صناعة ملامح المستقبل في اليمن

عبدالرحمن مراد

 

 

مع انبلاج شمس سبتمبر من كل عام، تستعيد الذاكرة الإعلامية والثقافية الشعارات الثورية البراقة للقرن العشرين، التي لم تعد تلامس مشاعر الناس وتكاد أن تكون خارج نطاق الاهتمام العام.
لقد انتهى زمن الثورات في القرن العشرين، أو كاد ولم يعد ذلك الزمن ملائما لكل أنماط العيش الحديثة، كما أن إعادة إنتاج ذلك الزمن أصبح ضربا من الالتفات وربما الثبوت الذي يتأسن حتى كادت الذائقة تمجه.
تلك أمة قد خلت وأصبحت حبراً يُزيّن أوراق التاريخ وليست أكثر من ذاكرة انقضت، كما أن المرحلة التي فرضتها لم تعد قائمة، بل لقد جد من الأمر ما جد , وظل منه ما ظل ونحن على أعتاب مرحلة يجب أن نتعامل معها لا بمنطق ما كان بل بمنطق ما هو كائن.
ما أشد حاجتنا هذه الأيام إلى قراءة ما سلف من أيامنا لا بمنطق المقدس والثابت الذي دأبت عقولنا على تأصيله, بل بمنطق العقل الذي يتجاوز لحظات التاريخ ليصنع من ملامحها المستقبل.
لست مع تلك القائمة الطويلة من المناسبات الوطنية، ولكني أجد نفسي مع اللحظة والغد الذي أنتظره وتنتظره الأجيال القادمة، ذلك أنني أشعر مع كثير من أبناء جيلي بالحاجة إلى صناعة الغد لا التغني بأمجاد الماضي, أشعر بحاجتنا الشديدة إلى سباق الزمن لا الالتفات إلى الوراء الذي أرهقنا كثيرا وجعلنا نتمحور حوله ولا نستطيع أن نتجاوزه.
قد يظن البعض أنني ضد هذا الحدث أو ذاك، لا أنا لست ضد التاريخ لأنني أرغب أن أصنعه لا أن أتغنى به في ذكراه السنوية بل أكاد أكبّر صانعيه وأمجدهم.. ذلك لأنهم حاولوا أن يصنعوا شيئا لنا.. فلماذا لا نصنع نحن شيئاً لذلك القادم من بين مبازغ الشمس.
إن شعورنا بأننا أبناء اللحظة والغد قد يفتح أمامنا دروب المستقبل ويجعلنا أمام مواجهة اللحظة التي تنتظر منا الخلق والتجديد والتحديث.
لا أظن أن تلك اللحظة الغابرة من الزمن تشكل حافزا لهذا الجيل, بل أكاد أجزم أنها أصبحت تشكل نكوصا نفسيا، ذلك لأن الزمن الماضي ظل ممتدا في صميم اللحظة ولم يتجاوز ما كان إلى الأحدث والأجمل، لذا فالضرورة تفرض علينا تجاوز لحظات التأمل التي أطلناها إلى لحظات الخلق والابتكار والإضافة, وهو ما حدث بالفعل في صباح21سبتمبر 2014م .
ومن غير مراء أو جدل يمكن القول إن الجيل الثوري كان جيلاً مجتهدا أخطأ وأصاب، شأنه شأن كل الأجيال في كل مراحل التاريخ، وميزته الكبرى أنه آمن بقضيته فانتصر لها، وكانت تضحياته تتوازى مع سمو الغايات التي كان ينشدها، لذلك فنحن نكبر هذا الجيل ونجلّه ونعترف له بالفضل، وهذا الإكبار والإجلال لا يعني بحال من الأحوال أن نتمحور حول ذاك الجيل ونستضيء بمصابيحه التي أتى عليها الزمن وتجاوزها الراهن الحضاري الجديد، لأن الثورة تجدد دائم يهدف إلى الارتقاء ونشدان الأفضل, لا النكوص والثبات والتقديس الذي نراه في الخطاب الإعلامي والثقافي.
