التطبيع بين الإمارات وإسرائيل جزء أساسي من "صفقة القرن" التي تعمل عبر مسارين عربي وفلسطيني

الاتفاق الإماراتي – الإسرائيلي.. إعلان رسمي عربي لانتهاء مسار أوسلو

أي تبرير يقدِّمه المطبعون في غياب التغطية الرسمية والشعبية الفلسطينية مجرد أكاذيب
بعض ثورات “2010م” العربية طرحت ثقافة رجعية ومطالب قطرية على حساب القضية الفلسطينية
نجحت الضغوط الأمريكية في الاستفراد بالفلسطينيين في أوسلو ومهَّدت بذلك لتسارع عمليات التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل

فتحي كليب عضو المكتب السياسي للجبهـة الديمقراطيـة لتحريـر فلسطين
منذ ما قبل إعلان كيان العدو الإسرائيلي، كان المحور الأساسي الذي يحرك الحركة الصهيونية هو مدى قبول المنطقة العربية بكيان غريب احتل ارضاً عربية وهجّر شعبها في منافي الأرض، وشكَّل هذا التحدي موقعا متقدما في فكر جميع زعماء الحركة الصهيونية، الذين راهنوا، منذ بداية المشروع الصهيوني، على الزعامة العربية التقليدية ودورها في مساعدة إسرائيل على تحقيق أهدافها، ومثال ذلك أن من لعب دورا كبيرا في اخماد ثورة عام 1936م هي هذه الزعامات التي ضغطت، تحت عنوان “إعطاء الانتداب فرصة” من اجل وقف الثورة.. وحين أعلن عن قيام دولة العدو وانطلقت مفاوضات الهدنة، كان شرط إسرائيل هو اعتراف مباشر من قبل الدول العربية بها، لأن التطبيع كان بالنسبة لها امراً بعيد المنال لا يمكن أن يتحقق بسهولة، لذلك لم يكن ذات أولوية بالنسبة لها، رغم أنها عادت وطرحته في الكثير من المنعطفات، وكانت في كل مرة تحقق اختراقات بسيطة، لكنها ذات شأن.

مثَّلت عملية التسوية التي انطلقت منذ مؤتمر مدريد (1991م) هزيمة كاملة للمشروع العربي والفلسطيني: إن لجهة موافقة الأطراف العربية على التفاوض المباشر مع إسرائيل وبدون شروط مسبقة، في تراجع عن المواقف التي ظلت سائدة منذ اتفاق الهدنة (1948-1949م)، أو لجهة فك ارتباط كل جبهة عربية بالقضية الفلسطينية وفك ارتباط المسألة الفلسطينية بالمفاوضات العربية – الإسرائيلية، عبر تقسيم قضايا الصراع بين إسرائيل وكل دولة عربية على حدا، حيث تكشف مذكرات البعض كيف ان الزعامة الرسمية العربية كانت تتسابق سرا فيما بينها من اجل كسب ود إسرائيل وتحيِّن الفرصة المناسبة لعقد اتفاق معها..
كانت البداية مع اتفاق كامب ديفيد وما مثله من اختلال في موازين القوى لصالح العدو، ثم جاءت حرب الخليج الثانية (عام 1990م) ودخول القوات الأطلسية والأمريكية المنطقة العربية، ثم المفاوضات العربية الإسرائيلية التي انعقدت تحت شعار “الأرض مقابل السلام”، تلتها مبادرة السلام العربية (عام 2002م) التي تبنت التطبيع بشكل رسمي لأول مرة، طارحة شعاراً جديداً هو “السلام مقابل التطبيع”، ثم جاءت الثورات العربية (عام 2010م) فطرحت بعضها ثقافة رجعية جديدة تتمثل بالدعوات إلى الاهتمام بالأوضاع الداخلية على حساب القضايا القومية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.. وبشكل تدريجي سقطت تحفظات العرب وبقي الموقف الإسرائيلي صامدا.. ففي الشعار الأول سقط السلام وبقيت الأرض مع إسرائيل وفي الثاني سقط السلام وبقي التطبيع.. وفي المحصلة سقط السلام وبقيت الأرض مع إسرائيل التي أصبحت تتحكم بتوقيت إعلان التطبيع مع هذه الدولة أو تلك..
