رحلة عمر.. مع الروائي عبدالله الإرياني

حمود شجاع الدين

ما أجمل أن يكون لك صديق ويتعدى عمر هذه الصداقة أكثر من خمسين عاماً وكل ما مر عام من عمر هذه الصداقة ازدادت عمقاً ومودة، يعود تاريخ صداقتي بمن أتحدث عنه إلى منتصف ستينيات القرن الماضي، عندما تزاملنا في السنة الرابعة ابتدائي بمدرسة ناصر الابتدائية بتعز، وكانت بداية المعرفة عندما كان يخرج من الفصل في الراحة .
وأنا أبيع حلاوة صباح كانت متوفرة آنذاك إضافة إلى نوع آخر من الحلويات تسمى الفوفل، وتعمل من مادة السكر والنشأ، وكنت ابتاع هذه الأشياء لحاجتي الماسة للمصروف اليومي، لأني كنت أعيش في القسم الداخلي الذي كان يوفِّر لنا فيه على الأكل والشرب والسكن فقط.
وهذه أساسيات الحياة في ذلك الوقت ، ومن خلال التعامل اليومي معه اكتشفت نقاء سريرته وحسن أخلاقه وابتسامته الجميلة ، ومن هنا بدأت صداقتنا كان إنساناً بكل ما تعنيه الكلمة، كريماً متواضعا،ً هو ابن رئيس محكمة وأنا البائس الفقير، ومع هذا لم يكن هذا المقياس بذات أهمية لديه .
فبعد أن تعمقت علاقتنا كان يخرج وقت الراحة يبحث عني في طول الساحة وعرضها حتى يجدني لنتقاسم مصروفة اليومي في شراء بعض المأكولات والمشروبات التي كانت متوفرة حينها قضينا مراحلنا الدراسية رابع وخامس وسادس ابتدائي، واصبحنا جسدين بروح واحدة حينها أدركت أن صديق الطفولة وطن صغير، وأخ لم تلده أمك ونعمة عظيمة لن يشعر بها إلا من يقِّدرها وأن ذكريات الطفولة لها خصوصيتها فهي الشجرة التي يحتمي بظلها المسافرون في طريق الحياة .
وبالرغم من أن الإنسان يمر بالعديد من المراحل الحياتية التي تضيف إليه عدداً من الخبرات المهمة واللحظات الجميلة التي لا تعوض إلا أن أكثر المراحل الحياتية التي تترك أثراً عميقاً وجميلاً لا تمحوه الأيام هي مرحلة الطفولة الرائعة، فمرحلة الطفولة التي تنبض براءةً وحباً وحناناً وجمالاً وراحةً نفسية .
ومن هنا فإن لهذه المرحلة خصوصية في ذاكرة كل إنسان .
بعد هذا انتقلنا إلى المرحلة الإعدادية بمدرسة الكويت التي كانت تحتوي على مرحلة أولى إعدادي وهذه المدرسة كانت قريبة إلى سكن أخي وصديقي العزيز وتبعد عن المكان الذي أسكنه بعدة كيلو مترات .
وكنا نقطع هذه المسافة _مع زملاء آخرين_ سيراً على الأقدام نظراً لعدم توفر المواصلات حينها، وحتى لو توفرت فإننا لا نملك أجور مواصلات، وظلت علاقتنا بنفس الود والإخاء، ولكن بوعي أكبر لأن علاقتنا كانت تكبر معنا وقضينا سنتنا الدراسية التي كانت ستتعثر بسبب انسحاب البعثة المصرية إلا أن وزارة التربية عالجت تلك المشكلة بإيقاف التعليم لطلاب الثاني ثانوي المنتقلين إلى ثالث ثانوي لتغطية المراحل التعليمية الأخرى، حتى لا تتوقف المسيرة التعليمية، وقد كانوا خير خلف لخير سلف وغطوا جميع المواد بمقدرة عالية وهم من أصبحوا بعد ذلك من أهم بناة الدولة وأذكر منهم على سبيل المثال أ . د / محمد محمد مطهر ، أ . د / محمود داوود . والدكتور / محمد أبوبكر المفلحي، وعبدالحافظ هايل، والكثير والكثير ممن لم تسعفني الذاكرة لذكر أسمائهم .
