»الاختفاء القسري« يبحث عن حل نهائي


يعرف الاختفاء القسري بأنه احتجاز لحرية الشخص دون أي مسوغ قانوني ودون أن يعلم به أهله وبدون أي تهمة موجهة إليه.. وكثير من الدول المستبدة في العقود الأخيرة انتهجت هذا النهج تحت ذريعة الأمن القومي والاحتياطات الأمنية.
وقد تنفست الصعداء عدد من الأسر التي فقدت عائلها أو أحد أفرادها في ظروف غامضة لا يعلمونها.. منذ اندلاع ثورة الشباب لتْفتح كثير من الملفات التي تحتفظ بها هذه الأسر لتبحث عن أفرادها المفقودين ولم تألْ منظمات المجتمع المدني جهداٍ في إطلاق حملات توعوية تهدف إلى كشف مصير المخفيين قسرا ومعاقبة مرتكبي هذه الجريمة التي اعتبرها المجتمع الدولي جريمة في حق الإنسان ولا بد من الخلاص منها وعدم تكرارها في المستقبل.
“الثورة” أجرت تحقيقا حول المخفيين قسرا كمفهوم عام ووضعهم القانوني في التشريعات الدولية والوطنية وأين دور الجهات المختصة ممثلة بوزارة حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني..¿ فكانت الحصيلة التالية:

يقول الباحث في القانون الدولي وحقوق الإنسان الدكتور حميد محمد اللهبي: لقد انتشرت ظاهرة الاختفاء القسري في كثير من دول العالم تحت مبررات عديدة كحماية الأمن القومي أو بالاستناد إلى حالات الطوارئ أو الصراعات السياسية أو تحت مبرر ما بات يعرف اليوم بالحرب على الإرهاب.. وقد مارست وتمارس السلطات القمعية في تلك الدول أبشع صور الانتهاك لحقوق الإنسان ونفذت وتنفذ حملات الاعتقالات التعسفية العشوائية التي يصاحبها القتل والتعذيب لآلاف المعتقلين وإخفاء مصير آلاف منهم سنوات طوالاٍ.. بل وما زال مصير آلاف آخرين منهم مجهولاٍ حتى اليوم.
تعريف
وأضاف في دراسة له بعنوان “الحماية القانونية لجميع الأشخاص من الإخفاء القسري في القانون الدولي والقانون الوطني”: لم يعرف القانون الدولي ولا الوطني مفهوم الإخفاء القسري إلا في سبعينيات القرن العشرين في ضوء تعاظم هذه الظاهرة في كثير من دول العالم أما قبل ذلك فقد كان يشار إلى المختفين قسرا على أنهم مفقودون.. ونتيجة لعمليات الإخفاء القسري التي كانت تجري في تلك البلدان بصورة مستمرة وملفتة وما يرافقها من انتهاكات بشعة تمس القيم والكرامة الإنسانية للفرد وتعود بنتائجها السلبية السيئة على الضحايا وعلى أسرهم وذويهم بشكل خاص وعلى المجتمع بشكل عام فقد التفتت منظمة الأمم المتحدة بعناية إلى عمليات الإخفاء القسري وأولتها اهتماما خاصا منذ أن ناقشتها لأول مرة عام 1975م ما دفع الجمعية العامة لإصدار أول قرار لها عام 1978م بشأن الإخفاء القسري ذلك القرار الذي مهد لإنشاء مجموعة عمل خاصة بالإخفاء القسري عام 1980م ولا زالت تمارس عملها حتى اليوم وتابع اللهبي بالقول: ومع تزايد عمليات الإخفاء القسري تزايد اهتمام منظمة الأمم المتحدة بهذه المسألة ما جعلها تصدر عام 1992م ما يعرف بـ”إعلان حماية جميع الأشخاص من الإخفاء القسري” وهذا الإعلان قد ساهم كثيرا في بلورة مفاهيم وقواعد الإخفاء القسري ومهد لإقرار “الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الإخفاء القسري” الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة عام 2006م وبهذه الاتفاقية تبلورت المفاهيم واكتمل الإطار القانوني الدولي حول الإخفاء القسري وأصبح الإخفاء القسري جريمة دولية يعاقب عليها وصار لزاماٍ على الدول الأطراف العمل على تعديل قوانينها الجنائية بما يتوافق وأحكام هذه الاتفاقية.
