سقوط النماذج وبداية عصر النهايات في الحضارة الغربية


عرفات الرميمة

ساد الحديث ـ منذ العقود السابقة ولا يزال ـ بين مفكري الحضارة الغربية المعاصرة عن النهايات ، وقد بدأ بإعلان نتشه عن نهاية الإله على لسان زرادشت في كتابه (هكذا تكلم زرادشت ) بعد أن لاحظ ذلك من تصرفات الناس وأخلاقهم التي افتقرت إلى وجود الرقيب الذي يجعلهم يفعلون الخير ويهربون من الشر بدافع الخوف من الله، وتبعه الإعلان عن نهاية الإنسان ـ الذي ورد في نهاية كتاب ميشال فوكو عن (الكلمات والأشياء) عام 1966م ـ باعتباره ـ كما قال ـ اكتشافاً حديثاً وسيختفي الإنسان كما يختفي وجه رسمناه في الرمال بين أمواج البحر، وتوالى مع كتاب ( نهاية التاريخ ) لفرانسيس فوكوياما عام 1991م ـقائلاً فيه : إن التاريخ قد انتهى عند النموذج الديمقراطي الليبرالي الرأسمالي الأمريكي على وجه الخصوص وأن العقل البشري وصل إلى أقصى تطوره مع ذلك النظام ـ وظهر أيضاً كتاب بول فيريليو عن (نهاية الجغرافيا) قائلاً فيه : أنه لم يعد هناك مكان منعزل ، ولا وطن مستقل ، ولا توجد ثقافة محصنة في زمن العولمة وتطور وسائل المواصلات والاتصالات ، وتم الإعلان كذلك عن نهاية العولمة في كتاب يحمل نفس العنوان لـ” هارولد جمس “عام2001م، يبشّر فيه بانتهائها كمنتج أمريكي في القريب العاجل وظهر كذلك كتاب لفرانسيس فوكوياما عن ( نهاية الإنسان ) عام 2002م، تحدث فيه عن عواقب الثورة البيو تكنولوجية ، معتبراً أن نهاية الإنسان ستكون من عواقب المعرفة .
وكثر الحديث في الحضارة الغربية أيضا عن الما بعديات : ما بعد الحداثة وما بعد الصناعة وما بعد الاستعمار وما بعد الفلسفة والعلم وما بعد الدولة والديمقراطية، والجدير بالملاحظة أن تلك المقولات عن الما بعديات ـ أو النهايات ـ يجب ألا تقرأ بصورة حرفية مباشرة بوصفها ايبسمولوجيات معرفية حاسمة وفاصلة بين أطوار من الوجود والعدم في الحضارة الغربية ” فالحاضر الآن كان ماضيا سابقا ، والمستقبل هو ما جاءنا به الحاضر ولذا نحن إزاء عبارات تأويلها أن العالم الموجود نفسه لم يعد كما كان عليه ، إن من حيث زمنه وفضائه ، أو من حيث نظامه وإيقاعه ، أو من حيث قواه وآلياته ، فضلاً عن عقلانيته وأنسيته ” ( علي حرب، حديث النهايات، المركز العربي الثقافي .بيروت.ط2/ 2002م. ص167 ) .
وبناءً على ما سبق، يمكن أن نضيف إلى الما بعديات السابقة المتوقع أن تظهر على السطح، ما بعد كورونا وما بعد الولايات المتحدة الأمريكية وما بعد الدولار ـ خصوصاً بعد إصدار الصين اليوان الإلكتروني وبدء التعامل بالذهب مقابل النفط ـ وما بعد الاتحاد الأوروبي، لأن تسونامي كورونا عصف بالعقل الغربي ـوالعقل الأمريكي بشكل خاص ـ وشكَّل زلزالاً وجودياً طمرت ثقته بالنظام الرأسمالي المتوحش وسوف يُعيد ذلك العقل النظر في الكثير من المفاهيم والتصورات التي كان يعتبرها مسلمات ، منها جدوى وجود الولايات المتحدة وفائدته بالنسبة لبقية الولايات وربما نشهد بروستريكا أمريكية ـ على غرار ما فعله جورباتشوف مع الاتحاد السوفيتي سابقاً ـ وسوف تعيد غالبية الشعوب الأوروبية التفكير في علاقتها الذيلّية بأمريكا ـ والتي بدأت مع خطة مارشال وبمقتضاها أقرضت أمريكا أوروبا أكثر من 12 بليون دولار بين عامي 1948م و1951م وقد اشترت بها أوروبا أكثر من ثلث الصادرات الأمريكية عام 1949م ـ وسوف تنتهي الهالة الكاريزمية التي تربط الذيل بالظهر والتي رسمتها تلك الشعوب حول الظهر والسند لأنها رأت أمريكا اليوم بعين كورونا وليس بعيون كاميرات ومخرجي هوليوود كما كان يحدث من قبل .
وربما ينهار الاتحاد الأوروبي بشكلِ تدريجي لأن سوس الخلافات بين قيادات دوله ـ حول الزعامة التي لم تظهر وقت الأزمات ـ سوف تأكله من الداخل وببطء وسوف تتنامى النزعات القومية وستتوج بفوز أحزاب اليمين المُتطرّف في دول الاتحاد ـ والتي ترى من خرم باب القومية الضيق ولا ترى من نافذة الاتحاد الواسعة ـوستغلق أبوابها أمام كل أجنبي وسترفض استقبال اللاجئين مهدرة معظم القيم الليبرالية التي قام عليها الاتحاد الأوروبي.
