القفز على الواقع ليس الوصفة المثالية للأزمات: لماذا فشلت الجهود الأممية بحمل الليبيين تنظيم الانتخابات للمرة الثانية؟

 

تقدم تجربة الانتخابات الليبية المتعثرة نموذجاً لكلفة الأخطاء التي تتكبدها دول الأزمات عندما يتم إخضاعها لمبادرات دولية أو أممية جاهزة تتجاوز معطيات الواقع وتعقيداته، وها هي الخارطة السياسية التي رسمتها القوى الدولية في مؤتمر باريس بشأن الانتخابات الليبية قد فشلت فشلا ذريعا رغم رفعها سلاح العقوبات، في حين تبدو الجهود الأممية الحالية محاولة لفرض المبادرة نفسها بمسميات بديلة.
“الثورة” تحليل / أبوبكر عبد الله

منذ التأجيل الأول للانتخابات الليبية التي كانت مقررة في 24 ديسمبر الماضي، صار في حكم المؤكد أن الموعد الجديد الذي حددته مفوضية الانتخابات الليبية 24 يناير الجاري، قد طُوي هو الآخر نحو تأجيل ثالث، فضل الليبيون هذه المرة عدم إعلانه حفاظا على حد أدنى من الثقة وردما لانفجار وشيك يُغذيه سخط شعبي من أطراف سياسية متصارعة قضت على آخر آمال الليبيين للخروج من نفق الحروب والانقسام والفوضى وغياب الدولة.
في المشهد الليبي اليوم لا يوجد سوى معادلة واحدة هي تراكم الفشل والأزمات، ذلك الذي جعل مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة ستيفاني ويليمز تبدو حائرة في تحركاتها لتطويق الأزمة الليبية والتي تجاوزت الداخل الليبي إلى الإقليمي بحثا عن ضغوط من دول الجوار يمكن أن تفلح في إعادة الليبيين إلى المسار الانتخابي المشلول.
لكن الواقع أن جهود السيدة ويليمز، أخفقت كليا في إنتاج خارطة طريق لإنقاذ العملية الانتخابية المترنحة منذ مؤتمر باريس أواخر العام الماضي، وقد بدت في تصريحاتها الأخيرة حائرة أمام مآلات الراهن الليبي عندما رجحت أن يتم تنظيم الانتخابات في يونيو المقبل، في ظل غياب أي مؤشرات بحل العقبات الكبيرة التي حاولت دون تنظيمها أو بحصول توافق ليبي لتنظيم الانتخابات، في المدى المنظور.
ورغم مضي أسابيع على بدء مهامها في حلحلة ملف الأزمة المتعلق بالانتخابات، لم تفلح المشاورات التي أجرتها ويليمز في أحراز أي تقدم، وخصوصا مع رفض الأطراف السياسية الليبية أي تدخل خارجي في إدارة العملية الانتخابية، وهو الموقف الذي عبر عنه البرلمان الليبي بوضوح وحظي بأصوات مؤيدة سياسية وشعبية واسعة، ما أثار تساؤلات عن جدوى المبادرات الدولية والأممية، وما إن كانت تمثل اليوم جزءا من الأزمة أم من الحل.

