الحشود القرآنية في ساحات النبي اليمانية

د. حمود عبدالله الأهنومي

 

حثَّ القرآنُ الكريُم في آيات كثيرة على تعظيم رسول الله وتوقيره وتمجيده، ونهى عن أن يرفع أحدٌ صوته فوق صوته وأن يعاملوه كأحدهم، باعتبار ذلك جزءا من المنهجية القرآنية التي تجعل من تعظيم الرسول طريقة إلى خَلْق نفسية تربوية تتأثر وتتأسى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم من منطلق التعظيم والتوقير له، وأن ذلك جزء من فلاح الأمة وقوتها وعزتها وكرامتها، وهنا يمكن القول بأنه لم يعظَّم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في تاريخ اليمن – في أقل الأحوال – كما يُعَظَّم في عصرنا هذا وتحت ظلال هذه المسيرة القرآنية التي تحاول الاهتداء والاقتداء بالقرآن الكريم في كل حركتها.
لا تتعلق مسألة الاحتفاء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمكايدات السياسية والمزايدات المذهبية لا من قريب ولا من بعيد، بل هي منهجية قرآنية يعمل عليها اليمنيون للحصول على بركات هذا الاحتفاء، ونتائج هذا التعظيم، ومنها فلاحنا وصلاحنا وعزتنا وكرامتنا، نزولاً عند قول الله تعالى: (فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف:157]، وبهذا يتبين لكل ذي عقل أننا كيمنيين ملتزمون بالمنهجية القرآنية، ونحن أحوج ما نكون إلى سلوك أسباب النصر، وحيازة مقومات الفلاح في خضم هذا الصراع الذي نخوضه اليوم، وأن الاحتفاء بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليس أكثر من التزام بالمنهجية القرآنية، وثقة بوعود الله التي أطلقها لعباده جل في علاه.
من المفيد التذكير بأن هذه المسيرة العبقرية المباركة تحمل بذور انتشارها وعوامل الاقتناع بها ودوافع الالتقاء معها في كثير من أدبياتها ومناهجها وأولوياتها؛ لأنها تتحرك بحركة القرآن الذي أنزله الله مباركاً، وهدى به جميع العالمين، والقرآن كلام الله الذي خلق الكون وما فيها من عوالم، وبالتالي فهو خطاب يصل إلى أعماق فطرة الإنسان وينسجم مع عقله ومنطقه، والإنسان أكثر من يستجيب لنداء الفطرة الإلهية إذا تخلى عن أسباب الانحراف وعوامل الضلال وضغوط الانحراف، ولما أخذت هذه المسيرة بأهم مصادر الإسلام ومنابعه النورانية كالقرآن الكريم، ومحورية نصوصه وهيمنتها على كل النصوص الأخرى، وتعظيم الرسول العظيم، والإشادة به، والحث على ذلك لم يكن هناك منصف إلا وسيجد نفسه ملتقياً مع هذه الأمور ومع أولوياتها في استنهاض الأمة.
أما تفسير التنامي الواسع لنشاطات المسيرة القرآنية فلا يتعلق بأن في يد أنصار الله عصا سحرية تسوق الجماهير وتحركهم بطريقة عجزت عنها معظم الحركات والأحزاب الدينية والسياسية والاجتماعية، ولكن القضية تتعلق ببركة القرآن الكريم، وبركة الحركة بحركته؛ ذلك أنهم يسيّدون النص القرآني على جميع النصوص الأخرى، ويجعلونه مهيمنا عليها، ويتحركون على ضوئه، ويثقون بالقرآن وبما يهدي إليه وبأن فيه الكفاية وما هو أكثر من الكفاية لهداية الأمة في مختلف المجالات، كما قال ذلك الشهيد القائد في ذات محاضرة، حين دعا الأمة إلى أن تثق بالقرآن الكريم بأن فيه الكفاية وأكثر من الكفاية، قال تعالى: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ)، (إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)، ولكن ما ينقص كثيراً من مفكري وعلماء هذه الأمة أنهم لا يثقون في القرآن بأنه يمكن أن يهدي الأمة جمعاء للتي هي أقوم في كل مجالات هذه الحياة، ولهذا يتركون القرآن ويذهبون للبحث عن الهداية في الكتب الأخرى.
