الإعلام في مهمّة تجميل أمريكا ومكيجة جرائمها

السفارة الأمريكية في صنعاء ومشاريع التفريخ والترويض الإعلامي

 

 

الكثير منّا يطلع على المادة الإعلامية، مكتوبة أو مرئية أو مسموعة، فتترك أثراً في نفسه، والقليل يتعامل معها بحذر، وبالمثل يأتي دور المرسل، فالكثير من صنَّاع الإعلام ينخرطون في مشاريع التضليل وتكوين توجّهات المجتمع – عن قصد وعن غير ذلك – لكن القليل منهم فقط من يتعاملون معها ويصنعونها بحذر، فالرسالة في قانون الإعلام تشبه الرصاصة ولا بد أن تؤثر في الهدف، بناءً على هذه القاعدة وجَّهت السفارة الأمريكية في صنعاء وسائل الإعلام لتنفيذ برامج الترويض.

الثورة /عبدالقادر عثمان

رغم أن أمريكا تبدو في ظاهرها تلك الإمبراطورية الراعية للديمقراطية وحقوق الإنسان عبر العالم، إلا أن حقيقتها بعيدة كل البعد عن هذه الصورة المزيفة التي سوقتها اعتمادا على قوة إعلامية هائلة متحكمة في العقول وموجهة للجمهور ، فبقدر الحروب المدمرة التي أشعلتها أمريكا خارج حدودها ورمت بها بلدان العالم في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن وغيرها من البلدان العربية والإسلامية ، قامت – أيضا – بالموازاة بإدارة الصراع الإعلامي وتسويق أمريكا في حمل وديع وصورة ممكيجة غير تلك الصورة الإجرامية لأمريكا ، وعملت على إنشاء مطابخ إعلامية هائلة ، إضافة إلى القيام بالضغط على الأنظمة ليسير إعلامُها وفق الأجندات التي تُحدّدها أمريكا ولما يشرعن ويؤنسن فعائلها ويجمِّل جرائمها ، وهكذا أجرى الأمريكيون عملية غسل دماغ للشعوب العربية والإسلامية ؛ لطمس صورة الأمريكي القاتل في الذهن الجمعي والوعي العام ، لتحل محلها صورة الأمريكي المنقذ والراعي للحقوق والحريات ، والذي يعمل في خدمة الشعب ولصالحه.
على إثر الغزو الأمريكي لأفغانستان ثم العراق ، وما أعقب ذلك من الحروب الأمريكية التي اشتعلت في بلدان المنطقة ، وما كرَّسته في الذهنية العامة للشعوب عن الإجرام الأمريكي المشاهد يوميا ، انصبت جهود صناع الدبلوماسية العامة تجاه المنطقة على فتح مداخل جديدة لتحسين صورة أمريكا وترويج قيمها، من جهة، من خلال التلاعب في مناهج التعليم وإدخال ما تسميه أمريكا بالإصلاحات التعليمية والثقافية ، والتي هي عبارة عن تحريف للمناهج التعليمية ، وخلق ثقافات مغلوطة ، من خلال تعزيز التواصلات الإعلامية عبر برنامج زيارات إلى أمريكا لمن تسميهم قادة الرأي، وتتفيه الإعلام الرسمي العربي وتسخيفه ، وخلق إعلام يقدم امريكا بصورة مدبلجة ومجملة .
التأثير الإعلامي لدى المتلقي له مداخل عديدة ، منها التلقيح وهذه النظرية تعتمد على تطبيع الحضور الأمريكي في وسائل الإعلام الرسمية ، إذ أن تكرار رؤية الجمهور للسفير الأمريكي في الصفحات الأولى تؤدي به إلى تبلِّد تام تجاه كل ما يقوم به السفير الأمريكي ، فكثرة رؤية المنكرات والمشاهد المنحرفة تبلِّد الأحاسيس وتولِّد اللامبالاة؛ حتى يصبح المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا ، وهي الاستراتيجية التي اتبعتها امريكا في استلاب الإعلام الرسمي ، والذي كان يواكب اخبار السفير الأمريكي بصورة يومية، ويضعها في صدارة النشرات التلفزيونية والإذاعية وفي الصفحات الأولى للصحف الرسمية.
في المقابل صنعت وسائل إعلام وتخاطب حزبية ومستقلة أحيانا ، وأوكلت إليها تقديم أمريكا كراعية للحقوق والحريات والديمقراطية ، وهي مهمة تناسب الدور المستقل أو المعارض الذي تتلبَّسه تلك الوسائل الإعلامية والتي تحقق الأجندة الامريكية نفسها ، ومن زاوية مرسومة سلفا، ثم دعمت استراتيجيتها باستمالة الصحفيين والاعلاميين من خلال برامج الزيارات الصحفية إلى أمريكا الذي كانت تنظمه السفارة بشكل سنوي ، وتمكنت من خلاله من استقطاب النخبة الإعلامية والصحافية وتدجينها ثم دفعها للعمل وفق الأجندات الأمريكية ، وعملت بموازاة ذلك بنظرية “حارس البوابة” -بوابة الجماهير- ، تحدِّد من هو الكاتب ومن هو الصحفي ومن هو الإعلامي ، وتحدِّد من يكتب ومن يمنع من الكتابة ، وهي الاستراتيجية نفسها التي تنعكس اليوم على وسائل التواصل الاجتماعي.
