أبناء بني مطر يحيون سُنّة الاستسقاء على نهج الآباء في الابتهال إلى الله لإنزال الغيث

شعائر الاستسقاء تعيد إلى النفوس الكثير من المعاني والدلالات الإيمانية

البعض حاول طمس الكثير من معالم الهوية الإيمانية وطقوسها الروحانية

للاستسقاء مكانة خاصة في حياة المواطن اليمني قديما وحديثا، فلم تتأطر حكايات الابتهال لتنحصر في نمط مكرر وباهت، بل توالدت وتعددت لتصاغ بروحية إيمانية عالية أهازيج وزوامل شعبية تعكس روحية الهوية الإيمانية، فلا يغدو معها الاستسقاء عنوانا معبِّرا عن لهفة الكبار والصغار فحسب، وإنما شعار له دلالاته في المفهوم والعرف الزراعي والاجتماعي.. دلالات تعبيرية عن شوق القلوب إلى ما يُحدثه الغيث من إحياء في النفوس وإرواء للأرض والشجر.
وقد أفرد التراث اليمني مساحة مهمة لأهازيج وابتهالات استسقاء دأب اليمنيون رجالا وشبابا وأطفالا وشيوخا على الابتهال بها على امتداد الطرقات والضواحي، حيث يتردد صدى كلمات عذبة في مزيج رائع من لحن شجي يتكامل في أطر وقوالب الطقوس المخصصة لسُنّة أو عرف ديني يقص حكايات اللهفة والشوق والانتظار والحاجة إلى نزول الماء، وخاصة عند انحباس غيث السماء أو تأخره عن موسمه، لتبدو هذه حالة فريدة من نوعها في التراث اليمني.
الثورة / يحيى الربيعي

وفي هذا السياق أحيت عزلة مخلاف جنب- مديرية بني مطر محافظة صنعاء، الجمعة الماضي سُنّة الاستسقاء على نهج الآباء والأجداد، والمندثرة بفعل ما جلبته الثقافات المغلوطة والعقائد الباطلة التي أورثت المجتمع تنصلا عن العديد من قيم وعادات وسنن الهوية الإيمانية.
“الثورة” ومن قلب الحدث استطلعت آراء عدد من القيادات والشخصيات الاجتماعية، حيث أشاد المدير التنفيذي لمؤسسة بنيان التمموية المهندس محمد حسن المداني بالمبادرة فقال: نحن معجبون بمديرية بني مطر.. معجبون بالمجاهدين والشهداء العظماء الذين تقدمهم هذه المديرية.. بني مطر من أولى المديريات المبادرة إلى رفد الجبهات، وهي اليوم أول المبادرين إلى إحياء سُنّة لطالما اندثرت.. مبادرون إلى إحياء الثقافة الدينية على نهج الهوية الإيمانية، إعادة سُنّة الاستسقاء إلى حالتها الطبيعية بعد أن دفنتها التيارات الداعمة للإرهاب، وأنهت نكهتها الروحانية وأنهت معها روح التكافل والنظر إلى حال المساكين والفقراء والكثير من الطقوس التي كانت مرتبطة بهذه السُنّة.
وتفاءل المداني: بإذن الله، يتحرك الناس في كل المحافظات وكل المديريات وكل القرى اقتداء بمديرية بني مطر إلى إعادة تفعيل هذه السُنّة وغيرها من السنن القرآنية.
واستغرب: من الذي أخفاها؟ أليست نفس الثقافات الدخيلة التي تعمل حاليا جاهدة على عزل المسجد الحرام عن طقوس وشعائر العمرة والحج؟ وأليس الآن هو موسم العمرة الرمضانية؟ متسائلا: اليهود يحتفلون اليوم بمناسباتهم بذلك الشكل المهول من التجمعات التي نحرم منها نحن المسلمين في بيت الله الحرام مكة، لماذا؟ ساخرا “جايقللي: كورونا؟ طيب، ذريعة كورونا هذه، هل منعت اليهود من الاحتفال بمناسباتهم، لا أبدا! إنها تمنعنا نحن المسلمين من العمرة، لماذا؟ لأننا شعوب مصابة بداء المضللين المتنكرين لمبادئ ديننا الحنيف “وإذا مرضت فهو يشفين”؛ المنفرين عن عزائم التوكل على الله والاعتماد عليه.
وأعلن، من هنا، من هذه المديرية أننا نطلق صرخة مدوية في وجه هذه الدعايات والإفك المبين، من هنا، تنطلق القوافل الجماعية إلى إحياء سُنّة الاستسقاء في أنحاء اليمن السعيد، وهي رسالة شافية كافية لإبطال مفعول تلك الأوهام التي يأتي من ورائها اليهود لتضليل الأمة.