ولعل أقرب وأهم مثال لنا خطاب السيد القائد- رضوان الله عليه، البارحة الذي يشهد لما قدمت ذكره، فقد قدم خطاباً متميزاً وضافياً بالمعلومات، ومملوءاً بالهدى الرباني، وحقق أهدافاً تربوية ورسائل سياسية عديدة، وجميعه مأخوذ من القرآن الكريم، كيف لا والسيد القائد يقول: إن الخطاب القرآني هو الخطاب الوحيد الذي يمكنه اقتحام جميع الساحات بلا قيود مذهبية، ولا حدود طائفية، وأن نهضة هذه الأمة وعزتها وكرامتها مرهونة باتباعها لهذا الكتاب العظيم.
وفي خطابه رضوان الله عليه بدأ الحديث عن بواعث احتفال اليمنيين بالمولد النبوي الشريف وغاياته وأهدافه، والدروس التي يستفيدها الشعب اليمني من هذه الذكرى ونشاطاتها وفعالياتها، وأن علاقتنا برسول الله علاقة اتباع واقتداء في إطار التوجه العملي للتحرر من هيمنة الطاغوت والاستكبار على أساس من الهوية الإيمانية، باعتبار ذلك كله من أهم ثمرات مبدأ التوحيد لله والإيمان به وبكتبه ورسله، وهذه نقطة مهمة يتميز بها السيد القائد عن جميع القيادات الأخرى؛ ذلك أنه قائد ينطلق من القرآن، ويضع جميع مواقفه في إطاراتها الصحيحة، فالموقف من هيمنة أمريكا وإسرائيل قضية متعلقة بأعظم مبدأ في الإسلام، وهو التوحيد لله والإيمان به ويكتبه وبرسله.
قدم السيد القائد أيضاً لمحة تاريخية عن وضع العالم عشية مولد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأنه كان أحوج ما يكون إلى التغيير الإيجابي على يد رسول الله، وتناول حدث أصحاب الفيل باعتباره أهم حدث تاريخي حصل بعد بعثة نبي الله عيسى عليه السلام، ثم ذهب عليه السلام يطوف في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجتني منها ما يفيدنا في واقعنا فكرياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وفي مختلف المجالات، والسيد القائد كما عودنا يقرأ التاريخ من منظار الواقع الذي نعيشه ومن خلال أهم مصادره وأوثقها وهو القرآن الكريم.
إن السيد حين يقرأ التاريخ لا يقرأه لمجرد الاستظهار وإمتاع السامعين والمشاهدين بالتفاعلات التاريخية للأحداث، ولكن يقرأه وهو يبحث عن امتداد خط الهداية الذي يتحرك فيه ويقود شعبنا إليه، ويبحث عن امتداد خطوط الضلال والفساد والانحراف وعن سلف الضالين والمستكبرين الذين نخوض معهم اليوم أكبر جولات الصراع، ومن هنا تأتي أهمية قراءات السيد القائد للتاريخ.
فهو رضوان الله عليه مثلاً حينما شرح مؤهلات رسول الله وقدراته الشخصية والبيانية والأخلاقية وأنه مع ذلك فتحت له كيانات الكفر والفساد والضلال، اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين، جبهات عديدة، فهو إنما يخبرنا أننا حين نصارع هذه الفئات نفسها اليوم فإننا إنما نقفو طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن الصراع بيننا وبينها أمر حتمي لم يستطع رسول الله نفسه تفاديه وتجنبه على ما آتاه الله من مميزات وصفات لا يمكن أن تتوفر في غيره.
ثم يأخذ السيد القائد من التاريخ ما يحفز الشعب اليمني إلى الاستمرار في ذات الموقف والسلوك، ولم أر زعيما يعظم شعباً مثلما رأيت السيد القائد يعظم شعبه اليمني العظيم، متكئاً إلى حيثيات قرآنية ومواقف تاريخية، وهنا في هذا الخطاب ذكر السيد القائد ما هيأ الله لأجدادنا اليمنيين الأنصار من الأوس والخزرج من احتضان الإسلام ونصرته بخلاف أكثر من 30 قبيلة كان الرسول قد عرض عليها نصرته، فلم يتوفق إلا أجدادنا اليمنيون.