يلعب الإعلام دورا مهما في صناعة الخطر المحدق بالشعوب، وهذا الخطر يستلزم بالضرورة التحرك عاجلا لوقفه وتقديم كل التضحيات في سبيل ذلك، هنا تتبلور فكرة السيطرة على الشعوب التي نعتها تشومسكي في كتابه بقيادة القطيع الضال المنساق وراء إملاءات السلطة الحاكمة، ليتحول مع الوقت إلى كراكيز ساكنة تكتفي بالمشاهدة للعملية الديمقراطية فقط لكنها لا تشارك فيها.
السفارة في صنعاء
عقب نشر صحيفة “الثورة” عدداً من التقارير التي أعدتها عن التحكم والسيطرة والتواجد الأمريكي في اليمن، قال لي أحد الزملاء: “لو أن السفارة الأمريكية لا تزال تعمل في صنعاء لطلبت إحضارك ولو بالقوة ولكان وضعك اليوم مختلفاً، ولتم إسكاتك بطريقة أو بأخرى”.
أثار هذا الحديث فضولي للبحث عن دور السفارة الأمريكية في صنعاء خلال الخمس سنوات الأخيرة لتواجدها، والتي تمثل مرحلة مهمة في تاريخ اليمن، إضافة إلى تعاطي وسائل الإعلام المحلية، خاصة الرسمية، مع التدخلات الأمريكية وتصريحات السفير ونشاطاته وكيفية تقديمها لليمنيين.
بشكل عام
بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فإن الإعلام وسيلتها المثلى للسيطرة على آراء الشعوب بعد سيطرتها على قراراتها، فقد اهتم الأمريكان منذ تأسيس الدولة الفدرالية بدور وسائل الإعلام في توجيه الحياة السياسية، وغدت الصحافة منبراً رئيسياً للحوار والجدل السياسي وتوجيه الرأي العام، ولجأت أمريكا إلى تطبيق سياستها الهادفة إلى السيطرة على الآراء في كثير من البلدان وخلال الحروب التي قادتها، بدءاً بالحرب على فيتنام والتي اتخذت فيها سياسة التضليل على الشعب الأمريكي وشعوب العالم ومرورا بحرب أفغانستان والعراق.
هذه السياسة تقوم على قاعدة التأثير بالرسالة الإعلامية، وتكرارها وإبرازها يلعبان دوراً كبيراً في ترسيخ سياسة التفريخ التي تقودها المنابر التي توجِّهها الإدارة الأمريكية سواء تلك التي تملكها أو من خلال شراء ولاءات الصحفيين والكتَّاب والمثقفين في مؤسسات الشعوب الإعلامية ومنحهم المميزات والإغراءات والعمل على تلميعهم وبناء قاعدتهم الشعبية.
وفي اليمن الذي عملت حكوماته عقوداً من الزمن في خدمة القرار الأمريكي، كانت أمريكا بحاجة إلى صناعة صورة جميلة عنها في ذهن الشعب الذي يعرف عنه التمسك بهويته وقضايا أمته وحبه لوطنه، فلجأت إلى ترويضه إعلامياً عن طريق الأبواق الإعلامية التي عملت على تصوير الأمريكيين كمنقذين في الوقت الذي كان فيه الشعب بحاجة إلى ثورة وعي تنقذه من الوقوع في الكارثة.
وعندما كان الأمريكان يعززون دعمهم للتنظيمات الإرهابية في اليمن كانت صحف الإعلام الرسمية تنشر على متن صفحتها الأولى بالبنط العريض حديث السفير الأمريكي عن دعم بلاده للحكومة اليمنية في مكافحة الإرهاب وثناء الرئاسة اليمنية على تلك الجهود، بينما تفرِّد القنوات التلفزيونية والإذاعات مساحات في نشراتها الرئيسية للحديث عن الموضوع وتكرار ذلك بصورة مستمرة.
أرشيف الثورة
بالعودة إلى أرشيف صحيفة “الثورة” في صنعاء والاطلاع على أخبار السفارة الأمريكية والإدارة الأمريكية بشكل عام، تبيَّن أن ما نسبته 99 % – من 320 عدداً – من تلك الأخبار احتلك أماكن بارزة في الصفحة الأولى، إذ أفردت لبعضها مساحة تقارب ثلث الصفحة الرئيسية خلال العام 2010م لكنها أخذت تزحف لتسيطر على أكثر من نصف الصفحة ذاتها بعد تنصيب هادي واستمر الحال إلى العام 2014م، حيث عملت وسائل الإعلام على تقديم السفير الأمريكي كحاكم فعلي لليمن، من خلال اجتماعاته المستمرة مع مسؤولي كافة مؤسسات الدولة وتوجيهاته المباشرة للوزراء والمسؤولين والمشائخ ومنظمات المجتمع المدني.