همم قوية
مدير عام مكتب الزراعة في محافظة صنعاء المهندس علي القيري بدوره أكد أن إحياء الموروث الشعبي المنطلق من واقع الهوية الإيمانية بنوايا صادقة وعزائم وهمم قوية هو الطريق الصحيح لقيام نهضة زراعية، مشيرا إلى أن إحياء سنة الاستسقاء يأتي من منطلق هويتنا الإيمانية في العمل بقوله سبحانه وتعالى ” فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا “، مشيدا بجهود أبناء مديرية بني مطر في المبادرة إلى إحياء هذه السُنّة، داعيا بقية المديريات في المحافظة واليمن عموما إلى الاقتداء وإحياء هذه السُنّة المباركة.

ماء معين
أما مدير مديرية بني مطر عبدالقادر المحضار، فقد أوضح أن هذه المبادرة تضاف إلى رصيد مديرية بني مطر الحافل بالمواقف الوطنية المعطاءة، مشيرا إلى أن الفضل في الأسبقية إلى إحياء هذه السُنّة الإيمانية يعود إلى جهود أبناء قرى عزلة مخلاف جنب الذين بادروا من ذات أنفسهم إلى تبني وتنظيم هذه المبادرة التي أطلقوا عليها ” فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ” لإحياء هذا الموروث الايماني الذي من شأنه إحياء النفوس بالتتوب والاستغفار ومواساة الفقراء والمساكين.

نهج الهوية الإيمانية
وفي السياق اعتبر الأكاديمي علي الجرحزي إحياء سُنَّة الاستسقاء رسالة عظيمة جدا، رسالة تقرب إلى الله في هذه الأيام المباركة، مؤكدا أن الاستسقاء شعيرة إيمانية لها دلالتها في القرآن ” وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ “، مستفهما: إذا تساءل أحدنا متى كانت آخر مبادرة استسقاء في ريف بني مطر على نهج الهوية الإيمانية؟ لأجاب البعض، منذ زمن غير قريب، لماذا؟ لأن هناك من حاول طمس الكثير من معالم الهوية الإيمانية وطقوسها الروحانية.
وأشار الجرحزي إلى أن مثل هذه العادات والأعراف الدينية هي مما يأمر به الدين، منوها بأن بعض المجتمعات قد نسيتها وأصبحت عبارة عن ركعتين عقب صلاة الجمعة، مثلها مثل الجهاد، لأن التقرب إلى الله، -من وجهة بعض التيارات من حملة الثقافات المغلوطة والعقائد الباطلة -حاصرت الشعائر الدينية داخل المساجد، وأدخلت في ديننا رهبنة ما هي منه، ولم يأمر بها، لافتا : بل على العكس ديننا بأمر بالمسارعة ” وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ”، مؤكدا أن ما تفعله بني مطر، هو تقرب إلى الله من أجل أن يرحمنا بالماء كي نسقي به مزروعاتنا، كما رحمنا بالنصر في ساحات العزة والكرامة.
وقال “نتضرع إلى الله سبحانه وتعالى بإحياء هذه الشعيرة من أجل أن تنهض جبهتنا الزراعية وتنتصر كما انتصرت الجبهة العسكرية بفضل الله ومدده.. نتقرب إلى الله بقلوب صافية وبنوايا حسنة لعل هذه القربات تكون فيها تزكية للنفوس ويلم الله بها شمل الأمة، ويتجه الناس إلى الزراعة والرعي.. إن الله كريم ما أكرم منه أحداً ” وإذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ” وهذه السنة وما يليها من تشمير للسواعد وحراثة الأرض هي الاستجابة الحقة التي لا بد أن الله قريب منها بكرمه وعطائه ومنّه.. اليوم، ونحن نغرس شجرة اللوز هنا في الموقع المبارك روضة العظماء الشهداء صنّاع العزة والكرامة، نقول: إنا على درب هؤلاء سائرون، وبنور شهادتهم مستبصرون”.