أسباب مباشرة
كان يمكن لليبيين الذين انخرطوا في اتفاق وقف النار بعد مؤتمر جنيف أنتاج صيغة توافقية لتنظيم الانتخابات لو أن المجتمع الدولي لم يفرض خارطة مؤتمر باريس، التي القت بكل العقبات القانونية والدستورية والسياسية والأمنية جانبا ووضعت الجميع أمام خيار وحيد هو تنظيم الانتخابات يوم 24 ديسمبر، رهانا على سلاح العقوبات الذي لوحت بفرضه على الأطراف الليبية في الداخل والخارج حال ضلوعهم بعرقلة الانتخابات.
الموقف الموحد للدول الأوروبية الراعية للملف الليبي والذي حظي برعاية أمريكية كبيرة، دفع جميع الأطراف الليبية إلى الاستجابة لمقررات مؤتمر باريس، رغم علمهم المسبق أن ثمة عقبات كثيرة لا يمكن تجاوزها وفق الآلية المقترحة لتنظيم الانتخابات، ويقينهم أن الانتخابات حتى لو نظمت بالآلية التي أرادها المجتمع الدولي لن تكون مقبولة ولن تمثل سوى موعد لانفجار مسلح جديد.
ورغم أن الموقف الأوروبي كان استهدف من تنظيم الانتخابات إنتاج حكومة شرعية يمكن التعامل معها في صفقات المصالح بين الدولة النفطية الغنية والدول الأوروبية المشاطئة لشرق المتوسط، كان هناك اعتقاد أن ثمة سيناريو آخر يذهب إلى إجهاض العملية الانتخابية استنادا إلى المخاوف من عودة محتملة للنظام السابق الذي يحظى بشعبية واسعة، بعد تمكن سيف الإسلام القذافي من تجاوز عقبة الطعون بحصوله على إقرار من القضاء الليبي بالحق في خوض السباق ا لرئاسي، فضلا عن الخشية من نجاح موسكو في تثبيت أقدامها في ليبيا حال دعمها لأحد المرشحين الأكثر حظا في الفوز وهما سيف القذافي أو المشير خليفة حفتر.
ولعل الانخراط الواسع في ماراثون المواجهة المباشرة مع روسيا والصين، جعلها بعض الدول تعيد حساباتها في ملف الانتخابات الليبية، إذ أن تنظيم الانتخابات سيعني ولادة حكومة شرعية ورئيس يحظى بالشرعية وتأييد شعبي يصعب تجاوزه، وهو سيناريو في حال طبق مع سيف الإسلام القذافي سيعني بالمحصلة دخول قوي لروسيا في المشهد الليبي، وربما تقلص فرص دول الناتو في الحصول على حصة من الموارد النفطية الليبية خصوصا وهي حشدت سابقا كل موارد الحلف لإسقاط النظام السابق دون مكاسب تذكر.

معطيات معقدة
الثابت أن الأزمات التي عصفت بليبيا خلال السنوات الأخيرة، بدت عصية عن الاستجابة لمقررات مؤتمر باريس، ذلك أنها اعتمدت رؤى حاولت القفز على معطيات واقع سياسي معقد ما جعلها عاجزة عن تحريك العربة السياسية العالقة منذ اليوم الأول.
أراد المجتمع الدولي في مؤتمر باريس حلا عاجلا للأزمة الليبية يمكنهم من مواجهة الضغوط الروسية في ملف الطاقة، اعتمادا على ما تختزنه ليبيا من موارد كبيرة يحتاج نقلها إلى أوروبا حكومة شرعية قوية.
ولم يعط المجتمع الدولي الفرصة الكافية لليبيين وضع القواعد الدستورية والقانونية التي يمكن الوقوف عليها لتنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية تحظى باعتراف وقبول الجميع.
هذا الترتيب كشف في الواقع الهدف الخفي في تفصيل عملية انتخابية تشارك فيها الأطراف السياسية المتصارعة جميعا، مع إفساح المجال لترتيبات الغرف المغلقة التي يمكن أن تقصي أطرافا وتفسح المجال لأطراف أخرى، وهو الهدف الذي جوبه برفض واسع أولا لانتهاكه القوانين والتشريعات الليبية، وثانيا لأنه تعارض مع تطلعات الشارع الليبي بانتخابات حقيقية تتسم بالحرية والنزاهة تضمن عائداً سياسياً وأمنياً وهو إخراج ليبيا من نفق أزمات طويل عصف بالليبيين لأكثر من 10 سنوت.
هذا الأمر عبر عنه بوضوح رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح الذي دعا إلى تشكيل لجنة جديدة لصياغة دستور توافقي حديث يلبي رغبات الليبيين وتطلعاتهم وقادر على تأسيس دولة ديموقراطية، فضلا عن تأكيده أنه من غير المقبول العمل بمسودة دستور لا يقبله الليبيون.
وفضلا عن المعطيات الدستورية والقانونية، فقد اصطدمت محاولات تفصيل العملية الانتخابية لمصلحة أطراف سياسية موالية وإقصاء أطراف أخرى، في البرلمان والقضاء الليبي الذي تصدى لكثير من هذه المحاولات، وليس آخرها إعلان البرلمان الليبي رفضه أي تدخل خارجي بالعملية الانتخابية ومنح القضاء الليبي الأطراف التي خطط لإقصائها من المشهد الانتخابي أحكاما بقوة القانون بخوض المعترك الانتخابي.