وأكد الدكتور اللهبي أن جريمة الإخفاء القسري قد تحول من جريمة جنائية في إطار القانون الوطني إلى جريمة ضد الإنسانية إذا ما تم ارتكابها بشكل عام ومنظم ومنهجي ومن ثم يْعاقب عليها وفقا لمنظومة القانون الجنائي الدولي.. وقال: إن الكثير من القوانين الوطنية ومنها القانون اليمني لم تنص صراحة على جريمة الإخفاء القسري بل جرمت كافة الأفعال التي تمس حياة وكرامة الإنسان وحرياته وأمنه وسلامته وبالتالي يمكن تكييف جريمة الإخفاء القسري على أنها واحدة من تلك الجرائم. كما أن منظومة القوانين اليمنية ذات العلاقة بحقوق الإنسان منها ما هو بحاجة إلى تعديلات وإضافات لتتوافق أحكامها مع منظومة القانون الدولي ذات العلاقة بحقوق الإنسان ومنها ما هو بحاجة إلى مواءمة أحكامه مع تلك المنظومة وأعاد اللهبي أغلب حالات الإخفاء القسري في اليمن إلى الاعتقالات التعسفية رغم أن الدستور والقانون يمنعان ويجرمان ذلك ورغم نصوصهما الواضحة في تحريم وتجريم القبض التعسفي وعدم جواز تقييد حرية أي شخص إلا بحكم من محكمة مختصة.
وأشار الباحث اللهبي إلى أن اليمن بحاجة إلى وضع معالجات حقيقية وملموسة لقضايا الإخفاء القسري التي حدثت فيها خلال السنوات الماضية وعدم السماح لمرتكبي هذه الجريمة بالإفلات من العقاب خاصة مع توجه الحكومة الجاد في هذا الموضوع.. ونوه بأن على اليمن لتعزيز حقوق الإنسان المصادقة والانضمام إلى باقي الصكوك الدولية ذات العلاقة بحقوق الإنسان عموما التي لم تصادق عليها وفي مقدمتها الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الإخفاء القسري وأن تعمل على إصدار قانون خاص بالإخفاء القسري وحماية حقوق ضحاياه وإنشاء وحدات لمكافحة الإخفاء القسري وجرائم حقوق الإنسان داخل الأجهزة الأمنية والشرطية.

منظمات المجتمع
فيما يقول رئيس منظمة نشطاء للتنمية وحقوق الإنسان المحامي غازي السامعي أن الإخفاء القسري أشد الانتهاكات قسوة وأكثرها انتهاكا للحقوق الإنسانية وواحدة من أخطر الوسائل التي تلجأ إليها الدول البوليسية والأنظمة المستبدة لإسكات معارضيها وإلحاق الأذى بهم وبأسرهم وبالمجتمع فالمخفيون ليس هم وحدهم الضحايا بل هم حلقة أولى في سلسلة طويلة من الذين يتجرعون عذاب ومرارة هذه الجريمة لتشمل الأسر والأطفال والنساء وتجعلهم في دائرة القهر ومرارة الظلم.
وقال المحامي السامعي في ورقة بحثية له بعنوان “دور منظمات المجتمع المدني تجاه ظاهرة الإخفاء القسري”: على الرغم من قدم وجسامة هذه الجريمة البشعة وارتباطها بممارسات قمعية لأنظمة الحكم الفردي والشمولي على مدى قرون وعقود من الحكم في مختلف دول العالم إلا أنها لم تأخذ حقها في الطرح بسبب منع وحرمة الحديث والتطرق إليها خصوصا مع تضييق الخناق على حرية الرأي والتعبير بكافة الوسائل والعمل على ترهيب الناس والضحايا من الحديث عن هكذا قضية لذا ظل هذا الملف حبيس الأدراج ومحظور التداول.
