ثورة 21 سبتمبر

بين جدل اللغة وقضايا المجتمع المعقدة

عبد الرحمن مراد
كل حركة ثورية حقيقية تطمح الى تحول تاريخي عميق يجعل منها مركزا مهما في حركة التاريخ ويمكنها مع غيرها من صنع القرار والمبادرة والإسهام في الحضارة الكونية كندٍ وليس كتابع وهذا ما كانت عليه حركات التحرر في القرن الماضي قبل أن تصاب بالثبات والجمود وقبل أن تتعرض للمؤامرات والاستهداف كالناصرية مثلا وهي تجربة يمكن الاستفادة من تفاعلها مع حركة التاريخ في زمنها ومثل ذلك من تمام الحكمة والعقل إذ لكل تجربة مراكز قوة ومراكز ضعف وقراءة التجارب تجعلنا أكثر تمكنا من التحكم في مقاليد الثورة والمستقبل.
ونحن في اليمن في متواليات احتفالية برموز ثوريين من آل البيت , بدأنا بثورة الإمام الحسين , واليوم نحتفي بثورة الإمام زيد , وها نحن نحتفي بثورة 21سبتمبرفي تواشج مستمر وفاعل , وهي محطات نأمل أن تصنع في ارادتنا طاقات تطمح الى تحول تاريخي عميق يجعل من اليمن مركزا مهما في حركة التاريخ , فالثورة حركة ديناميكية ومتجددة ثقافيا واجتماعيا وليس نمطية ثابتة ولذلك فالتجدد سمة ثورة وصناعة حقيقية لواقع يتسم بالثورية ويتجدد ويحاول أن يفض اشكالات قضايا المجتمع المعقدة .
ولعل الواقع الثقافي اليمني اليوم أضحى متعثرا بسبب الاضطرابات, فالمصطلح الثقافي والادبي فقد طاقته الدلالية اليوم , وهناك شعور طاغ لدى الكثير – وأنا واحد منهم – أن اللغة فقدت طاقتها وقد أخفقت اللغة في استيعاب التطورات التي تحدث قدرا من الانفعال والحركة في الواقع .
فاليوم – كأي زمن مشابه له من حيث عدم الاستقرار- يقوم الادب الشعبي بالترويج لمعجم لغوي بديل , هو في حقيقته يقتصر على التعبير عن آراء بسيطة وشائعة ومتداولة بين الناس .
فالاضطراب العام وعدم استقرار الحياة أفقد اللغة مصادرها في التعبير فأضحت عاجزة عن فهم طبيعة الحقيقة الخارجية فالأديب ينظر الى ما وراء الطبيعة لإيجاد منابع للاستقرار والايمان ولذلك أرى ان اللغة أخفقت في استيعاب التطورات المتحققة في حقول المعرفة فكل الذي يحدث اليوم طحالب ولنا أن نطوف في شبكة التواصل الاجتماعي لنكتشف مشاهيرهم وننظر في المحتوى الذي يقدم .
فاللغة تواجه خطرا محدقا وكذلك المجتمع , وأنا أرى أننا لن نصل الى الاستقرار ولا الى النظام ولا الى الثبات إذا فشل الفنان والأديب من التجرد من محاكاة الاشياء الحية غير المستقرة .
فحين يبدو كل شيء حولنا في الطبيعة كعنصر مهدد لنا, وفوضى , نشعر بحاجتنا الى اقصاء سمات الزوال والتنافر بين الكائنات, فنحن هنا خارج معادلة الفوضى ولا نشعر بالمعنى الحقيقي لوجودنا في طبيعة سماتها الفوضى والفناء .
ومن البداهة القول أن اللغة ظاهرة اجتماعية تتطور مع تطور المجتمع بدليل أن الرمزية ارتبطت بالجانب الصناعي , والواقعية ارتبطت بسباق التسلح بين الشرق والغرب وكل مرحلة كانت تبرر ضرورتها الفنية المواكبة لها .
لكن ما يحدث اليوم هو حركة تعطيل وثبات وموت , وهي مرحلة تتبلد فيها اللغة لكنها ستعود , حدث مثل ذلك قبل عصر النهضة وهو يحدث اليوم , ولا يقظة إلا بتفعيل دور اللغة .
فاللغة -كما يذهب الى ذلك الكثير من المفكرين – لا تجرد من معانيها في الغالب لكنها تندمج في علاقات تحددها ثيمات العمل وبنيته وبمثل ذلك التفاعل تصوغ شيئا جديدا قد يكون محسوسا ولكنه بالضرورة غير مألوف .
وتكوين الصورة في النصوص الإبداعية ضرورة لا يمكن تجاوزها , وفي المساحة الفاصلة بين الصورة وما حولها , يجد الكاتب الحداثي آفاقا جديدة يعمل من خلالها على تطوير الإمكانات اللغوية أو بمعنى تفجير الطاقات القصوى للغة .
