وباء التطبيع وآثاره الكارثية على الاقتصاد والأمن العربي

 

د. يحيى علي السقاف

إن وباء التطبيع الذي يجتاح المنطقة العربية بشكل سافر واستفزازي يعتبر كارثة كبيرة وأكثر خطورة من وباء كورونا، لأن الوباء الذي يصيب الجسم مصيره إلى التراجع والانحسار، أما الوباء الذي يصيب الروح والعقيدة الإيمانية والإسلامية له مخاطر كبيرة جدا وليس بالسهولة القضاء عليه وذلك لان آثار التطبيع ستكون أخطر وأكثر فداحة لأنها تمس نسيج الأمة العربية وتاريخها وتطيح بالكثير من عوامل صمودها واستمرارها.
وتعتبر موجة التطبيع الجديدة التي تجتاح العالم العربي مختلفة عن الموجة السابقة بين مصر وإسرائيل التي كانت في السبعينيات من القرن الماضي وذلك من زوايا عدة أهمها انها تجري مع دول من خارج الطوق العربي فالإمارات والبحرين والسودان والمغرب ليست من الدول المجاورة لإسرائيل ولم تكن في حالة حرب معها في أي يوم، وانها تأتي في وقت يبدو فيه النظام العربي الرسمي في أسوأ حالاته نتيجة الأحداث والصراعات التي مر بها مؤخرا، ولذا يتوقع ان تكون لهذه الموجة التطبيعية تداعيات أكثر حدًة وخطورة على النظام العربي وذلك على كل الأصعدة السياسية والأمنية والاقتصادية والفكرية، ومن الضرورة التصدي لهذا الوباء الخبيث قبل أن يتجذر في جسد الأمة العربية والإسلامية، ومن المؤسف ما نلاحظه حاليا ان نرى دولا ومجتمعات عربية تتسارع في وتيرة كبيره لتقديم أوراق اعتمادها للكيان الصهيوني عبر جعل العلاقة معه أمراً طبيعياً والسبب في تهاتف هذه الدويلات على الحصول على هذا المرض الخبيث هو الاعتقاد الخاطئ انه سيؤمن لهم الحماية من شعوبهم التي سوف تنتفض ضدهم بسبب سياسات القمع والفساد والتبعية لقوى الظلم والطغيان العالمية.
وعلى الصعيد الاقتصادي يتوقع ان تكون للموجهة الحالية من التطبيع العربي مع إسرائيل تداعيات بالغة الخطورة على النظام الاقتصادي العربي ككل وعلى الاقتصاد الخليجي بصفة خاصة وما نلاحظه ان دول الخليج تشعر بأنها دول غنية ولديها احتياطات كبيرة من النفط تمكنها من استمرار تراكم الفوائض المالية لديها في بنوك دول الغرب وتملك شركات ومصارف عالمية وبالتالي تتوهم ان لديها العديد من عناصر القوة التي تمكنها من المنافسة على الصعيد الاقليمي ومن وهم الاستفادة من تطوير علاقتها الاقتصادية والتجارية مع إسرائيل لذا تبدو هذه الدول مصممة على المضي على هذا الطريق الخاطئ والخطير غير عابئة حتى بما قد يلحقه هذا النهج من ضرر بالغ بها وبدول عربية أخرى مجاورة لها، غير ان هذه النغمة المتعالية قد توحي بثقة مفرطة ولا تأخذ في اعتبارها العديد من سمات الخلل البنيوي في الاقتصاد الخليجي الذي مازال ريعيا في الأساس ويعتمد على تصدير النفط ولا يعتمد على إنتاج السلع والخدمات وتصديرها، لانها تتبع نظاماً اقتصادياً استهلاكياً غير إنتاجي، ولأن درجة التقدم العلمي والتكنولوجي فيها محدودة وضعيفة، وذلك لن قدرة الاقتصاد الإسرائيلي على اختراق بنى الاقتصاد الخليجي وهياكلة تبدو اكبر بكثير.
ومن ناحية أخرى لم تستوعب دول الخليج ان إسرائيل تؤمن إلى درجة اليقين بأن كل ما هو عربي أو إسلامي وليس فلسطينيا فقط فهو يشكل تهديدا حاليا أو محتملا لها.
