أفلا يتدبّرون سورة “محمّد” أم على قلوب أقفالها؟

عبدالفتاح إسماعيل

 

 

لعلّي كنت واحداً ممّن بلغ أشدّه واستوى حتى الثلاثين من قبل أن يعرف شيئاً عن سورة رسوله النبي (محمّد)!
لقد صرفونا منذ نعومة أظافرنا عن مثل سورة هذا النبي الكريم، وملأوا عقولنا الفارغة بكل إفك مفترى، وبكل سحر مأثور، وبكل مُسند قديم يلوون به ألسنتهم لتحسبوه من الرسول، وما هو من الرسول، ويقولون هو من عند الله، وما هو من عند الله، ويفترون على الله الكذب وهم يعلمون.
وأنا لا أذكر مذهباً ذهبته، أو منبراً سمعته، أو كتيباً قرأته، أو حلقة درس حضرتها.. لا أذكر منهم أحداً كان يتلو علينا من سورة هذا الرسول النبي ولو آية واحدة، بل لا أذكر أنهم علّمونا من سيرة رسولهم الذي يجدونه مكتوباً عندهم في سورة محمّد ولو خَصْلة كريمة واحدة.
فهل كانوا يعرفون رسولهم، أم هم له منكرون؟!
وكنتُ كلّما تلوت السورة، عجبت من عموم ما فيها عن سيرة النبي محمّد، فلقد كان ما حدّثتنا عنه كتب السيرة والأسانيد القديمة يفوق ما تحدّثنا عنه السورة أضعافاً كثيرة. لكنّ ذلك لم يكن سوى غثاء باطل، والحمد لله أنْ ذهب جفاءً كزبد السيل.
أمّا ما ينفعني اليوم عن الرسول فماكث بالحق فيما أنزل على الرسول من الحق، ماكث في هذا الكتاب المبين الذي يتلوه عليكم بالحق هذا الرسول المبين، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، “كذلك يضرب الله الحق والباطل” “كذلك يضرب الله للناس أمثالهم”.
ودعني أسأل كلَّ مَنْ كان له في رسول الله أسوة حسنة، هل وقفت يوماً على سورة محمّد تسأل عن صاحبها الصادق الأمين؟ هل سمعت يوماً هذه السورة الكريمة وهي تُتلى بالحق من نبأ هذا الرسول الكريم؟ بل هل سمعت يوماً هذا الرسول الكريم وهو يتلو عليك بالحق من نبأ هذه السورة الكريمة؟
وسورة محمّد تستوقفك من مطلعها بطقس عاصف متقلب الأجواء، تتراكم حوله عواصف عاتية من الكفر والنفاق. كما يعلو في محيط السورة وقع طبول الحرب وقصف المدافع. وعلى نواحيها تسمع دوي القصف والقذائف وهي تهوي ضاربة أعناق الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله. “أضل أعمالهم”. “أحبط أعمالهم”. “دمّر الله عليهم”. “لا مولى لهم”. “أهلكناهم فلا ناصر لهم”.
وفي نواح أخرى من السورة، ترى بوارق الوعيد والحتوف وهي تلوح من فوق رؤوس المنافقين والذين في قلوبهم مرض وتكاد تخطف حواسهم وتقصف أعمارهم . ” فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنىّ لهم إذا جاءتهم ذكراهم”. “فأولى لهم”. ” فأصمّهم وأعمى أبصارهم”. “يضربون وجوههم وأدبارهم”. “أن لن يُخرج الله أضغانهم”.
وتبدأ السورة بقذيفة كالبركان تقصف معاقل الكفر وتدمّر ما صنعوا وما كانوا يمكرون. “الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله أضل أعمالهم”. لكنها بعد هذا القصف، تبعث بالبشرى والسلامة إلى الذين آمنوا واتبعوا ما أنزل على الرسول من الحق. “والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نُزّل على محمّد وهو الحق من ربهم كفّر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم”.