فالفرنسيون مثلا في عصر الصناعة اكتشفوا الإمكانات الرمزية للأشياء , وقالوا أن الأشياء يمكن أن تكون أكثر بلاغة من الافكار , ورأى بعضهم أن وسائل الدخول الى الممالك الروحية هي الصورة , ولذلك ذهب البعض الى القول:
إن الصورة الشعرية ليست مجرد زخرف , بل جوهر اللغة الحدسية ذاته , وخالف البعض هذا القول , وقالوا ليست الصورة جوهر الحدس ولكنها تقترب منه وهي تحفظ بداهة التجربة الحدسية، وعلى العموم فالتصوير الفني هو صهر للعناصر وبحيث يمنحنا إحساسا بالتحرر المفاجئ والانعتاق من حدود الزمن وحدود الفضاء وحدود المكان وهذا الإحساس يخفق الواقع في تحقيقه , لكنه وطن متخيل بديل حتى نصل الى حالة التوازن ونستطيع الاستقرار والثبات والانتظام .
مشكلتنا اليوم في مجتمعاتنا العربية أننا نرى الوصول الى السلطة هو الغاية ,وحين نصل الى السلطة لا نفكر في مشروع بناء الدولة ,لذلك وقعنا في عمق الأزمات المعقدة ,ولم نستطع حل قضايا حقيقية ومعقدة ومتكاملة ومرتبطة ببعضها مثل فكرة الاستقلال ,وفكرة تطوير المجتمع ,وتحديث قانون حركة التغيير في الطبيعة والمجتمع.
فلا يمكن اختزال حركة الثقافة في المجتمعات إلى “نمطية مماثلة” كونها ليست جامدة أو ميكانيكية، وبالتالي فالتيار النظري والمنهجي الذي يعتمد مقاربة ثقافية دينامية، ينظر إلى الفرد بوصفه فاعلًا اجتماعيًا، يؤثر ويتأثر, وينفعل ويتفاعل، في بيئة اجتماعية وثقافية محددة، لتصبح التشكيلات الاجتماعية، كخيارات الولاء والانتماء، معطًى يشارك الأفراد في تكوينه.
ومع هذا التصور الدينامي للثقافة، تكون الهوية بحد ذاتها كجدل إنساني واجتماعي، وتكون في ضوء هذه المقاربة صيرورةً تكوّن نسقًا ذا معنى عند الفرد الذي يتفاعل مع آخرين، بالوقت نفسه الذي يتفاعل فيه مع النسق الرمزي بشقيه الموروث والسائد، حيث يتطورون معًا.
ووفق تحقق الهوية كصيرورة جدلية، بالمعنى التكاملي للأضداد، فهي تجيز بذلك بروز الفروق الفردية، ومطابقة الفرد مع الجماعة التي ينتمي إليها، وفي ضوء هذه المقاربة فقط، يمكن فهم: كيف يصبح الفرد عاملًا في بناء ثقافته , وفي بناء هويته الذاتية، وكيف يكوّن هؤلاء الأفراد أنظمة ثقافية جماعية تتخطاهم كأفراد.
ولذلك نقول: إنه لا يجوز تحليل الوعي المجتمعي، من خلال مواقع طبقية أو إيديولوجية واحدة، لأنه سيكوّن قراءة منحازة ، فنحن نخطئ إذا استنتجنا أن الأفكار التي تحرك الفرد موجودة في الفرد وحده، فالتفكير يقوم به الناس في جماعات معينة، وضمن سياقات كانت قد طورتها لنفسها كأسلوب خاص في التفكير، وهو ما يمكن اعتباره تشكلًا لـ “هوية ثقافية”. وبعض المفكرين يرى أن الناس يعيشون في جماعات لا يمسون فيها كأفراد منفصلين، بل يتصرفون مع أو ضد بعضهم، ضمن جماعات متنوعة التنظيم.
إذن نحن بحاجة الى التحليل والنقد وإعادة تشكيل وبناء الجسور والتواصل وإلى مقاربات سوسيولوجية علمية عقلانية، لمشكلات مجتمعنا اليمني وتحدياته الثقافية والحضارية.
ومعالجة الواقع الجديد – بالنقدً والتفكيكً– على ضوء أبرز الأدبيات العلمية والفكرية والأكاديمية المعاصرة أصبح ضرورة ثورية في سبيل توظيف ذلك الإنتاج الضخم ومفاتيحه النظرية لتحليل إشكالية مفهوم الثورة والهوية وتداخلهما مع ما تطرحه الرؤى الثورية التي تجتاح مجتمعاتنا العربية على وجه العموم واليمني على وجه الخصوص في ظل مناخ ما يسمى الربيع العربي وتداعياته المؤثرة والعميقة , فالثورة والهوية تركا في واقعنا مصفوفة من التحديات، نشهد آثارها حولنا، تشظيًا وتفككًا للمشتركات الجامعة، وتضخمًا غير مسبوق للانتماءات والولاءات الطائفية والمذهبية والاثنية.
