الحلقة (2 - 2)

شذرات من فكر السيد الشهيد حسين بن بدرالدين الحوثي

مضت سنوات على استشهاد قايد المسيرة القرآنية السيد الشهيد بن بدرالدين الحوثي سلام الله عليه غير أنني لم أر كتابا يدرس فكر السيد الشهيد ويتناول القضايا والمسائل التي أثارها في محاضراته، ومن المعروف أن السيد الشهيد ألقى محاضراته إلقاء (مشافهة) لا كتابة ، وأسلوب المحاضرة غير أسلوب الكتابة التي يعمد فيها الكاتب إلى أسلوب معتنى به من حيث ترتيب الألفاظ واستكمال العبارات وترتيب الأفكار ..
وكنت أرغب أن أدرس فكر السيد الشهيد أو أن يدرسه غيري دراسة تنهج منهاجاً من منهاجين :
أحدهما : أن يلم الدارس بالموضوع المراد من أشتاته ثم يستوعبه فهما ثم يذكر ملخص الموضوع مع ما يضيفه من فكره مبيناً لما قد يكون تبيانه مكملاً للموضوع الذي يعالجه .
ثانيهما: أن يأتي بالموضوع المراد بعد أن يجمع أشتاته وأن يحافظ على حكاية ألفاظ السيد الشهيد ما أمكنه وربما قدم في بعضها وأخَّر وربما زاد لفظة توضح المعنى وتكشفه ولا تغيره وربما نقَّص من ألفاظ السيد الشهيد ما يستغنى عن ذكره[1] …كل ذلك مختصرا من غير تكرار ، وهو في هذا المنهاج سيحتاج إلى أن يضيف ما يكمل الموضوع تبيانا له .
ولا بأس في نظرنا أن يوازن بين رأي السيد الشهيد في تلك الموضوعات وما جاء عن تلك الموضوعات نفسها لدى أهل البيت عليهم السلام خاصة القدماء منهم ليتبين للقارئ أن هذا الرجل سلام الله عليه إنما سار على ما سار عليه أجداده عليهم السلام وأنه لم يأت بشيء جديد بل من الجديد كان يشكو وأن آراءه التي لم ترد عند الأقدمين إنما رجع فيها إلى القرآن الكريم يقول: ” عندما أحدثكم لا آتي بجديد من كتاب الله سبحانه وتعالى الذي عرفه من هو أكبر مني سناً من الحاضرين ومن غيرهم، ومن أقوال أئمة أهل البيت صلوات الله عليهم ومنهج أهل البيت كالإمام الهادي وغيره من قدماء العترة عليهم السلام، إنما نشكو من الجديد الذي هو دخيل على أهل البيت وعلى الزيدية” [2]، كل ذلك بإيجاز لا يخرج القارئ عن المقصد الأساس وهو معرفة فكر السيد الشهيد حسين بن بدر الدين الحوثي .
ذلك هو المنهاج الذي أرغب فيه لمن يريد دراسة فكر السيد الشهيد وهو ما كنت ارغب فيه بيد أنني تراجعت عن ذلك غير مرة حين كان ينمى إلي أن بعض الإخوة كانوا يعدون كتبا عن فكر السيد الشهيد – ومنهم من كان قريبا من السيد الشهيد – ، ورأيت أن ما سوف يكتبونه سيكون أوفى بالمراد من حيث إحاطتهم بأجواء المحاضرات ومعرفتهم بمقاصد السيد الشهيد .
ثم جاءت كتابات أولئك الإخوة فوجدتها قد غلب عليها الاقتباس دون الدراسة والتكرار وعدم الترتيب باستثناء دراسة عامة لعبدالملك العجري : “جماعة أنصار الله .. الخطاب والحركة، دراسة سوسيوثقافية”[3]، وهي دراسة جيدة سلك فيها مسلك المدارس النقدية الحديثة في قراءة النص فجاءت على غير ما يعتاده الفقهاء.
ومع هذا فإننا يمكن أن نعد تلك الكتابات الاقتباسية -غير دراسة العجري- خطوة أولى، تليها – فيما نأمل – خطوة تالية تتناول فكره – سلام الله عليه – بالدراسة والتحليل بعد هضم محاضراته والإحاطة بها .
على كل حال ..ما زلت أؤمل أن أرى من يأخذ على عاتقه مهمة القيام بتلك الدراسة .
لا يفوتني هنا أن أذكر أن الأخ محمد بن محمد الدار كان قد أخبرني أنه قد كتب كتابا يتناول الموضوعات التي أثارها السيد الشهيد وأنه قد وصل فيه إلى اللمسات الأخيرة وأنه سيصدر في غضون شهرين أو ثلاثة .. وها قد مضى ما يزيد عن السنة وما زلت أنتظر .
وإلى أن تصدر تلك الدراسة فقد رأيت أن أنشر هذه المحاولة اليسيرة التي عرضت فيها بعضا من آراء رائد المسيرة القرآنية وإن لم ألتزم فيها بالطريقة التي رغبت في أن تكون عليها دراسة من يدرس فكر السيد الشهيد وهي ورقات كنت قد كتبتها في أوقات متفرقة ورجعت فيها لبعض محاضرات السيد الشهيد ولكتاب الأخ الأستاذ يحيى قاسم أبو عواضة : ( صفحات مشرقة من حياة الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي ) ولكتاب الأخ الأستاذ محمد محمد يحيى الدار : ( القبسات : مقاطع قصيرة من كلام السيد الشهيد بدر الدين الحوثي ) وهو غير الكتاب المعد لدراسة فكر السيد الشهيد .
إهداء لـ «عبدالله هاشم السياني و يحيى قاسم أبوعواضه»
بقلم: عُباد بن علي الهَيّال