أزمات جديدة
مع افتقاد الشارع الليبي للحماس حيال الاستحقاق الانتخابي قفزت على السطح أزمات جديدة، أنتجتها الخارطة الضبابية للانتخابات والتي أفضت إلى تأجيل متكرر وحالة عدم يقين من إمكان تنظيم انتخابات دون أساس دستوري أو قانوني متين.
أكثر هذه الأزمات وضوحا كان مصير الحكومة الانتقالية بعد الإخفاق بتنظيم الانتخابات، وهو الأمر الذي أثاره البرلمان الليبي مؤخرا بشكل علني بتأكيده انتهاء ولاية الحكومة الانتقالية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، ودعوته بإجماع إلى تشكيل حكومة جديدة تتولى مهام المرحلة الانتقالية خلال الفترة القادمة، وهي دعوات ليست بعيدة عن تجاذبات فترة التحضير للانتخابات بعدما ظهر رئيس الحكومة لاعبا قويا، في مقابل اللاعبين الكبار المنقسمين في شرق ليبيا وغربها.
وكان اللافت أن السيدة ستيفاني ويليمز، أقحمت البعثة الأممية في هذه المعادلة بتصريحاتها التي أكدت عدم حاجة ليبيا في الوقت الراهن إلى تغيير الحكومة الانتقالية، فيما بدا رفضا أمميا صريحا للمساعي التي يقودها أعضاء البرلمان الليبي لتشكيل حكومة جديدة تخضع لسلطة البرلمان، وهو التوجه الذي عبرت عنه مواقف 75 نائبا في البرلمان، طالبوا رئيس المجلس النيابي بإنهاء ولاية عبد الحميد الدبيبة وتنصيب وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا رئيسا لحكومة انتقالية للفترة المقبلة.
ودعوة البرلمان الإطاحة بحكومة الدبيبة عبرت عن رغبة أطراف سياسية عدة، طالبت بتشكيل حكومة تكنوقراط مختصرة ذات مهام محددة، يمكنها تجاوز الفشل الذي منيت به حكومة الدبيبة في إدارة العملية السياسية والشأن الاقتصادي خلال المرحلة الانتقالية السابقة..
وبالمقابل حدد 25 نائبا في بيان القضايا، المراد من الحكومة الجديدة إنجازها والتي لم تكن بعيدة عن المشكلات التي عرقلت العملية الانتخابية وفي المقدمة الترتيبات الأمنية لرفع حالة القوة القاهرة وتوحيد مؤسسات الدولة ورفع المعاناة عن كاهل الشعب ووقف الفساد وتهيئة الساحة الليبية للانتخابات، في أسرع وقت ممكن.
هذا البيان عبر عن مطالب طيف سياسي واسع رأى أن حكومة الدبيبة، فشلت في تجاوز العقبات التي اعترضت تنظيم الانتخابات واستكمال المسار السياسي بالبلاد، خصوصا وأن مهمتها الرئيسية كانت في الإشراف على تنظيم العملية الانتخابية وإنجازها في المواعيد المحددة.
وفي ظل الخارطة الدولية المنقسمة – التي أفرزت مؤخرا معسكرين أحدهما مؤيد لبقاء رئيس الحكومة وآخر يرفض بقائه – فقد أنتج الموقف الأممي من رئيس الحكومة تيارا سياسيا معارضا اتهم المستشارة الأممية ويليمز بأنها لم تكن تبحث عن خارطة طريق توافقية تضمن تنظيم الانتخابات، بل جاءت فقط لإدارة مفاوضات، مع اللاعب الروسي الطامح بحضور سياسي والحصول على حصة من الكعكة النفطية.
هذه الاتهامات بدت واقعية مع تعارض الأجندة التي حملتها ويليمز القاضية بتنظيم الانتخابات وفق مقتضيات الأمر الواقع، بمقابل التوجه العام الذي هيمن مؤخرا على المشهد الليبي الداعي إلى إيجاد أسس متينة تقوم عليها العملية الانتخابية وخصوصا في حسم قضية مسودة الدستور والقوانين الانتخابية، التي كانت السبب الأول في إرباك المشهد وتعطل العملية الانتخابية.
وقضية الدستور وشرعيته ليست جديدة على كل حال، فقد تعاطت معها الأطراف الليبية المتصارعة خلال السنوات الأخيرة بقدر كبير من عدم المسؤولية باستخدامها ورقة ضغط في لعبة تحقيق المكاسب وتلافي الخسائر، ما أوصل العملية السياسية إلى حالة انسداد أدركت معه كثير من الأطراف حتمية العودة للوراء قليلا لصياغة دستور متوافق يمكن أن يشكل طريقا للعبور الآمن بليبيا نحو انتخابات تحظى القبول العام.