انطلقت فلسفة عملية التسوية السياسية التي انطلقت من مدريد من أن المفاوضات تنقسم إلى قسمين: ثنائي ويتعلق بالدول التي لها أراض محتلة، فلسطين، لبنان وسوريا، ومتعدد ويشمل جميع دول الإقليم التي تتشارك فيما بينها بمجموعة من العناوين كالمياه واللاجئين والتسلح والبيئة وغير ذلك.. وكان المنطق يفترض أن المسار المتعدد يبقى رهينة التقدم في المفاوضات الثنائية، لكن الذي حصل أن الإدارة الأمريكية مهدت الطريق لعملية التسوية بالضغط على جميع الوفود الإقليمية للقبول بالنظام الإقليمي الجديد الذي يجب أن يكون لإسرائيل دور أساسي فيه، وان الأولوية ستكون، وهنا كانت الخطورة، للترتيبات الإقليمية ولأي مسار ثنائي يحرز تقدماً ملموساً، والمسارات التي تتخلف وتفشل في الوصول الى اتفاق مع إسرائيل يتواصل الضغط عليها حتى تنصاع للشروط الأمريكية الإسرائيلية..
كان واضحا أن الولايات المتحدة وإسرائيل تسعيان إلى الاستفراد بالطرف الفلسطيني والأطراف العربية كل على حدا، وهذا ما كان سببا لأن تكون دعوة ترابط مسارات الحل العربي الثلاثة الفلسطينية، السورية واللبنانية، بل تلازمها، حاضرة في أكثر من بيان للقمم العربية التي كانت تستشعر خطورة الإصرار الأمريكي على تحقيق نتائج إيجابية في المسار المتعدد الأطراف (وفي مقدمته التطبيع) بمعزل عن التقدم المحقق في المسار الثنائي.
ظل الموقف العربي صامدا على موقفه بترابط مسارات الحل العربي إلى أن نجحت الضغوط الأمريكية بالاستفراد بالطرف الفلسطيني، الذي بتوقيعه على اتفاق اوسلو يكون قد مهد الطريق لتسارع عمليات التطبيع بين إسرائيل وبعض الدول العربية التي وجدت بتوقع الاتفاق فرصة للتحلل من التزاماتها القومية تجاه القضية الفلسطينية، فسارعت إلى فتح أبوابها لزيارات رسمية لوفود إسرائيلية على مختلف المستويات، والتي أخذت بالاتساع شيئا فشيئا إلى ان اصبح التطبيع امرأ عاديا تم ترجمته بمجموعة من العناوين ومنها: عقد بعض اجتماعات لجان العمل في المفاوضات المتعددة الأطراف في عدد من العواصم العربية (تونس، القاهرة، قطر، عمان والمغرب)، وإقامة مكاتب اتصال إسرائيلية في بعض الدول العربية ورفع دول مجلس التعاون الخليجي المقاطعة غير المباشرة لإسرائيل من الدرجتين الثانية والثالثة. إضافة إلى عشرات اللقاءات الثنائية خلال المشاركة في قمم ومؤتمرات دولية أو حتى لقاءات غير رسمية تحت ذريعة مناقشة قضايا ثنائية طارئة..
كان الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي نتيجة مسار طويل من هذه الاتصالات وهو إحدى ثمار الثقافة الجديدة التي دخلت المنطقة العربية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في اواخر الثمانيات، وما مثله هذا السقوط من تراجع هام لدور وفعل حركات التحرر العربية والعالمية، الذي جعل الولايات المتحدة أكثر تحررا في طرح أفكارها خاصة تلك التي تتعلق بموقع إسرائيل في المنطقة. ويعود منشأ هذه الطروحات إلى سياسيين أمريكيين وإسرائيليين والتي تتلخص بأن قبول إسرائيل عضوا أساسيا في المنطقة العربية والإسلامية لا يمكن أن يحدث إلا في حال النجاح بإقناع العرب بخطر آخر يضاهي الخطر الإسرائيلي، فتم اختراع “الخطر الفارسي” من مدخل الصراع الطائفي والمذهبي في المنطقة، والأدبيات الإسرائيلية للعديد من الزعماء والكتاب تحفل بمثل هذه الدعوات..