وأكملنا دراستنا لهذه المرحلة وانتقلنا إلى مدرسة الشعب الإعدادية ( المدرسة الروسية ) لدراسة الصف الثاني والثالث إعدادي، وفي هاتين المرحلتين توفر الكادر التعليمي من جمهوريتي العراق وسوريا، وكنت أنا وأخي وصديق العمر في شعبة واحدة بثاني إعدادي لكنه استطاع بذكائه أن يجتاز مرحلتين في سنة واحدة ، حيث كان النظام يسمح باجتياز مرحلتين في سنة ونجح في الامتحانين وانتقل إلى المرحلة الثانوية، وبالتحديد إلى مدرسة الثورة الثانوية، وهي المدرسة الوحيدة للمرحلة الثانوية في ذلك التاريخ، وأنا بقيت في مدرسة الشعب حتى أكملت ثالث إعدادي، ومع هذا لم تنقطع علاقتنا بل زادت عمقاً وحميمية وازداد تواصلنا ببعضنا، وكان يقوم بمساعدتي في استذكار بعض الدروس مثل الرياضيات والفيزياء ، وكان يقوم بتزويدي ببعض ملخصات المواد الدراسية التي كانت تأتيه من مصر، لأننا كنا ندرس نفس منهج جمهورية مصر العربية، وكذلك كان يزودني ببعض المجلات العلمية والأدبية ، ولهذا كنت أقوم بزيارته في منزلهم الكائن بالجانب الغربي من الجحملية لغرض المذاكرة ومراجعة الدروس وكان يقدم لنا الطعام والشراب بكرم لم أعهده في أي أحد .
وبعد أن أكمل الثانوية العامة سافر إلى مصر لدراسة الهندسة المدنية حزنت كثيراً لفراقه، لكن فرحتي بحصوله على المنحة في هذا المجال الذي كان يتمناه كل طالب غطت على أحزاني، داعياً الله أن يمد بعمرينا لكي ننعم بهذه الصداقة الفريدة طول العمر ، وقد أصبحنا أكثر نضجاً وفهماً لمعنى الصداقة .
وبعد هذا السرد التاريخي لهذه الصداقة لا بد من التنويه إلى أن أخي وصديقي العزيز إلى قلبي من أبناء منطقتي ولم نتعارف بالبلاد لأنه كان من قرية أخرى قريبة جداً، وكان هناك انعدام للتواصل، لذلك كانت الصداقة مبنية على أساس مقياس الأخلاق وحسن التعامل والتوافق بالطباع، ولم يكن للمناطقية في ذهنينا أي حيِّز لأن الأجواء السائدة آنذاك كانت بعيدة كل البعد عن مثل هذه العلاقة التي غالباً ما تتحول إلى مرض اجتماعي، حيث كنا جميعاً وبدون استثناء زملاء لا فرق بين أبناء منطقة وأخرى، وكان انتماؤنا جميعاً لبلد واحد هو اليمن، لذلك نجد الفرق الكبير والشاسع بين زملاء الماضي وزملاء الحاضر .
إن الظروف الموضوعية في تلك الفترة هي العامل الأساسي في تنامي الوعي لدى الشباب للتخلص من رواسب الماضي، وخاصة في مدينة تعز التي كانت بحق منارة للعلم والثقافة والحراك السياسي ، وكان لذلك تأثير عميق في حياة الشباب بكافة النواحي العلمية والثقافية والأدبية والأخلاقية ، حيث كان المناخ متاح لهذه الأنشطة التي أثرت فيما بعد الساحة اليمنية بالقيادات السياسية والإدارية، فالنشاط الحزبي أخذ جزءً كبيراً في هذه المدينة لكافة الفصائل السياسية والتي كانت في أغلبها ذات توجه قومي ( البعث ـ حركة القوميين العرب ـ الحزب الناصري ) وأيضا الشبيبة فصيل يمثل اليسار .
وكانت تتركز لقاءات هذه الأحزاب لمناقشة القضايا الوطنية في أماكن كانوا يرتادونها في شارع 26 سبتمبر ، فكان تجمع الحزب الناصري بقهوة تسمى قهوة الإبي، والبعثيين بمقهى نبيل الوقاد وقهوة الخمير المقابلة لها، وحركة القوميين العرب والشبيبة في قهوة حمود التي كانت تشتهر بالقهوة المزغول مع الحلاوى، والقريب من كل هذه الأماكن مكتبة الوعي الثوري التي كانت تقوم بتوريد أمهات الكتب السياسية والأدبية والثقافية .
وكذا المجلات الأسبوعية والشهرية التي كانت تصدر في لبنان ومصر والكويت (العربي والطليعة وعالم المعرفة) وإمارة الشارقة ( الأزمنة العربية ) وغيرها،
وكذلك جميع إصدارات الصحف المصرية وكان الملاحظ أن الشباب بكل أطيافهم السياسية يرتادون لهذه المكتبة، وأيضا الشباب غير المنتمي لأن السمة الغالبة لدى جميع الشباب في تلك الفترة كانت التثقيف الذاتي ، ونتيجة لتعاظم هذه الأنشطة فُتحت مراكز الثقافية مثل المركز الثقافي الروسي والسوري والمصري أبوابها وأيضا نشاطات ثقافية لبعض السفارات مثل السفارة الصينية والكورية الشمالية والروسية، والتي كانت تقوم بعرض أفلام وثائقية عن ثقافات بلدانهم في تلك الفترة، وخاصة ما يتعلق بالثورة الثقافية بالصين ويتم توزيع كتب تعريفية عن الماركسية من المنظور الصيني ومنطلقات نظرية لماو تسي تونغ، وكيم ايل سونغ وغيرها، كما أن السفارة الروسية كانت تقوم بتوزيع الكتب التعريفية بالماركسية اللينينية .