ونتيجة حتمية لآثار تطبيع الدول مع إسرائيل فإن الاتفاقيات المبرمة بينها قد يكون لها تأثير سلبي على تلك الدول من الناحية الاقتصادية خاصة في مجالات التجارة والسياحة وجذب الأموال والاستثمارات، لأن دول الخليج والدول الأخرى المطبعة مع إسرائيل لها أسواق وسلع وخدمات تصدر وتباع فيها من بقية الدول العربية في المنطقة ووجود علاقات اقتصادية بين إسرائيل والدول المطبعة معها قد يعني مواجهة السلع الأخرى وإخضاعها لمنافسة قوية من مثيلاتها الإسرائيلية في تلك الأسواق، وأيضا يقياس ذلك مع القطاعات الاقتصادية الأخرى، فمثلا قد ينتج أضرارا كبيرة لقطاع السياحة، فالتطبيع إذا ما انتقل من المستوى الرسمي إلى المستوى الشعبي قد يؤدي لمنافسة على صعيد السياحة بحيث تكون المزارات السياحية في إسرائيل وجهة منافسة للمزارات في الدول العربية الأخرى خاصة وان طبيعة السلطة ممكن ان تقلل من مقاومة التطبيع الشعبي، ومن الاضرار الاقتصادية الأخرى في جانب حركة قطاعات النقل فلو حدث ما يتردد حاليا من مد خط سكك حديدية بين إسرائيل ودول الخليج والذي يكون من آثاره الكارثية ان تتحول إسرائيل ساعتها إلى مركز لتجارة الترانزيت بين الخليج العربي وأوروبا، وسيكون ذلك بالطبع على حساب حركة النقل للدول الأخرى في المنطقة ومن الكوارث أيضا على صعيد الاستثمارات فإن إسرائيل ليست بحاجة لجذب استثمارات جديدة فهي بالفعل مشبعة منذ فترة بهذا الجانب، ولكن من ناحية أخرى قد يتجه التطبيع بين إسرائيل ودول الخليج إلى وجود مشاريع مشتركة بينهما تلعب فيها إسرائيل دور ناقل التكنولوجيا الأمريكية والأوروبية الى دول الخليج وتؤدي إلى توطين الاستثمارات الخليجية في دول الخليج نفسها وهو ما قد يؤثر بطبيعة الحال على تدفق الاستثمارات الخليجية إلى الدول العربية الأخرى وهذا يعتبر كارثة اقتصادية، ومن ناحية أخرى فان التطبيع مع إسرائيل له تأثير خطير على العمالة العربية بالخليج والسبب إن إسرائيل ليست موردا للعمالة وقد يقتصر تصدير إسرائيل للعمالة إلى الخليج على العمالة عالية المهارة وليست العمالة العادية فإسرائيل نفسها مستوردة للعمالة.
ولهذا التطبيع مخاطر كبيرة أيضا على الأمن القومي العربي ولما تشكله خطورة هذه التحولات من انكشاف للأمن العربي وإضعاف الموقف الموحد الداعم لتحرير القدس الشريف واستعادة حقوق الشعب الفلسطيني لان حل القضية الفلسطينية هو أساس معالجة أزمات المنطقة والوصول إلى حالة الاستقرار والسبب في ذلك يعود إلى ان اتفاقيات التطبيع تتيح لإسرائيل الدخول إلى قلب النظام العربي واختراق المجتمعات العربية وبث بذور الفتنة والانقسام بداخلها وتغير مفهوم أولويات الأمن القومي بين الدول العربية لاختلاف تعريف الخصم أو العدو في كل دولة، إضافة لاستنزاف أموال الدول النفطية تحت مسمى الاستثمار التكنولوجي في ظل ما تشهده المنطقة من تغييرات اقليمية كبيرة ودخول مشاريع غير عربية إليها بقوة، والذي يجب على الدول العربية في مواجهة هذا المد الصهيوني بناء استراتيجية عربية شاملة وبعيدة المدى لاحتواء المشروع الإسرائيلي ومحاصرته وصولا إلى إنهائه وحماية الدين الإسلامي من هذا الوباء الخطير، ولأن القضية الفلسطينية مستندة إلى تمتين الجبهة الداخلية للدول العربية عبر تحقيق الإصلاح السياسي والتصالح مع الشعوب، ولان تجربة أربعين عاما من مسار التسوية والمعاهدات بين دول عربية وإسرائيل لم تحقق السلام والاستقرار في المنطقة ولم تحقق مصالح الشعب الفلسطيني.
وكيل وزارة المالية

قد يعجبك ايضا