هذا الاتفاق هو أكبر من عملية تطبيع كانت تسير على قدم وساق بين البلدين، سواء على مستوى الزيارات الرسمية أو على مستوى اللقاءات السرية والعلنية، والحديث انه تطبيع من شأنه أن يخفف من هول الجريمة التي ترتكب.. انه اتفاق ثنائي شامل يطال كل أوجه الحياة السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية، بمعنى اتفاق لجعل ارض وبحر وسماء الامارت والخليج واحة للإسرائيليين وجسرا للعبور منه نحو العالمين العربي والإسلامي.. وما نحن أمامه تحالف سياسي بكل ما للكلمة من معنى، وقد يتطور إلى ما هو ابعد من ذلك، في مواجهة خطر اخترعته الولايات المتحدة وإسرائيل اللتان نجحتا في تقديمه إلى الرأي العام باعتباره خطراً يتقدم على خطر حقيقي وقائم بشكل جدي هو الخطر الإسرائيلي ليس على الحقوق الفلسطينية فقط بل وعلى مصالح الشعوب العربية وحقها في أرضها وثرواتها..
إنه ترجمة دقيقة للسياسة الأمريكية في عهد ترامب، الذي انقلب على اتفاق اوسلو بجميع تفاصيله.. هذا الاتفاق افترض انه يمكن الاستفراد بالفلسطيني وتوقيع اتفاق معه أولا، وهذا من شأنه أن يسحب البساط والذرائع من يد بعض العرب الذين لن يجدوا سببا لعدم توقيع اتفاق مع إسرائيل طالما أن الفلسطيني قد وقع.. وقد انطلى هذا التكتيك على الكثير من الأنظمة الرسمية العربية التي عملت منذ اتفاق اوسلو وما قبل ذلك تحت مقولتين شهيرتين: لا نريد أن نكون ملكيين أكثر من الملك، ونقبل بما يقبل به الفلسطينيون.. وهذا ما حصل عندما تم فك ما سمي مسارات الحل العربي، وذهب الفلسطيني وحيدا في مفاوضات ماراثونية كان من نتيجتها توقيع اتفاقي اوسلو ووادي عربة، وتوقف المساران السوري واللبناني عند النقطة التي وصلا اليها..
في عهد ترامب تغيرت صورة وشكل هذا التكتيك، ونتذكر تصريحات غاريد كوشنير عندما قال: “سنمضي بصفقة القرن سواء رضي الفلسطيني أم لم يرض”، اعتمد الأمريكيون استراتيجية عكسية: نبدأ بالإقليمي الذي قد يشكل بعضا من الدعم للفلسطيني ونهيئ الأرضية في الإقليم لنوسع قاعدة الضغط على الفلسطيني ونخرج القضية الفلسطينية من عمقها العربي، وهذا ما حصل حين تم العمل على بث ثقافة جديدة تعتبر أن هناك خطرا جديدا يهدد الشعوب العربية إلى جانب إسرائيل هو الخطر الإيراني، وشيئا فشيئا أصبح الإيراني هو عدو العرب وافتعلت معه الصراعات والحروب في سوريا والعراق وفي اليمن ولبنان، فيما أصبحت إسرائيل صديقة في محور عربي ضد ايران..
كان تتويج هذا المسار في ورشة المنامة الاقتصادية التي انعقدت في البحرين في يونيو 2019م، والتي كانت الجانب الاقتصادي من صفقة القرن، لكنها لم تخرج بأي اختراقات ذات شأن في الموضوع الاقتصادي، والإنجاز الوحيد الذي تحقق هو اختراق في مجال التطبيع.. لذلك فإن خطوة الإمارات العربية المتحدة هي جزء أصيل من صفقة القرن الأمريكية الإسرائيلية، لأن هذه الصفقة تعمل وفق مسارين عربي وفلسطيني.. فلسطينيا تصفية القضية الفلسطينية بجميع عناوينها، وعربيا فتح الأبواب العربية وجعلها مشرعة أمام إسرائيل.. ومثل هذه الأمور لا تحدث بين ليلة وضحاها، بل هي نتاج مسار طويل من العلاقات السرية والعلنية بين الإمارات وإسرائيل لن يغيِّر تفاصيلها كلام المسؤولين الإماراتيين عن استمرار دعمهم للقضية الفلسطينية..