إضافة إلى كل ذلك كان هناك انتشار لدور العرض السينمائي (بلقيس ـ سبأ ـ 23 يوليو الأهلية) ، وأيضا عروض مجانية من قبل المراكز الثقافية الروسية والمصرية وبعض السفارات، وجميعها كانت تعرض أفلام هادفة بالجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية، بما يتواقف مع مستوى وعي الناس .
ـ أما الجانب التعليمي فقد شهد ازدهاراً كبيراً في تعز بسبب الاستقرار السياسي لبعدها عن الحرب التي كانت مستعرة في تلك الفترة بين الجمهورية والملكية في المناطق الشمالية والشرقية، فكانت الكوادر التعليمية التي جاءت من بعض الدول العربية ( مصر ، سوريا ، العراق ) بشكل أساسي كانت أفضل هذه الكوادر تختار تعز للابتعاد عن مناطق الحرب ، لذلك كان المستوى التعليمي على قدر عالٍ من الجودة والتنافس الكبير بين جميع الطلاب في كافة المراحل ، وكانت تعز تستحوذ على أغلب أوائل طلاب الجمهورية في الشهادات العامة ، ويشهد على نوعية التعليم كل من أطلع خلال تلك الفترة على مستوى التعليم في اليمن .
عاد أخي وصديقي بعد إكمال دراسته الجامعية في مجال الهندسة المدنية وعمل لدى الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، وتجدد تواصلنا مع تغير الظروف لكل واحد منا مع استمرار الحميمة والود والإخاء، وكنا نلتقي لنشكو همومنا لبعضنا مع إجراء بعض النقاشات بالقضايا الوطنية والإنسانية، وكنا قريبين من بعض في الكثير من وجهات النظر، إلا أنني كنت أحياناً أنظر للأمور بمنظور سياسي يساري بحكم انتمائي الحزبي إلى الحزب الاشتراكي اليمني، وكنا نتفق في معظمها ونختلف في بعضها، ولكننا كنا نتعامل من منطلق أن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، واستمرينا على هذا الحال لسنوات عديدة ونحن نزداد عمقا في صداقتنا .
تقريبا بدأت لقاءاتنا تقل خلال تسعينيات القرن الماضي شيئا فشيئاً وكنت أقول في نفسي ربما ظروف الحياة هي التي أبعدتنا إلى حد ما عن التواصل، ولكني اشتاق إليه واتواصل معه تلفونيا أو نلتقي في بعض الأحيان مع أصدقاء في بعض أماكن كنا نفضل الالتقاء بها .
بعدها عرفت بأن البيئة الثقافية والسياسية لأخي وصديقي جعلته يقتحم مجال الحياة الأدبية فبدأ عاكفاً للقراءة والكتابة وانطلق كالصاروخ كأديب وفارس للقصة والرواية والمسرحية فأصدر روايته الأولى ( بدون ملل ) 2006م بعدها جاء إنتاجه الغزير ليصل إلى 16 رواية وقصة ومسرحية .
كما ورد في سيرته الذاتية الصادرة من نادي القصة وهناك رواية تمثل رقم (17) لم يشر إليها .
ربما أنه لا يرغب في الإشارة إليها لظروف لا يعلمها إلا هو، رغم أنها طبعت في مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر القاهرة ج . م . ع .
ورغم اقتحامه هذا المجال في الخمسينيات من عمره إلا أنه فاق الكثيرين ممن سبقوه بسنين ، كما أشار في ذلك الكاتب القصصي والروائي والسياسي محمد الغربي عمران عند تكريم الأول بنادي القصة حيث قال: نحن نكتب أكثر من عشرين سنة ولم نصل إلى عشرة كتب بينما تعدى إنتاج المحتفى به إلى قرابة عشرين كتابا منها ثلاثة لم تطبع وخلال 14 عاماً تقريباً .
وبالأمس كان التكريم رغم الظروف الصعبة التي مرينا بها خلال هذا العام وما عانيناه من متاعب في كل الجوانب الحياتية إلا أن ختامه كان بالنسبة لي مناسبة محت كل أحزاني طوال العام بتكريم أخي وصديق عمري الأديب القصصي والروائي والمسرحي الأستاذ عبد الله عباس محمد الإرياني من قبل نادي القصة بدرع نجم السرد لعام 2020م وأمام هذا الحدث العظيم لا يسعني إلا أن أتقدم بخالص التهاني والتبريكات بهذا الشرف العظيم الذي ناله من كوكبة من الأدباء والمثقفين، متمنياً له دوام الصحة والعافية وطول العمر واستمرار نتاجه الأدبي بما يثري الحياة الأدبية والفكرية في بلادنا .

قد يعجبك ايضا