وأشار السامعي إلى أن المجتمع المدني في اليمن شهد خلال الفترة الماضية تطورا ملحوظا وأضحى محط تقدير الكثير من فئات المجتمع بعد أن كان ينظر إليه بكثير من الشك والريبة نتيجة للتعبئة الخاطئة عليه من قبل السلطة.. وقد نشطت المنظمات المدنية في كثير من القضايا والأمور التي تلامس أوجاع الناس وهمومهم وتلبي تطلعاتهم ولذا يجد المتابع اليوم لعمل المنظمات المدنية في اليمن أنها استطاعت أن تخلق جواٍ من الثقة بينها وبين المجتمع بمختلف تكويناته وبينها وبين الحكومة لتؤكد على مبدأ الشراكة والتكامل من أجل تحقيق التنمية للمجتمع فلا يمكن الحديث عن مجتمع بدون أضلاعه الثلاثة الرئيسية الحكومة والمجتمع المدني والقطاع الخاص.. ومضى السامعي يقول: وتحتل القضايا الحقوقية والإنسانية الصدارة في عمل المنظمات المدنية أو هكذا ينبغي ويظل نشاط وعمل المنظمات في تبني هذه القضايا واحدا من أهم ركائز تحقيق نتائج إيجابية في كثير من القضايا التي شهدتها الساحة اليمنية.. ويواصل حديثة بالقول: وينبغي أن يكون للمنظمات المدنية في قضية كالإخفاء القسري دورا محوريا لأن هذه المنظمات تعد بمثابة الحامل الاجتماعي والقانوني لهذه القضية الهامة خاصة وأن البلد شهد خلال فترات زمنية متعددة حالات اختفاء للعديد من الناشطين وللعديد من الرموز الوطنية والسياسية كما أن هذه الجريمة لا زالت تمارس حتى الآن ولنا في حالات الإخفاء للعديد من الشباب الذين شاركوا في ثورة الحادي عشر من فبراير 2011م خير مثال كما أن يد العبث والقمع والترويع امتدت لصحفيين وقادة رأي.
وأكد السامعي أنه من الصعب في جريمة الإخفاء القسري كشف هوية الخاطفين أو مكان الضحية أو مصيره.. ولا يعني ذلك إطلاقا تآكل الذاكرة فالبحث عن الحقيقة وعن الرموز الوطنية والسياسية التي غيبت قسراٍ سيظل قضية تحمل همها عائلات المخفيين وأسرهم والنشطاء والمهتمون ومنظمات المجتمع المدني.

انتهاكات جسيمة
المستشار القانوني بوزارة حقوق الإنسان حميد يحيى الرفيق يعتبر الإخفاء القسري انتهاكا من الانتهاكات الجسيمة كون الأضرار المترتبة عليه تتعدى الضحايا المباشرين لتطال عائلاتهم وأصدقاءهم بل والمجتمع برمته كون الهدف من وراء ممارسته هو بث الرعب والخوف لدى هؤلاء جميعا باعتباره يمس الحق في الحياة.
ولفت الرفيق إلى ما تشهده اليمن من الصراعات المتكررة والمتتابعة وكان آخرها الثورة الشبابية التي اندلعت في عام 2011م والتي ظهرت فيها انتهاكات لحقوق الإنسان وكرامته وتمثل جريمة الإخفاء القسري والاعتقالات التعسفية أحد هذه الانتهاكات مما لفت نظر المجتمع الدولي إلى تلك الانتهاكات وجعلت اليمن تتخذ كافة الإجراءات والتدابير اللازمة لمحاربتها والسعي إلى الكشف عن مصير العديد من المعتقلين خارج نطاق القانون والمخفيين قسرا على خلفية أحداث 2011م كما أن الفريق المختص بالأمم المتحدة في العام 98م كان يتابع بلادنا حول حالات اختفاء أشخاص وقدم العديد من الاستفسارات حولهم حيث قامت الحكومة باتخاذ إجراءاتها المناسبة بموافاة الفريق المعني بكافة المعلومات والبيانات الخاصة بالأشخاص المفقودين خلال الفترة السابقة.
