حتى لا ننسى شهداءنا وتضحياتهم .. صديقي الشهيد

 

عبدالوهاب الضوراني

قال صديقي الشهيد وهو يحاورني عندما كان على قيد الحياة: أنا لا تأتيني الأفكار والتجليات عادة إلا في مثل هذه الأجواء وفي هذه اللحظات بالذات ، ولم يذكر صديقي بالتحديد طبيعة أو مواقيت تلك الأجواء واللحظات التي تأتي فيها تلك التجليات والمشاعر الفياضة التي ذكرها ومفارقاتها بالضبط ، على العموم صديقي هذا كان شخصا متفائلا بل وغاية في التفاؤل أيضا حتى عندما يكون في أسوأ حالات اليأس والتأزم تجده متفائلا وسعيدا وتنهال عليه إشعاعاته وملكاته أولاً بأول وكوابل المطر، نسيت بالمناسبة أن أقول أن صديقي الشهيد كان شاعرا ومن النوع الرقيق والمرهف أيضا تأتيه إيحاءاته وتجلياته من بين يديه ومن خلفه وعن يمنيه وشماله حتى عندما يأوي إلى فراشه ويخلد إلى النوم تجده مغردا كالبلابل والعصافير التي تشدو فوق الأغصان في مواسم الأمطار ، وعندما سألته عن طبيعة تلك الأجواء واللحظات الرومانسية التي تأتيه فيها تلك الإشعاعات والتجليات والمشاعر الجياشة وأوقاتها ، أجاب وهو يومئ بأصبعه إلى شجرة كافور مثقلة بأعشاش العصافير التي كانت تتدلى منها كعناقيد العنب، انظر إلى أعشاش العصافير كم تبدو جميلة وجذابة وهي تغتسل تحت رذاذ المطر، نسيت أن أقول أيضا أننا كنا في موسم أمطار والأجواء كانت بالفعل توحي بالكثير من الإيحاءات والتأملات والمشاعر الفياضة وكل شيء فوق الأرض كان يبدو جميلا وخلابا أيضا، حتى أكوام النفايات فوق الأرض والتي أدار لها عمال النظافة ظهورهم وتركوها عرضة لعبث الأطفال وفريسة للقطط الجائعة كانت بدورها جميلة وبديعة فلم يتمالك صديقي الشهيد نفسه ومقاومة مشاعره الجياشة فأنشد لتوه بيتا من الشعر أثار في الحقيقة اهتمام المارة فوق الرصيف حتى العصافير رقصت نشوى فوق الأغصان أيضا، “الطير الرنان غنى على الأغصان أجمل الألحان” حينها فقط اقتنعت بأن صديقي كان على حق عندما كان يقول بأن شيطان الشعر والملكوت لا يأتيانه إلاّ في مثل هذه الأجواء الساحرة وتلك اللحظات بالذات.
وحتى لا أنسى بأن صديقي الشهيد كان واحدا من رموز النضال الوطني ويعشق وطنه اليمن إلى درجة الجنون والتضحية بنفسة إذا استدعى الأمر، فعندما هاجمت السعودية جارتها اليمن وأمطرتها بأسوأ أسلحة الدمار الشامل وشاهد الأطفال وطائرات دول التحالف تحصدهم كل يوم بالمئات جن جنونه وحمل بندقيته على كتفه وتوجه على الفور إلى الجبهة للالتحاق بإخواننا المجاهدين واللجان الشعبية المرابطين في مختلف الثغور وقمم الجبال وما وراء الحدود، والذين أوجه لهم التحية لصمودهم الأسطوري والمشرف للذود عن حياض الوطن واستقلاله وسلامة أراضيه ، حيث خاض معهم بكل شجاعة أشرس المعارك الطاحنة ، كما رأيته يوما بأم عيني وهو بالزي الميري المموه وبندقيته تتدلى كالوسام فوق كتفه وابتدرني عندما رآني قائلا وهو يلتقط أنفاسه: لقد عدت لتوي من الجبهة بعد أن كبدنا قوات الرمال المتحركة وقوات التحالف والمرتزقة خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات ، وفي إحدى تلك المعارك الفاصلة التي كان يخوضها بكل عزم وإصرار مع زملائه المقاتلين والتي عاد منها هذه الكرة شهيدا ومحمولا على أكتاف إخوانه المجاهدين.
ونحن نشيع جثمانه الطاهر الذي كان ملفوفا داخل علم الوطن إلى مثواه الأخير في إحدى مقابر شهداء الوطن والواجب والفداء رن في أذني صوته الدافئ والرقيق وهو يشدو بإحدى قصائده “الطير الرنان غنى على الأغصان أجمل الألحان”..

قد يعجبك ايضا