وحين تحدث السيد القائد عن المنافقين- وهم الجبهة الداخلية التي صارعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- ذكر كثيراً من نشاطاتهم وأقوالهم وأفعالهم وتأثيراتهم، وكأنه كان يكشف ما نعانيه اليوم من منافقي عصرنا، وكأنه كان يبين أن المنافقين اليوم الذين يقفون مع العدو أو يقفون على الحياد كما يزعمون، ويتربصون الدوائر بالمجاهدين، وقد رضوا لأنفسهم أن يقعدوا مع الخوالف، وأنهم بالتالي لا يمكن أن يكونوا مثالا للحق، ولا نموذجا للصدق، بينما الذين يمثلون الامتداد الحقيقي للرسول صلى الله عليه وآله وسلم هم أولئك الذين لهم موقف صريح وقوي في مواجهة الاستكبار والظلم والغطرسة، وهم المجاهدون العظماء.
وحول أهمية المعركة التي يخوضها شعبنا اليمني ذكّر السيد القائد أن أهم دور للجهاد في سبيل الله هو دور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم سرد الآيات التي تدل على انخراطه صلى الله عليه وآله وسلم الانخراط المباشر في مواجهة وقتال العدو، وختم بأن سيرة رسول الله كانت مسيرة تزكية وتربية ورحمة وجهاد، وعليه فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون أولئك القاعدون المتخاذلون الذين وصفهم السيد بـ(الأذلة على الكافرين) يمثلون حالة الطاعة والاستقامة التي يريدها الله تعالى، وأضاف أن القرآن الكريم لم يثن أبداً على قعود القاعدين وخذلان المتخاذلين، بل عاب عليهم ذلك، ووصمهم بالنفاق من أجل ذلك.
ولم يَفُتْ السيد أن يوجه ضربة فكرية وثقافية مهمة جداً نحو فريق الخيانة والعمالة والتطبيع والولاء المحرم من أنظمة العمالة الخليجية حين عنونوا اتفاقيات الخيانة والذلة مع إسرائيل بـ(الاتفاقيات الإبراهيمية)، مذكِّرا إياهم أن هذه أكبر إساءة توجه إلى نبي الله إبراهيم عليه السلام، الذي كان رمزاً للبراءة من أعداء الله، وأعداء الإنسانية، وحطّم الأصنام بكل قوة، وذكر أن (أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)، وذهب يشرح جرائم أمريكا وإسرائيل بحق البشرية والعالم الإسلامي التي لا تجعلهم أهلاً للتولي بل للبغض والقتال والحرب، وبالتالي فشأن المقتدين بإبراهيم كان يجب أن يكون البراءة منهم، والمواجهة لهم، لا التولي المحرم، كما فعلت أنظمة العمالة والخيانة.
لقد حوى الخطاب مضامين هامة وقضايا رئيسة كان الشعب بحاجة إلى أن يسمعها منه شخصياً، ويمكن الإشارة إلى أبرز قضيتين ذكرهما، الأولى تأكيده على أننا كشعب يمني جزء لا يتجزأ من المعادلة التاريخية التي أطلقها السيد حسن نصر الله بشأن مدينة القدس الشريف، وأن عدوان اليهود عليها يعني اندلاع الحرب الإقليمية التي سيكون لليمن الدور الأبرز فيها، والأخرى هي دعوته الشعب اليمني للاستمرار في التصدي للعدوان السعودي الأمريكي الذي لا يزال يرتكب أبشع الجرائم بحق شعبنا قتلاً وحصاراً ومصادرة لحريتنا واستقلالنا، وأكّد أننا مستمرون في تطهير بلدنا من رجس الاحتلال حتى وقف العدوان، ورفع الحصار، وتحقيق سيادة اليمن على كل شبر من أراضيه، ومعالجة آثار وأضرار الحرب، والتعويض العادل من قبل المعتدين، وهو موقف قوي يعمل اليمنيون على فرضه على المعتدين بقوة الانتصارات التي يراكمها أبطالنا كل يوم من هذه الأيام.

قد يعجبك ايضا