وحول دور الحكومة أوضح مستشار وزارة حقوق الإنسان بالقول: لقد عملت وزارة حقوق الإنسان على تنفيذ توصيات المجتمع الدولي من خلال إصدار قرار مجلس الوزراء رقم 238 لعام 2011م بشأن اطلاع مجلس الوزراء على قرار مجلس حقوق الإنسان وعلى المصفوفة التنفيذية للتوصيات الواردة في تقرير بعثة المفوضية السامية لحقوق الإنسان والمقدمة من اللجنة الوزارية.. بالإضافة إلى أمر مجلس الوزراء رقم (4) لسنة 2012م بشأن تحديد أعضاء اللجنة الخاصة بالتحقيق في ادعاءات انتهاكات حقوق الإنسان بتاريخ 3 يناير 2012م وغيرها من القرارات آخرها أمر مجلس الوزراء رقم (70) لعام 2013م بشأن حصر المعتقلين والمحتجزين قسرا والذي أكد على تشكيل لجنة وزارية برئاسة وزيرة حقوق الإنسان وعضوية كل من وزير الداخلية ووزير العدل ومدير مكتب رئاسة الجمهورية والنائب العام ووكيل جهاز الأمن القومي ووكيل جهاز الأمن السياسي وأشار إلى أن اللجنة تتولى العمل في ضوء قرارات وأوامر مجلس الوزراء السابقة والعمل على حصر الحالات التي لا زالت رهن الاعتقال على خلفية قضايا سياسية أو محتجزين قسرا خارج نطاق القانون وطلب المعلومات التفصيلية عنهم من الأطراف المعنية في الحراك الجنوبي السلمي أو قضية صعدة أو الثورة الشبابية السلمية أو معتقلين خارج إطار القانون ومحاسبة المسئولين عن ذلك وسرعة تقديم من تتوفر ضدهم أدلة على أعمال جنائية أو إرهابية لمحاكمات عادلة.

تؤرق المجتمع
مدير عام البلاغات والشكاوى في وزارة حقوق الإنسان معتصم الفاتش يقول بدوره: إن الأسر إلى جحيم لأنها تهدد السلم الاجتماعي.. وأكد أن جريمة الإخفاء القسري تعد من أشد الجرائم قسوة وتمثل انتهاكا مْركبا لحقوق الإنسان وأحد أبشع أساليب الظلم والقهر الذي لا يقف أثره عند حد المخفي فحسب بل يتجاوزه إلى أفراد عائلته ومجتمعه ويؤسس لعلاقة غير سوية بين الحاكم والمحكوم.
وأضاف الفاتش: الاتفاقية الدولية لحماية الأشخاص من الإخفاء القسري قد عرفته بأنه الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفي الدولة أو موافقتها.. وبالتالي فليس هناك أدنى شك أن الدولة تتحمل المسئولية الكاملة عن تلك الجريمة حتى تمنع حدوثها وتكرارها وتقدم مرتكبيها للعدالة وتعالج آثارها لذلك سعت بلادنا للانضمام إلى الاتفاقية الدولية في هذا الشأن ولفت إلى أنه في هذا الصدد شكل مجلس الوزراء لجنة وطنية برئاسة وزيرة حقوق الإنسان وعضوية كل من الأمانة العامة لمجلس الوزراء ووزارات الداخلية والدفاع والشئون القانونية والعدل وجهازي الأمن السياسي والقومي وممثلين عن مجلس معتقلي الثورة ورابطة أسر المخفيين قسرا وتم إقرار مشروع قانون من قبل المجلس ورفع إلى مجلس النواب لإقراره.
ويوجز الفاتش حديثة بالقول: لقد عانت بلادنا وعلى امتداد العقود الماضية من آثار هذه الجريمة البشعة التي أحدثت جراحاٍ عميقة في نفوس اليمنيين أدت في النهاية مع أسباب أخرى إلى خروج الشباب في ثورتهم السلمية وكان من بين أهداف ثورتهم الكشف عن مصير كل المخفيين باعتبار هذه الجريمة من الجرائم التي لا تسقط بالتقادم.. وأشار إلى أن وزارة حقوق الإنسان تولي هذه القضية اهتماما خاصا ولا تألو جهدا في سبيل الكشف عن مصير أولئك المخفيين وسيظل هذا الملف مفتوحا حتى يتم الكشف عن مصير كل مخفي وينال المتسببون جزاءهم كما تعمل الوزارة على سن القوانين الوطنية التي تتواءم مع الاتفاقية الدولية وتعويض الضحايا أو ذويهم وضمان عدم تكرار تلك الجرائم.

قد يعجبك ايضا