ومن المؤكد أن الكثير من المفاهيم والتصورات ـ وكذلك المواقع ـ لن تظل كما كانت من قبل ، لقد أعطى كورونا هوية جديدة لكوكب الأرض ولشكل النظام العالمي المحتمل وأعاد رسم الهندسة الجيواستراتيجية بين المركز والمحيط وسوف تنضبط بوصلة التوجه الإنساني العالمي إلى الشرق بدلاً عن الغرب وإلى الجنوب بدلا عن الشمال وإلى الأطراف بدلاً من المراكز تأكيداً لسنة التدافع التي تحدث عنها القرآن الكريم .
لقد تنبأ الفيلسوف روجيه جارودي عام 1998م أن البديل للعولمة والهيمنة الأمريكية المتوحشة سيكون من الصين وبواسطة طريق الحرير الجديد ( ينظر كتابه : العولمة المزعومة ، دار الشوكاني ، صنعاء ص235) والوقت الحالي أثبت صحة تنبآته خصوصا بعد جائحة كورونا والقفزات المتسارعة للاقتصاد الصيني وهيمنته على تقنية الجيل الخامس بواسطة شركتي “هواوي” و”ztm” وتمثّلان حوالي 40 % من سوق البنية التحتية لشبكة الاتصالات في العالم ويضخّ تريليونات الدولارات في النشاط الاقتصادي وتعتبره الولايات المتحدة أكبر التحديات التي تهدّد أمنها القومي والاقتصادي.
وفي نفس السياق أعلنت المنظمة العالمية للملكية الفكرية العام المنصرم أن الصين أزاحت الولايات المتحدة عن العرش ـ الذي ظلت متربعة عليه منذ إقامة تلك المنظمة قبل أكثر من 40 عاماـ بعد تصدرها لطلبات تسجيل البراءات الدولية بـ 58 ألفا و990 طلبا جاءت من الصين مقارنة مع 57 ألفا و840 طلباً من الولايات المتحدة وتعد ملكية براءات الاختراع مؤشرا مهما على قوة اقتصاد الدولة ومدى خبرتها في القطاع الصناعي .
لقد انتهى الصراع الذي تحدث عنه المفكر الأمريكي صموئيل هنتنجتون ـ في كتابه المعنوّن بـ(صراع الحضارات ) ـ والذي صدر عام 1996م، مع العلم بأن المستشرق الإنجليزي المتصهيّن برنار لويس هو من اطلق مصطلح صراع الحضارات في مجلة ذا أتلانتيك عام 1990م ـ والذي يقول فيه هنتنجتون باختصار : إن الصراع سوف ينحصر في المستقبل بين الحضارة الغربية الرأسمالية العلمانية من جهة وبين الحضارة الإسلامية ـ بشكل رئيسي ـ وبين الحضارة الكونفوشيوسية الصينية من جهة أخرى ـ بغلبة النموذج الحضاري الكونفوشيوسي الإنساني وبالنقاط على الحضارة الرأسمالية المسيحية اليهودية المتوحشة ، لقد انتهت أسطورة الإنسان الأخير ـ الكابوي الأمريكي ـ الذي قصده فوكوياما في نهاية التاريخ لتبدأ حكاية التنين الصيني و لم تعد أمريكا ذلك البعبع المخيف ـ الذي تربع على قيادة العالم لمدة ثلاثة عقود ـ لقد تعاملت أمريكا بغرور الأرنب الذي سبقته السلحفاة الصينية في كل شيء حتى في القوة العسكرية ، فقد حذرت مصادر عسكرية أمريكية لصحيفة “ذي تايمز” من أن الولايات المتحدة ستخسر الحرب مع الصين في حال اندلاعها في المحيط الهادئ. و أن الجيش الأمريكي يبدو غير قادر على الدفاع عن تايوان وأن قاعدة جزيرة غوام العسكرية تبدو في خطر حالياً (ينظر :https://www.almayadeen.net/news/politics/1398603/ |) وأرسلت الصين العديد من الرسائل العسكرية للولايات المتحدة تؤكد نديّتها منها : العرض العسكري غير المسبوق للقوات العسكرية الصينية العام الماضي على مستوى العالم وكذلك زيادة إنفاقها العسكري على التسلّح لتصبح الدولة الثانية بعد أمريكا.
لقد أعاد صعود الصين المتسارع كتابة التاريخ من جديد، كما أعلن رئيس معهد بروكنجزـ القائد السابق لقوّة المساعدة التابعة لحلف شمال الأطلسي والقوات الأمريكية في أفغانستان ـ إن “المُنتصرين على أزمة فيروس كورونا سيكتبون التاريخ”.
لقد عمدت الإدارة الأمريكية إلى ممارسة كل أنواع الضغوط على الصين لتأخير صعودها وأخرها إلغاء الحصانة السيادية للصين في المحاكم الأمريكية للسماح للأمريكيين المتضررين من فيروس كورونا بمقاضاة الحكومة الصينية ، ربما يكون ذلك الإلغاء هو القشة التي ستقصم ظهر التنين الصيني لخوض حرب عسكرية يتم على اثرها صعود نجم جديد في سماء الحضارة الإنسانية ، فمنذ أن انتقل ترامب إلى البيت الأبيض أراد أن يجعل من عبارة “أمريكا أولاً” شعاراً إرشادياً لإدارته، وأصبحت فعلاً كذلك، ولكن في الهرولة نحو السقوط ولن تسبقها دولة في ذلك .

قد يعجبك ايضا