فالثورة في أبسط تعريف لها : “هي أسلوب من أساليب التغيير الاجتماعي تشمل الأوضاع والبنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وعملية التغيير لا تتبع الوسائل المعتمدة في النظام الدستوري القديم للدولة وتكون جذرية وشاملة, تؤدي إلى انهيار النظام القائم وصعود نظام جديد ويفترض أن يكون تقدمي قياسا بسابقه, ويترتب على نجاح الثورة سقوط الدستور وانهيار النظام الحكومي القائم ولكن لا تمس شخصية الدولة ومؤسساتها وكادرها في مختلف المجالات, ولا تؤدي إلى إنهاء العمل بالتشريعات السابقة عليها بطريقة فوضوية, وخاصة الإيجابية منها وذات الصلة بالحياة العامة, فليست كل ما في النظام القديم هو بالي ويستحق السحق والإبادة, فهذا نوع من السلوك ألتدميري للدولة برمتها وإعاقتها من العمل مجددا.”
وهي :” الإطاحة بالنظام السياسي والاقتصادي السائد الذي يقوم على الاستغلال. إنها تعني بناء نظام جديد يرفع إلى أعلى مستوى رخاء القسم الأعظم من الجماهير، والذي ينتج أقصى قدر من حقوق الإنسان والحرية، التي تستبدل أخلاق الاستبداد بأخرى تقوم على الحرية والمساواة والتضامن ” .
***
والدور الثقافي في المراحل التي تتسع فيها الهوة ويتعذر على الراقع رتق الخرق هي من أشد المهام تعذرا على التحقق وأشدها صعوبة لكن بالفكر نستطيع توحيد جميع الجماعات على اختلاف مشاربها الفكرية والمذهبية , وحتى نتمكن من إحداث متغير في الصورة النمطية التي تسيطر على أذهان الجماعات والفرق ضد بعضها البعض في إطار مشروعنا الإسلامي ,علينا أن نحدث قدرا من تفريغ الطاقات الانفعالية بما يخدم فكرة التوحيد لا الشتات , وبما يعزز من قيمة الأمة لا بما يضاعف من شتاتها ,ويعيق تقدمها ونهضتها ,ولذلك من الحكمة أن تشترك الجماعات والفرق المختلفة في إدارة الدولة وتدير حوارا توافقيا يلبي مقاصد الإسلام , وفي السياق يذيب كتل الجليد بين الجماعات والفرق ويفتح بابا من التقارب والتوحيد في الطاقات حتى تكون عصية وصامدة في تقبل مشاريع الاستهداف التي تنال من الأمة ومن وحدتها ومن هويتها الحضارية والإيمانية والثقافية .
فتفعيل دور المؤسسة الثقافية بكل مستوياتها في الاشتغال على الهوية الإيمانية والثقافية والحضارية سيقطع الطريق أمام الاستخبارات العالمية في استغلال الطاقات الانفعالية والعصبيات الدينية والنفاذ من خلالها الى تشكيل الجماعات التي تعمل على تشويه الإسلام وتعمل على تفكيك الوحدة الوطنية وتنافر النسيج الاجتماعي, وتمتين الهويات يعمل على توظيف الطاقات بما يخدم مسارات الأمة الحضارية ويكفل استقرارها وعدم تنازعها ,حتى لا تفشل كما فشلت في تاريخها المعاصر وهي قد تحد من ظواهر العنف وتعي ماذا تريد وماذا يراد منها ؟.
وثورة 21سبتمبر – وهي ثورة تسعى الى الاستقلال الكامل والحرية الكاملة – تحاول أن تحدث تقدما تاريخيا وهي تخوض حربا ضروسا للوصول الى هدفها ولا نحبذ بعد الحروب والأزمات والنضالات والجهاد في كل الجبهات والهدر للطاقات المادية والبشرية أن نصل الى ذات النتائج التي وصلت اليها ثورات القرن الماضي ,وحتى لا نصاب بالعمه التاريخي لابد من القراءة العميقة ,وسد الفراغات ولاشتغال على المستويات المتعددة للوصول الى الغايات .
ولذلك لابد لثورة 21سبنمبر أن تحل الاشكالات الفكرية والسياسية وأن تقف أمامها بمسؤولية تاريخية واخلاقية وتتمثل في قضايا معقدة ومتشابكة وذات تواشج مثل كيفية القضاء على الإرث الاستعماري , وتحديد المفاهيم التي عمل المستعمر على تعويمها مثل الحرية الوطنية والاستقلال …..الخ وعليها أن تواجه سؤال بناء الدولة الوطنية والدولة القومية , وكيف ضمان كرامة الإنسان للوصول به مرتبة المواطن الفاعل والخروج الى واقع ثقافي جديد بهوية عربية مسلمة .
ولعل اشتغالنا على صناعة وعي جديد وواقع جديد هو من تمام الوعي الثوري , فالثورة كما سلف معنا في السياق هي أسلوب من أساليب التغيير الاجتماعي وتشمل الأوضاع والبنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية .

قد يعجبك ايضا