أطفال في قبضة الحرب

تدور رحى الحرب , تتأرجح في ظلالها الأشباح , أشباح من زمن آخر كنا نسمع عنها في حكايات الجدات , اليوم تمر الحرب من خارطة الصدفة يقل على مركبها الأجناس من القوم لا نألفهم ولا نعلم من أي زمن ينتمون , يثأرون من أعدائهم ويقاتلون من أجل بقائهم , لكن من يدفع الثمن ¿
كنا ننام في حجراتنا الدافئة , لا تطالنا لفحات البرد , لم نخش منها , إلا حين اصطحبتنا معها , وفي ظلالها نقيم .
ننام ونحلم بشروق مستطيل , لكن الغروب سيطر على المكان لم نعد نرى للشمس شروقا , أفلت مختبئة خلف أعواد الدخان المتصاعدة من منازل الغرباء .
اليوم صرنا جثثا بالآلاف لا تغمض أعيننا من وقع الهزات , حتى الأطفال صاروا هم أيضا ضمن الجثث الملقاة يذبحون بدماء باردة , لا يعرفوا من عدوهم ¿ من اعتدى عليهم ¿ من سرق أمهاتهم وآبائهم منهم خلسة ¿ من أشعل ليلهم بلهيب الرعب ¿ لكنهم لن يغفروا لأعدائهم ما اقترفوه في حقهم ’ لن ينسوا أسماءهم , لن يحملوا لهم إلا الكره واللعنة , وستظل صور الموت في ذاكرتهم , تؤرقهم مدى حياتهم , تدوس على براءتهم وتخط عليها أسى لا ينسى ..!
يتساءلون : لو كنا يوما من بلد آخر ..¿ من جنس آخر ¿ من لون آخر ¿
ربما نمنا لبعض الوقت وتدفأنا بحضن أمهاتنا اللاتي تركننا وحيدين نكابد مرارة التشرد المبكر عنوة , واحتمينا بآبائنا من الخوف والجوع ونمنا في مسكن آمن .
نتساءل : لماذا نحن يطبق علينا هذا الليل الموحش دون أطفال العالم ¿ متى سنلقي بأجسادنا في أسرة الأمن والنوم العميق¿ هل سيعود أبي أمي أختيأخي جاري رفيقي ¿ منزلي مدرستي ¿ هل سأبقى مشردا لا أعرف أين عائلتي ¿ أين وطني¿
كم أتوحد بمفردي وأنا أقرأ ذاكرتي ..! أتذكر أمي حين تغطيني من برد يقتلني تطعمني من جوع رافقني ترعاني من مرض أنهكني تقبلني كل الوقت تمسح عن جبيني الدمع تغسل ملابسي وتمشط شعري .
أبي هو الآخر أتذكر أنامله وهي تحملني برفق , يوفر لي كل الألعاب , يحميني من خوف قادم , يعلمني كيف أكون سويا¿
فقدت اليوم أبسط شيء يساعدني على العيش , وتحمل ويلات ليست بحجمي ولم أحتط لها يوما ولم أحلم بها حتى أو أتخيل نفسي قد أعيش لحظاتها القاسية بمفردي وأنا لا أتجاوز الأربع سنوات وغيري من هم دون ذلك , هم أيضا فقدوا حياتهم وأمهاتهم وآباءهم ومساكنهم , صاروا يفترشون العراء دون لحاف يحميهم من شوك البرد الثائر حاملا معه غضب الحرب وأنينا لا يتوقف من أفواه الناس الصغار والكبار والأحجار والأشجار , كل ما يحيط بنا يئن يتوسل بكل لغات الدنيا أن تتوقف الأرض عن الثوران ولو بضع دقائق , فقط لننام , أو نشرب أو نأكل أو نبحث عن بقايا أشلاء لأناس لا زالوا تحت الأنقاض ينتظرون العودة ولو بأرواح مهشمة لا تقوى إلا على البقاء ساكنة شاحبة .
من يسمع أصوات هؤلاء ¿ من يشعر بضيقهم ¿ من يجتثهم من محنهم ¿ من يفرج كربهم ¿ من يؤمن لهم ساعة من الهدوء يستردو معها ما تبقى لهم من رمق ¿ من سواك يا مجيب دعوة الداعي إذا دعا , واثقين بأنك أكرم وأرحم , وإليك نشكو همنا وغمنا وقلة حيلتنا وهواننا في أمرنا , إلى من تكلنا يا الله إلى عدو يتجهمنا أم إلى قريب ملكته أمرنا , فإن لم تكن ساخطا علينا فلا نبالي غير أن عافيتك أوسع لنا. .

قد يعجبك ايضا