع الكارثي الذي تعانيه.

قد يعجبك ايضا