إن الثورة فعل تطهيري وعليها أن تظل كذلك بعيدا عن أمراض الذات والادعاءات الكاذبة التي تتوالى بين الفينة والأخرى على شكل كتب ومذكرات وحلقات في الصحافة السيارة، ذلك أن التاريخ في منهجيته العلمية الحديثة والموضوعية لن يرحم الأدعياء، وسيعيد الأمور إلى منابعها الأصلية مهما طال به الزمن, كما أنها ليست رقصة شعبية أو مزمارا نحاول تكراره في كل عام بل فكرة وسلوكا, والفكرة لا بد لها من التشظي ومسايرة النسق الحضاري الجديد.
فالذين يقفون بصف العدوان على اليمن في حاضرنا ثم يبالغون في الاحتفاء بالثورة يقفون على طرفي نقيض , إذ أنه لا يمكنك أن تكون ثائرا ثم تقبل احتلال بلادك فأنت لحظتها تقف على عداء شديد مع الهدف الأول لثورة 26سبتمبر 62م، وهو يحشرك في زاوية أخلاقية ضيقة, الثورة لا تقبل مستعمرا ولا مستبدا وكل الذين يظهرون ولاء لثورة 26سبتمبر 62م زائفون وهدفهم الاحتماء بالماضي من استحقاق الحاضر الذي يطالبهم اليوم بتحديد مفهوم الاستعمار والحرية والكرامة والسيادة الوطنية من أجل إعادة ضبط الخيارات ومحاكمة القناعات , وتحديد المفاهيم , وذلك أمر يجعلهم أمام سؤال وطني كبير يهربون من الوقوف أمامه بتجرد معرفي وأخلاقي ووطني محض , فهو يجلد ضمائرهم الباحثة عن المصالح من بين ركام الوطن الذي يتاجرون بدمه وبمقدراته.
اليمن على أبواب مرحلة جديدة، ناضلت للوصول إليها نضالا كبيرا يمتد زمنيا لسبع سنين عجاف, وكانت التضحيات وما تزال جسام , تنوء بحملها الجبال لكنها ماضية في مسارها حتى تصل إلى غاياتها الكبرى, ولعل أصغر تلك الغايات الحرية، والاستقلال، والسيادة الوطنية , التي ظلت مهدورة الجانب طوال عقود من الزمن, لكنها لن تظل كذلك بعد أن خضنا معركة التحرر والاستقلال وملكنا أزمة المبادرة والقرار .
اليوم يقف أحرار العالم – لا عبيده – إكبارا وإجلالا لليمن وأهله , وذهبت القداسة عن أعداء اليمن فلم يعد لهم في الصورة النمطية- التي كونتها المراحل, وزيف المراحل في الوجدان العام- أي أثر يذكر , فقد محته سنوات العدوان على اليمن , وكادت سنوات العدوان على اليمن أن تصنع صورة نمطية أخرى بل لقد فعلت ذلك , ولذلك يهرب بدو الصحراء إلى التاريخ لا بحثا عن أمجاد بل لصناعة تاريخ مزيف ولن يتحقق لهم ما يسعون إليه , فقد عزّ عليهم المنال , فتاريخ السعودية منذ نشأتها في القرن العشرين أصبح مهينا بعد أن سمح المستعمر البريطاني بخروج مذكرات بعض أتباعه ونشر وثائق تاريخية , ولذلك كانت محاولة بعض بدو الصحراء في صناعة تاريخ العلاقة اليمنية السعودية- بصورة مغايرة لواقعها وخارجة عن أصول البحث العلمي وخاصة حرب 34م- محاولة يائسة ومستهجنة .
اليمن تسطر تاريخا حديثا سوف يعمل على ترتيب النسق العربي بما يحقق للأمة المجد والعزة والكرامة , ولن تجني دول العدوان سوى الخزي والعار.

قد يعجبك ايضا