ابتهالات واهازيج
الرائد التنموي ماجد الجمالي بدوره أضاف “اليوم قامت “بني مطر” بمبادرة الاستقساء على نهج القرآن القائل ” فقلتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّار يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا”، وبالتزامن مع مبادرات زراعية كثيرة ومنها ما قمنا به اليوم من زراعة روضة الشهداء في البطحة بأشجار اللوز ضمن مبادرة زراعة 100 مليون شتلة في عموم محافظات اليمن، وهذه المبادرة لإحياء الاستسقاء هي على نهج الآباء والأجداد ونسأل الله أن يمن علينا بالغيث وإرواء الأرض، وغيث إحياء نفوسنا على ما مضى عليه آباؤنا وأجدادنا من النهج القرآني.. آباؤنا كانوا يقولون لنا: كنا نخرج كلنا رجالا وشبابا وشيوخا وأطفالا يتقدمنا هدي من النذر لله يُذبَح ويُوزَّع لحمه على بيوت الفقراء والمساكين، وكنا نهلل ونكبِّر ونستسقي بأدعية وابتهالات وأهازيج، منها على سبيل المثال لا الحصر:
يا تواب تب علينا
وارحمنا وانظر إلينا
***
يا إله العباد
العبد واقف على الباب
منتظر للجواب يا من إليه الشكية
يا من الجود جودك، يا محنحن رعودك
جد علينا بفضلك
واسقينا الغيث يا الله
***
يا إلهي بـ(طه) وبـ(زمزم) وماها
واللي قد حماها، اسقنا الغيث يا الله
***
يا إلهي بـ(يس) فك عسر المساكين
فك عسرك بيسر، واسقنا الغيث يا الله
***
يا إلهي سألناك بالنبي خير خلقك
تب علينا بفضلك، واسقنا الغيث يا الله
***
يا حنَّان يا منَّان
جد علينا بالأمطار
***
جل جلالك يا مولانا
واحنا عبيدك لا تنسانا
وقال الجمالي فيما ينقله عن الآباء: إن المطر كان ينزل على الفور، وإذا تأخر فإلى أن يرجع الناس من شعائر الاستسقاء.. وكانوا يخرجون بقلوب راضية وبنوايا خالصة، أناس مؤمنون، وأحيانا ما كنا نستطيع أن نرجع إلى البيوت من غزارة الأمطار التي تنزل علينا ونحن في مسيرة الاستسقاء نسير في الشعاب والضواحي والطرقات بعد أداء ركعتي الاستسقاء في ساحة مكشوفة”.

بفعل فاعل
على الصعيد ذاته أكد المشرف الاجتماعي للمديرية أبو أحمد الفقيه أن العودة إلى إحياء الكثير من العادات والتقاليد الدينية التي تعرضت للطمر بفعل فاعل ستعيد إلى النفوس الكثير من المعاني والدلالات الإيمانية، مؤكدا أن الخروج الجماعي للدعاء والابتهال إلى الله سبحانه وتعالى لا شك يورث الألفة بين الناس ويزيل الغربة وتتوالد به روح التكافل والتعاون على فعل الخير والنظر إلى حال الفقراء والمساكين وإعاناتهم على مشقة الفقر وعنائه والتوجه بالدعاء إلى الله سبحانه وتعالى كي ينزل الغيث فتعم البركات الثمار والمرعى والأنفس.