القوات الأجنبية
يضاف إلى الملفات المعقدة التي تجاوزتها مقررات مؤتمر باريس، ملف القوات الأجنبية والمرتزقة، وهو من أكثر الملفات حساسية مع بعض الدول المؤثرة في المشهد الليبي، وفي المقدمة تركيا وروسيا، التي أكدت مواقفها الأخيرة برفضها بحث هذا الملف في الإطار الأممي، وسط مطالب غير معلنة بحضور أمريكي أوروبي رسمي لحسمه.
هذا الأمر كشف عن وجود أطراف دولية، لا ترغب ببحث ملف الأزمة الليبية مع المستشارة الأممية ستيفاني ويليمز، باعتبارها كما تفيد بعض الروايات، موظفة من الدرجة الثانية في الإدارة الأمريكية، وهو أمر يشمل أكثر الأطراف الدولية المهمة الواقفة في الخندق المناهض لأمريكا وحلفائها في المقدمة تركيا وروسيا.
وخلال زيارتها الأخيرة إلى تركيا لم تحظ المستشارة ويليمز بالاهتمام اللازم رغم أن زيارتها كرست لبحث أفق الحل السياسي في ليبيا، وهو الموقف الذي عكس رغبة أنقرة في بحث قضية سحب القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا مع الإدارة الأمريكية مباشرة.
ورغم أن ويليمز أجرت مباحثات مع نائب وزير الخارجة التركي، إلا أن المباحثات، لم تزد عن تبادل وجهات النظر، في حين حملت تصريحات وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، ردا على تصريحات السفير الأمريكي في ليبيا ريتشارد نورلاند، الموقف التركي الرسمي الذي أكد أن «قوات الجيش التركي باقية في ليبيا ولن تغادر» .
هذه العقبات وغيرها دفعت السيدة ويليمز نقل مسار تحركاتها إلى الإطار الإقليمي، بحثا عن مواقف من دول الجوار الليبي، يمكنها الضغط على الأطراف الليبية المضي بالعملية الانتخابية، لم تتجاوز كلها حدود التفاهمات المشتركة.
المؤكد أن المشهد الليبي عموما يتجه اليوم نحو تأجيل الانتخابات العامة إلى أجل غير مسمى، أو لحين الفراغ من ملف صياغة الدستور والاستفتاء عليه، وتعديل القوانين الانتخابية، ثم تنظيم الانتخابات، غير أن ما يخشى منه عدم مشاركة دور مؤتمر باريس بهذه الاستحقاقات التي رسمت لأول مرة الخارطة السياسية الليبية القابلة للتطبيق، ما يجعل تطبيق أي خارطة طريق ينتجها البرلمان في المدى المنظور أمرا بعيد المنال.

قد يعجبك ايضا