ولقد كان القتال في سبيل الله هو موضوع السورة الأول، أمّا الإنفاق في سبيل الله فهو موضوعها الآخِر. وبين هذين الموضوعين في سياق السورة، ترى بشائر النصر والعز والتمكين تشرق من معسكر الرسول والمؤمنين على كل الآفاق. “إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم”. “ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم”. “وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم”.
أما في معسكر الذين كفروا وشاقوا الرسول فترى أجواء قاتمة من التعاسة والضلال. والعجز والخسران يطبق عليهم من كل جانب. “والذين كفروا فتعساً لهم وأضل أعمالهم” “ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم”.
لكنّ السورة كما بدأت بقذيفة مدمّرة على الكافرين وأعمالهم، ها هي تختم بواحدة تكاد تذهب بالذين نافقوا وأمثالهم. “وإنْ تتولوا يستبدل قوماً غيركم، ثمّ لا يكونوا أمثالكم”.
ولعل ما يثير الدهشة والاستغراب، أن مثل هذه السورة المدنية لا زالت ملبّدة بأجواء عاصفة من الكفر والنفاق، رغم أنها نزلت بعد سنوات من الهجرة وقد بات النبي ساكناً بين أصحابه في المدينة. إن أجواءها تكاد تتفطر من شدّة الشقاق والكفر، ومن حدّة النفاق والمكر، لكنّ الله من ورائهم محيط.
وعلى الرغم من غياب النبي عن دور المتكلم في دراما السورة، إلا أن مجاله كان مؤثراً في كل أحداثها التي كانت تدور في فلكه وتتأثر بحركته وسكونه وإن كان واقفاً خلف الأضواء. ولعل أشد ما يبهرك في شخصيّته عليه السلام، هو مقدار ثقته بربه لدرجة جعلت كل العواصف تسكن رغم ما فيها من حتوف وأخطار.
هكذا بتّ أشعر اليوم عندما أقرأ سورة محمّد. أشعر بأني دخلت مجلسه، وصرت واحداً من جلسائه. بل أشعر أني أعرف ما يدور من حديث في حضرته، وما يقال بعد خروجهم من عنده، وكيف تدور أعينهم عند نزول سورة محكمة عليه. بل بتُّ كأنّي أشعر بأنفاسه، أنفاس محمّد، صلّى الله عليه شفكثيراً ما تشعر بذلك النَفَس الثابت المطمئن رغم تجهم الخطوب. وتارة تأسرك أنفاسه المحزونة وهو ينذر قريته التي أخرجته بغير حق، وتارة تنشرح أنفاسه المكنونة وهو يبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات بجنّات تجري من تحتها الأنهار.
لكنّ أنفاسك تنحبس عندما تعرف أن العدو الأخطر والمكر الأكبر كان من رجال مردوا على النفاق من أهل المدينة. من رجال حول الرسول كانوا يستخفون منه ولا يستخفون من الله إذ يبيّتون ما لا يرضى من القول، لكنّ الله يعلم سرهم ونجواهم، ولو شاء لأخرج مخبوء ضمائرهم وفضح أمرهم. بل لو شاء لكشف أعيانهم حتى يعرفهم الناس بسيماهم.
ولقد وقفت السورة على هؤلاء المنافقين الذين في قلوبهم مرض أكثر مما وقفت على إخوانهم الذين كفروا من المشركين. فمنهم من كان يحضر إلى مجلس الرسول يسمع القرآن، لكنه يخرج من عنده كأنْ لم يسمع أو يعقل شيئا، “أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم”، ومنهم مَن إذا سمع سورة محكمة كُتب فيها القتال كسورة محمّد، رأيت أعينهم تدور كالذي يُغشى عليه من الموت. “أولئك الذين لعنهم الله فأصمّهم وأعمى أبصارهم”.
وهنا تقف بي السورة على حقيقة جليلة، حقيقة هزتني ونفضت عني بلادة الفكر والعبرة، فأنت بعد أن شاهدت ما جرى في السورة من مشاهد صاخبة وما دار فيها من حوارات ساخنة، تدرك بجلاء أن الله هو صاحب الكلمة الفصل بين هذا النبي الكريم وبين أمته في كل أمر الدين صغيره وكبيره.