هنا نعود إلى مقولة نقبل بما يقبل به الفلسطيني، لكن عندما يجمع الشعب الفلسطيني بجميع تياراته السياسية والاجتماعية والفكرية على رفض صفقة القرن وجميع عناوينها، بما فيها التطبيع، فأي تبرير يمكن أن يقدم من أصحاب التطبيع في ظل غياب التغطية السياسية والشعبية الفلسطينية.. بل ان الكلام عن وقف خطة الضم مقابل الاتفاق ليس سوى أكاذيب أكدها رئيس وزراء العدو نفسه بأنه لم يقدم أي تنازل لجهة وقف أو تأجيل هذه الخطة.
إن هذا الاتفاق هو تحالف قائم على رؤية مشتركة أشارت اليها بعض عناوين الاتفاق في شتى مجالات التعاون.. وهو يشكل احد نماذج الانقلاب الفعلي على الصيغة التي استندت عليها عملية التسوية (1991م).. لا بل اعتراف بالرواية الصهيونية بشأن فلسطين والصراع العربي والفلسطيني الإسرائيلي:
– فهل تراجع النظام الرسمي العربي عن مواقفه بشأن ما قالته إسرائيل خلال اكثر من قرن بأنها “حمل وديع مستهدفه من (اوباش العرب) لا لشيء سوى لأنها دولة اليهود المكروهين والمنبوذين من أمم العالم ولا يريدون سوى العيش بسلام فوق ارض لا شعب لها..؟
– وهل وافق هذا النظام العربي على مقولة “أن فلسطين، قبل أن يسكنها اليهود، كانت صحراء قاحلة لا شعب فيها” على أرضية نظرية “ارض بلا شعب لشعب بلا ارض”؟
– وهل رضي هؤلاء الحكام بأن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء، وان الحل الوحيد لقضية اللاجئين الفلسطينيين هو أن يتم استيعابهم في الدول العربية، كما استوعبت إسرائيل المهاجرين العرب الذين هي من هجرتهم من بلادهم العربية؟
– هل أصبحت رواية إسرائيل هي الحقيقة الوحيدة، وهي الرواية التي لا يصدقها الإسرائيليون انفسهم بأن جرائمهم التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني والشعوب العربية كانت عبارة عن دفاع مشروع عن النفس؟
لكل ذلك نقول:
إن القضية الفلسطينية ليست ورقة للمقايضة بين هذه الدولة وتلك، وتخطئ الدول العربية إن هي اعتقدت أن رضوخها للإملاءات الأمريكية والإسرائيلية سيبعدها عن دائرة الضغوط والتدخلات الأمريكية وسيجنبها تداعيات السياسة الأمريكية في المنطقة. بل أن استهداف الشعوب العربية بأرضها وسيادتها وخيراتها وبحقها في اختيار مستقبلها السياسي والاقتصادي، سيبقى ركنا أساسيا من أركان السياسة الأمريكية الإسرائيلية في اطار سعيهما لبناء نظام إقليمي جديد لإسرائيل اليد الطولى فيه باعتبارها “دولة صديقة”.
إذا كان بعض المطبعين ما زالوا يرفعون راية اتفاق اوسلو كتبربر لمسارهم التطبيعي، فإن الرد الفلسطيني المباشر يجب أن يكون بسحب هذه الذريعة بشكل فوري وذلك من الإعلان عن إلغاء اتفاق اوسلو ووقف العمل بجميع تفاصيله، وما يعطي هذا الرد شرعية وأهمية هو انه مزكّى من المجلس الوطني الفلسطيني ومن اللجنة التنفيذية ومن جميع الفصائل الفلسطينية التي تنادي بالغاء اوسلو وتفاصيله المذلة..
يبدو أننا أمام مشهد جديد من مسلسل أمريكي سيتبعه العديد من المشاهد، لكن حتما لن يكون التطبيع آخر حلقاته، ورموز النظام الرسمي العربي الذين ساهموا في العديد من مشاهد وحلقات هذا المسلسل دقت الساعة كي يرحلوا بعد أن اقتربت ساعة ظهور البطل الفعلي لهذا العمل الذي أبطاله عشرات الآلاف من الشهداء الذين وحدهم امتلكوا ناصية الحقيقة التاريخية، وهم من سيصنعون النهاية الجميلة لمسلسل ينتظره الملايين من أبناء هذا الشعب الفلسطيني العظيم وهذه الأمة التي وإن ضعفت عزيمتها أحيانا إلا أنها ستبقى حية ننتظر نهوضها الحتمي..

قد يعجبك ايضا