لقد حرصت السفارة الأمريكية على استقطاب الإعلاميين والصحفيين والاهتمام بهم وبناء علاقة ود بينها وبينهم من خلال الدعوات المتكررة للفعاليات التي تقيمها في صنعاء والندوات وورش العمل التي تدعم إقامتها، إضافة إلى تخصيص برنامج “الزائر الدولي” للصحفيين من أجل الذهاب إلى أمريكا والعودة للكتابة عن الثقافة الأمريكية والحرية المزعومة وانتقاد كل ما يمت للوطن بصلة باعتباره شيئاً غير حضاري، بغية الترويج لثقافة الفوضى.
كما عملت السفارة على أرشفة كل ما يكتب في الصحافة المحلية ومراجعة أي انتقاد لدور أمريكا في اليمن مع الصحفي كاتب المقال كما حدث مع أحد الزملاء المحررين في صحيفة خاصة كانت تصدر قبل العدوان على اليمن، إضافة إلى استقطاب الكتاب وإقامة دورات صحافية لهم عن طريق برنامج فولبرايت الذي تدعمه، وتحت مسمى دعم الصحافة الاستقصائية، وصرف مرتبات شهرية للكثير منهم، علاوة على دعم العديد من برامج منظمات المجتمع المدني العاملة في مجال الإعلام والهادفة إلى التفريخ الإعلامي.
السفير الرئيس
في عدد الـ 26 من أكتوبر 2010م نشرت “الثورة” على متن صفحتها الأولى عنوانا مفاده: “السفير الأمريكي: الوحدة اليمنية قضية ليست قابلة للنقاش!” في ما يوحي من خلال منطق الكلام أن القرار في اليمن أمريكيا وأن السفير الأمريكي هو صاحب الكلمة الأولى وبناء على ذلك يجب ترسيخ هذا المفهوم لدى العامة عن طريق الإعلام المحلي، فتارة تنشر الصحف الرسمية خبرا عن لقاء السفير الأمريكي برئيس هيئة الأركان العامة للجيش اليمني وتارة تُفرِّد في صفحتها الأولى مساحة لخبر تسليم منظمات المجتمع المدني ملفاً بانتهاكات المعارضة إلى السفارة الأمريكية وثالثة عن لقاء وزير الصناعة بالسفير الأمريكي لاستعراض تداعيات الأزمة، وأخرى عن لقاء من أجل دعم السفارة الأمريكية لوسائل الإعلام اليمنية.
كان للسفارة الأمريكية وسفيرها دور في تقديم هادي للانتخابات، عكست ذلك اللقاءات التي سبقت تنصيبه بديلا لعلي صالح، وحرص السفير الشديد على تمرير الانتخابات التوافقية واهتمامه بحشد المباركين، وظهور أوباما خلال الانتخابات وما أعقبها مباركا ذلك الحدث ومؤكدا حرص أمريكا على إنجاح هذا الانتقال والوقوف معه، وجاءت على هيئة أخبار بعناوين عريضة على صدر الصفحات الأولى للصحف اليمنية الرسمية والخاصة.
استمرار التأثير
عقب الجلسة الافتتاحية لمؤتمر الحوار الوطني الذي يفترض به أن يكون يمنيا خالصا، بادر السفير الأمريكي جيرالد فايرستاين، للظهور عبر صحيفة “الثورة” ليقول إن أمريكا مع اقتراح الحوار الوطني، وأنها ستبذل الكثير من أجل ضمان الانتقال السلمي للسلطة، ومنذ ذلك الحين صار فايرستاين هو المشرف الأول على مؤتمر الحوار الذي لم تطبق مخرجاته حتى اليوم.
لعل أهم ما حرصت عليه الإدارة الأمريكية في اليمن عقب ثورة 2011م كان هيكلة الجيش، التي تمت بإشراف أمريكي، قبل ذلك سربت السفارة أخباراً عن الهيكلة تداولتها الصحف اليمنية بشكل عام، رسمية وأهلية، وأفردت لها مساحات واسعة في صفحاتها الأولى، وهو ما يمكن من خلاله ملاحظة التدخل من خلال التوجيه بالتعاطي مع التسريبات، كما هو الحال مع بعض القضايا السياسية التي تخدم الإدارة الأمريكية.
استمر التعاطي باهتمام مع أخبار السفارة الأمريكية حتى بعد قيام ثورة الـ21 من سبتمبر 2014م بأشهر، وذلك كان نتاجاً لعملية التفريخ التي استمرت لسنوات، وحوَّلت الوسائل الإعلامية إلى أبواق للسفارة التي لا قيود لنشاط سفيرها، سواء عسكريا أو مجتمعيا أو سياسيا وغير ذلك، لكن الباعث على الغرابة هو أن كل ذلك تم دون أن يثير حفيظة أي صحفي.

قد يعجبك ايضا