فبالرغم من أن النبي لا يزال قائماً بين أصحابه هادياً ومبشراً ونذيراً، إلا أنك تسمع مثل هذه الواقعة العجيبة: “ويقول الذين آمنوا لولا نُزّلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم”.
وهنا لك أن تسأل لـماذا يرجو المؤمنون أن تنزّل سورة والرسول لا زال قائما بينهم يبين لهم ما شاءوا من الأمر؟ ولـمَ يحذر الذين في قلوبهم مرض من نزول سورة كتب فيها القتال، وهم في كل مرة يتخلّفون عن رسول الله بغير عذر ولا حرج؟ بل لــمَ تلتفت السورة إلى الفريقين في جرس هادر تقول: ” أفلا يتدّبرون القرآن أم على قلوب أقفالها”.
يا لَعجبي، هل كان ينبغي على المؤمنين وغير المؤمنين أن يتدبروا القرآن بأنفسهم رغم أن النبي لا زال قائما بينهم؟ يا رباه، لعله لم يكن من وظيفة النبي أن يتدبر القرآن عن أمّته ثم يطرحه لهم في كتب التفسير القديمة؟ بل لقد كان من وظيفتي أنا وأنت أن نتدبر هذا القرآن بأنفسنا ولأنفسنا، وألا نركن على السادة والكبراء الذين خلعوا على أنفسهم رداء النبي وعمامته ثم اتخذوا هذا القرآن مهجوراً.
ولقد هزتني حقيقة أخرى هي أكبر من أختها، ألم يصف الله القوم الذين في قلوبهم مرض بقوله: “أولئك الذين لعنهم الله فأصّمّهم وأعمى أبصارهم”. لكنْ هل كان هؤلاء القوم في الواقع صمّاً أم كان لهم آذان يسمعون بها؟ وهل كانوا عمياً أم كان لهم أعين يبصرون بها؟
فما المقصود من الآية إذن؟ وهل الحق ما يصفهم به ربهم من صمم وعمى وإن خالف الظاهر؟! أم الحق ما تراه عليهم في الواقع من سمع وبصر؟ الحق أنهم يسمعون لكنْ كما تسمع الأنعام، وأنهم يبصرون كما تبصر الأنعام، “والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم”.
ويْكأنّ مَنْ لم يستمع لكلمات الله فهو الأصم وإن كان يسمع، ويكأنّ من لم ينظر إلى آيات الله فهو الأعمى وإن كان يبصر.
وهكذا يا أيها الإنسان، هل تنفعك كل علوم الأرض والفضاء وإن ذهب فيها سمعك وبصرك، وأنت لم تسمع صوت الله ولم ترَ آياته.. وهل تغنيك كل شهادات العلم والعالم وإن اغتر بها قلبك وفؤادك، وأنت لم تعرف ربك الذي خلقك فسواك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركبك.. أيها المسكين الغرور، إنّما جعلك الله سميعاً لتسمع صوته وكلماته، وإنما جعلك الله بصيراً لترى نوره وآياته.. فما لهم عن التذكرة معرضون، وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون.. أولئك كالأنعام، بل هم أضل سبيلاً.
وقبل أن تنقضي السورة، تقف بك على واقع الحياة الدنيا لئلا تغتر بها فإنما هي لهو ولعب ومتاع، والله عنده حسن المئاب، وعلى هذا، تدعوك السورة إلى الإنفاق في سبيل الله، فأنت الفقير إلى ربك والله هو الغني الحميد، لكنّ سبيل الله ليس بسطاً في الملك والبقاع، ولا تطاولاً في القصور والقلاع، ولا تفاخراً في الزينة والمتاع، فكل ذلك ليس من الله في شيء، إنما هو بذلٌ وجهادٌ من أجل أن يكون الدين كله لله، وفي نصرة الرسول والذين آمنوا معه بما أنزل الله، وفي كل وجوه البر والإحسان ابتغاءً لمرضاة الله.
“ومن يبخلْ فإنما يبخلُ عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإنْ تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم”.
سلامٌ على محمّد في العالمين، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

قد يعجبك ايضا