وبشöر القاتل بالقتل

كانت أميرة كندة فتاة ذات حسن وجمال قل نظيرها وكانت تتمتع بذكاء حاد وشاعرية مرهفة تعشق الجمال وتتغنى به كما تتغنى الطيور بجمال السندس.
هرع إليها عظماء الملوك طالبين يدها فأبت واشترطت أوصاف شاب يعشق الفصاحة كما يعشق الملوك تيجان الذهب.
فوفد الشعراء إليها بقصائدهم من كل حدب وصوب طامعين بالجمال والملك ولكن لم تنل قصائدهم إعجابها واستمر التنافس فترة من الزمن حتى ظهرت القصيدة –اليتيمة- لتكون مهرا لها.
وأطلق عليها باليتيمة لأنه لم يعرف لقائلها سواها ولأنها تأسر القلوب وتسلب العقول لم يصل إليها البلغاء ولم يأت بمثلها الفصحاء… فعلى مشارف وديان تهامة نشأ شاعر مطبوع على الفصاحة يسمى (دوقلة) نسج هذه القصيدة الفارهة وأشبعها وصفا فهي مزدحمة بالصور الجميلة والمعاني الظليلة والسبك الفني الرائع.
توجه هذا الشاعر -بعد أن فرغ منها- نحو كندة (مقر الأميرة) كانت السعادة تغمره والأحلام تزدحم في مخيلته.. وهاهو يحدث نفسه بالآمال العريضة والحياة الرغيدة لقد كان واثقا من النجاح كثقته بجمال قصيدته.
وبعد سير طويل نزل ضيفا على رجل من بني دهم ليأخذ قسطا من الراحة وأخبره بوجهته وقصده وقرأ عليه قصيدته فأعجب بها أيما إعجاب وقد أدرك هذا الرجل من بلاغتها أنها حقاٍ تستحق أن تكون مهر الأميرة (دعد).. فطمع بها وعقد نية الغدر بضيفه.
فما كان منه إلا أن دخل خيمته ثم عاد وقد استل سيفا ضرب به عنق (دوقلة) فأرداه قتيلاٍ وأخذ القصيدة ورحل بها الى مملكة كندة والآمال تتزاحم في رأسه كتزاحم النحل على أعواد الشهد دخل على الأميرة (دعد) وقلبه يرتجف خوفا وينبض فرحاٍ فلا يدري بما يؤول إليه أمره قرأ القصيدة أمامها فاندهشت من سحرها وجمالها وتاهت مزهوة بأبياتها العذبة التي تصف جمالها الفتان وحسنها الفريد وهي تنساب كانسياب الأصيل من وجنة الشمس.
وما أن فرغ منها حتى استنهضت الأميرة الحسناء فطنتها واستجمعت فراستها وهي تنظر إلى الرجل بعينيها الناعستين وقد انتصبت قائمة بعد أن ارتابت فيه.
سألته: من أي البلاد أنت!!
قال: من عرق في حي بني دهم
قالت: هذه القصيدة ليست لك
قال: بل هي لي.
قالت: هذه مهري ولست أنت قائلها.
ثم عقبت بقولها: هي للشاعر الذي قتلته وأخذتها منه.
صعق الرجل مذعورا!! متعجبا! كيف علمت بفعلته ولم يطلع عليها أحد!!
تلعثم ولم يدر ما يقول من هول صدمته. أشاحت الأميرة بوجهها عنه ونادت الحرس قائلة اقبضوا على قاتل زوجي وبعد أن أدرك الرجل بأنه لا فائدة من الإنكار أقر بجريمته الشنيعة. وقبل أن يؤخذ إلى ساحة القصاص العادل لينال عقابه.. سمع أحد الحاضرين من الحاشية يسأل الأميرة قائلا: من أخبرك بما وقع من هذا الرجل الغادر قبل اعترافه.
قالت -والدموع تنهمر من بين عينيها حزنا على فقدان من كانت تحلم به طوال عمرها- أخبرني بيت من الشعر في القصيدة حيث أفصحت عن موطن قائلها بأنه من تهامة وهذا الغادر فضحه جهله وأنطقه جرمه بأنه من (أعراق دهم) وشتان بينهما فصاحة وموطنا. وذلك حين قال الشاعر:
إن تْتهمي فِتِهامِةَ وِطني
أِو تْنجدي يكن الهِوى نِجدْ
واستمرت تبكي زوجها الذي لم تر غيره قط حتى وافته.
ثم تناقلت قصتهما الركبان وسارت على كل لسان لقد خلدت القصة القصيدة والقصيدة القصة فانظر إلى حلاوة سبكها وحسن بنائها:
إذ يقول فيها الشاعر:
هِل بالطْلول لسائل رِدْ
أِم هِل لِها بتِكِلْم عِهدْ
أبلى الجِديدْ جِديدِ مِعهِدها
فِكِأِنِما هو رِيطِةَ جْردْ
من طول ما تِبكي الغيومْ عِلى
عِرِصاتها وِيْقِهقهْ الرِعدْ
وِتْلثْ ساريِةَ وِغاديِةَ
وِيِكْرْ نِحسَ خِلفِهْ سِعدْ
تِلقى شِآميِة يِمانيِةٍ
لِهْما بمِور تْرابها سِردْ
فِكِسِت بِواطنْها ظِواهرِها
نِوراٍ كِأِنِ زْهاءِهْ بْردْ
فِوِقِفت أِسأِلِها وِلِيسِ بها
إلا المِها وِنِقانقَ رْبدْ
فِتِبادِرِت درِرْ الشْؤون عِلى
خِدي كِما يِتِناثِرْ العقدْ
لِهِفي عِلى دِعدُ وِما حفِلت
إلا بجر تلِهْفي دِعدْ
بِيضاءْ قِد لِبسِ الأِديمْ أديم
الحْسن فِهْوِ لجلدها جلدْ
فِالوِجهْ مثلْ الصْبح مبيضَ
والفِرعْ مثلِ اللِيل مْسوِدْ
ضدان لما استِجمعا حِسْنا
وِالضدْ يْظهرْ حْسنِهْ الضدْ
وِجِبينْها صِلتَ وِحاجبها
شِختْ المِخِط أِزِجْ مْمتِدْ
وِكِأِنِها وِسنى إذا نِظِرِت
أِو مْدنِفَ لِما يْفق بِعدْ
بفتور عِينُ ما بها رِمِدَ
وِبها تْداوى الأِعيْنْ الرْمدْ
ويأتي في ختام الأبيات قول الشاعر:

إن لِم يِكْن وِصلَ لِدِيك لِنا
يِشفى الصِبابِةِ فِليِكْن وِعدْ
قِد كانِ أِورِقِ وِصلِكْم زِمِناٍ
فِذِوِى الوصال وِأِورِقِ الصِدْ
للِه أشواقي إذا نِزِحِت
دارَ بنا ونوىٍ بكْم تِعدو
إن تْتهمي فِتِهامِةَ وِطني
أِو تْنجدي يكن الهِوى نجد

قد يعجبك ايضا