تحفيز النفوس
فيما لفت نصر خالد الموجاني – أحد فرسان التنمية – إلى أن عودة السنن الإيمانية في التكافل والتعاون المجتمعي من شأنها أيضا تحفيز النفوس على التغيير، وشحذ الهمم إلى المبادرات المجتمعية والمشاركة في صناعة التنمية، وخلق المجتمع المنتج القادر على التغلب على صعوبات الطبيعة وتحديات الصراع من أجل البقاء الذي تفرضه الكثير من القوى الانتهازية الكبرى التي تقف حاليا وراء العدوان الغاشم والحصار الجائر الذي تتعرض له بلادنا، تلك التحديات تفرض علينا كأمة لنا هويتنا، أن تتضافر الجهود، منوها بأن هذا لن يتم إلا من خلال إحياء هذه السنن والعادات والتقاليد الدينية.

اتكالية وركون
بدوره أوضح فؤاد عبده العثربي – أحد فرسان مبادرة البأس الشديد – أن هذه النواة تمثل الباعث إلى البحث والتنقيب عما اندثر من طيبات ما كان الآباء والأجداد يمارسونه انطلاقا من أصالة هويتهم الإيمانية الخالية من التحريفات والضلالات التي عمدت بعض التيارات المحسوبة على الدين تشويهها واستبدالها بعادات وتقاليد الاتكالية والركون إلى الأفكار الهدامة.

منع الزكاة
وختاماً تحدث المواطن الوالد حمود أحمد ناجي (80) سنة، والذي أكد أن الاستسقاء هو عودة إلى الله وتقرب إليه من أجل أن ينزل الغيث، منوها بأن إمساك القطر عن العباد معروف على أيامنا أنه كان نتيجة امتناع الناس عن أداء فريضة الزكاة أو التلاعب فيما يجب على الواحد دفعه من زكاة الزروع والماشية والمكنوزات من الذهب والفضة، وكان الناس يستشعرون هذه العقوبة فيعودون إلى رشدهم، ويخرجون بنذور تساق أمامهم من مواش تذبح وأموال نقدية وعينية توزع على الفقراء والمساكين، كان الناس يخرجون للاستسقاء فتكون الصلاة في عرصة “مساحة” كبيرة، ومن بعدها ينطلق الناس يتقدمهم الأطفال والنذور ويبدأون الطواف في الشعاب والطرقات وهم يرددون الأهازيج والابتهالات والأدعية ، يخرجون بقلوب تائبة مستغفرة، تطلب من الله الغفران والغيث، ولعظم الذنب تراهم نادمين مصلحين للخطأ، وكان الله يستجيب لهم على الفور، حتى أنهم في بعض الأحيان لا يتمكنون من إكمال مراسم الاستسقاء لشدة ما كان ينزل عليهم من أمطار، وقد تستمر الأمطار لعدة أيام، مشيرا إلى أن الناس في الفترة الأخيرة ركنوا إلى المستورد، وتركوا أراضيهم للصلب والتصحر، والله أوكلهم إلى ما ركنوا إليه ورفع بركته، مؤكدا أن العزة هي في العودة إلى زراعة الأرض وإلى التوكل على الله، وطلب البركة منه سبحانه وتعالى، وترك التوكل على المستورد، وكسر الحصار وقهر العدوان بالتوكل على الله في زراعة الأرض وإصلاح النفوس وذات البين بالتكافل والنظر إلى المساكين والفقراء بأداء ما فرضه الله عليهم من الزكاة، والله لا يضيع أجر المحسنين.

قد يعجبك ايضا