بحثاً عن مدخل لإصلاح القضاء واستقلاله!

عبد العزيز البغدادي

 

(إن المرافعة في ساحة القضاء معركة، أو إن شئت الدقة فقل هي مباراة تشرف عليها روح رياضية عالية يشترط فيها الصدق وعدم أخذ الخصم غيلة والالتجاء إلى سلاح شريف لا زائف ولا مسموم ، فهي مباراة أسلحتها الوحيدة المعتمَدة: قوة البيان وثبات الجنان وقرع الحجة بالحجة والتدليل المنطقي – والاستعانة – ولكن بقدر بتأثير العاطفة واستدرار رحمة القاضي الذي يُعدُّ بمثابة الحَكَم أو استثارة غضبه لتحقيق واجبه كمحامٍ عن الهيئة الاجتماعية، حيث يدفع عنها عدوان المعتدين، وكملجأ المظلوم وسند المهضوم)؛
بهذه الجمل بدأ الدكتور حامد الشريف – المحامي- الفصل الأول من كتابه القيِّم(فن المرافعة أمام المحاكم الجنائية ) ص(17) ، وهي جمل أقرب إلى المعادلات التي تقتضي تلاقي روح القاضي الذي يفترض أنه يجيد الاستماع والفهم مع روح المحامي الذي يفترض أنه يجيد الإسماع والإفهام عند نقطة إنسانية مشتركة عنوانها التكاملي : (البحث عن العدالة) ، ولا يقوم بمهمة البحث هذه إلا من كان حراً في ضميره ومبادئه وأخلاقه وتصرفاته ومنهجه ، وهكذا كانت قضية إصلاح القضاء واستقلاله من أعقد المشكلات وفي مقدمة أي إصلاح سياسي سواء طٌرح على سبيل المزايدة والتكتيك أم بصورة جادة وفعالة ، ولذا بقيت مشكلة المشاكل في كل الظروف السياسية والمراحل التاريخية المتعاقبة !، وتعكس مدى جدية بحثها والسعي لحلها دائماً مدى جدية النظام السياسي وحرصه على تحقيق العدالة من عدمه لأن استقلال القضاء إنما هو وسيلة لتحقيق العدالة وليس وسيلة من وسائل الدعاية لخدمة أهداف السلطة السياسية .
والسلطة القضائية التي تتوفر فيها شروط النزاهة والاستقلال هي الناظم لاحترام مبدأ سيادة القانون وتتجلى عظمة أي نظام سياسي في مدى تمسكه بمبدأ استقلال القضاء له أو عليه ومدى احترامه للقوانين والأنظمة في كل الأحوال والظروف ، ومن الغريب أن نجد في التأريخ أمثلة كثيرة عن حكام وصفوا بالديكتاتوريين عُرفوا بحرصهم على حسن اختيار القضاة واحترام أحكامهم ولو كانت ضد الحكام أنفسهم.
ولابد أن تجد النيابة -موقعها المناسب بين هيئات القضاء ومهنة المحاماة- الاحترام الكامل والملائم لمكانتها كمهنة علمية حرة باعتبارها شريكا في تحقيق العدالة وليست تابعا وبدون ذلك لا يمكن الوصول إلى مبدأ التكامل الخلاق ومعلوم ضرورة تنقية المهنة من المحامين المتاجرين بها وبضمائرهم وأن الدقة في كيفية منح صفة المحامي لا تقل أهمية عن الدقة اللازمة في كيفية اختيار القاضي إن لم تفقهها نظراً لدور المحامي في العمل على إجلاء وجه الحقيقة أمام عقل وضمير ووجدان القاضي, لأن المحامي عديم الضمير والأخلاق أو الذي لا هَمَّ له سوى مقابل الأتعاب حتماً سيُتعب القاضي ويشوّش عليه طالما كان سلاحه في المعركة أو المباراة غير شريف أو مسموم.
من هنا كان الإنسان في المنظومة القضائية المتكاملة هو المدخل لإصلاح القضاء ، وليس صحيح ما يطرح حول إمكانية إصلاحه مع بقاء المتسببين في إفساده من قضاة ونيابة ومحامين وإداريين وإلا سيستمر الدوران في حلقة التنظير حول مظاهر الألم دون العمل على استئصال أسبابه ، إذ لا بد من دراسة جادة للموجود من الكادر القضائي وفتح حوار موسع بين الفاعلين من ذوي العلاقة, قضاة حكم, نيابات, محامين, إداريين, للقيام بدراسة استقصائية حول مستوى كفاءة ونزاهة هذه المنظومة والسلوكيات المطلبية لمنتسبيها وبشكل صريح وعلني, مع إشراك المجتمع المدني وفق آلية منضبطة وكيفية معالجة ما ينتج عن هذا الحوار وكيفية رفد السلطة القضائية بالكفاءات القانونية التي تتوافر في أصحابها شروط وملكة القاضي أو الإداري المطلوب وفق المعايير المحددة قانوناً, ووضع آلية لكيفية الاستغناء عن الفاسد منهم وفق ضوابط قانونية .
وبهذا المنهج التكاملي يمكن البدء بإصلاح القضاء ومعالجة اختلالاته ولو بالتدريج ، ويعقب خطوات إصلاحه الحرص على استقلاله حيث تبدأ الخطوات الأولى في إيجاد قضاء حر مستقل بتطبيق القانون في مواجهة تدخلات أصحاب القرار السياسي وأصحاب النفوذ عموماً في شؤون العدالة, وأن تستجيب السلطة السياسية دون تردد لدعم الخطط التي تضعها السلطة القضائية في إصلاحه ودعم استقلاله ، والمفترض في من يُعَيَّن في موقع من مواقع القضاء أن يكون أهلاً له وبعدها يجب احترام موقعه وألَّا يؤاخذ إلا وفق أُسس وقواعد ومبادئ المساءلة القانونية وليس تبعاً للأمزجة والأهواء والوشايات والأغراض الشخصية، ومعلوم أنه بدون قضاء حر نزيه أو بتحويله إلى أداة لتصفية الحسابات السياسية في كل محطة سياسية جديدة فإن المظلوم الذي وُجِدَ القضاء العادل لإنصافه لن يجد له ملاذاً ، وهذه أبشع صور شريعة الغاب.

(رغم الذي كتبت لم * أفرغ كؤوس غضبي
ولم تزل بداخلي * قصيدةٌ لم تُكتَبِ)

الصديق العزيز الشاعر المبدع المرحوم إسماعيل محمد الوريث

قد يعجبك ايضا