ونظر السيد الشهيد إلى بني إسرائيل من منظار القرآن الكريم فشخص مشكلتهم:
لقد ورد ذكر بني إسرائيل في القرآن الكريم على نحو واسع، فذكر ما أنعم الله به عليهم من نعم، وذكر من برز منهم من هداة كانوا على مستوى عال، وأتباع كانوا على درجة عالية من الالتزام والمعرفة والحكمة والرؤية..ثم وقعوا في الخطأ:
خطأ عملي: بمخالفاتهم وتعديهم وعصيانهم ونقض الميثاق بعد تكرار النهي لهم.
وخطأ ثقافي: تمثل في ثقافتهم الانزوائية التي جعلتهم ينزوون على أنفسهم ويمجدون أنفسهم، حين رأوا أن الدين يخصهم وحدهم حين ظنوا أن النبوات لم تكن إلا لهم وحدهم ولا يمكن لأمة غيرهم أن تعطَى فضلاً من الله ورحمة وأنهم الفئة الوحيدة التي لا يصلح الدين إلا بها وترسخت عندهم عقيدة ترى أن الله عليه أن يسير وفق ما يريدون وأن ينفذ ما يخططون له،
لقد وصل بنو إسرائيل إلى حالة نفسية سيئة فخبثت نفوسهم ونظروا نظرة سيئة لباقي البشر بل نظروا نظرة سيئة لله جل شأنه.

من وسائل أهل الكتاب في مواجهة المسلمين:
رجع السيد الشهيد إلى آيات القرآن الكريم التي تحدثت عن أهل الكتاب:
– ﴿وَدَّ كَثيرٌ مِن أَهلِ الكِتابِ لَو يَرُدّونَكُم مِن بَعدِ إيمانِكُم كُفّارًا﴾.. هذا الود تحته – من الناحية العملية أساليب كثيرة جدا لرد الناس كفارا منها الاحتلال.
– “ يسعون في الأرض فسادا “ (الإرهاب، الجريمة، الفساد الأخلاقي، الاجتماعي، الثقافي)
– يبغون سبيل الله عوجا.
– يلبسون الحق بالباطل.
– اشتروا به ثمنا قليلا.
– يحرفون الكلم عن مواضعه
– يريدون أن تضلوا السبيل، يريد بنو إسرائيل أن يضل المسلمون السبيل، بل أن يصل المسلمون إلى ما وصل إليه بنو إسرائيل: أن يشتروا الضلالة (والإعلام والأفلام تقوم بذلك ).
– ورأى السيد الشهيد أن مشكلة المسلمين: أنهم يتولون زعامات تتولى اليهود والنصارى وأن المسلمين متأثرون ببني إسرائيل: فهم يتثقفون بثقافتهم ويتخلقون بأخلاقهم ويسلكون مسلكهم..ومادام المسلمون كذلك..فإنهم أجدر من بني إسرائيل بأن يضربهم الله بأعظم مما ضرب بني إسرائيل أنفسهم.

الحل:
– أكد السيد الشهيد أنه لا يمكن أن يحدثنا الله سبحانه عن خطورة اليهود البالغة ثم لا يكون في كتابه العزيز قد هدى الأمة إلى ما يمكن أن يؤهلها لأن تكون بمستوى مواجهة اليهود والقضاء على مخططاتهم وإحباط مؤامراتهم، إن عدل الله ورحمته وحكمته قد هدت إلى ذلك حقا.
ومن ثم..فعلى الناس أن يبنوا أنفسهم على أساس معرفتهم ببني إسرائيل كما وردت في القرآن الكريم، وقد ذكر القرآن الكريم الحل في مواجهة أهل الكتاب ضمن حديثه عنهم، فقدم القرآن أموراً كثيرة مما يتصف بها بنو إسرائيل مما حرفوها أو أخفوها..وجدناه يظهرها ويبينها ويفضح بها بني إسرائيل..
إن في تشخيص القرآن لنفسية اليهود ورؤاهم قيمة كبيرة في مواجهتهم:
من مثل قوله تعالى: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء)!! فإنهم بتلك النفسية المتمحلة التي تبحث عن المستحيلات تجعلك تقطع الأمل في أن يكتفوا منك بشيء معين وتجعلك أبعد عن الثقة بهم، ومثل قوله تعالى: “… حسدا من عند أنفسهم”: هذا النص يهبنا موقفاً ثابتاً يقوم على رؤية: أنهم يحملون لنا نحن المسلمين نفوسا عدائية حاقدة لأن اليهود يعرفون – من تاريخهم – قيمة الحق وأنه يبني أمة تكون على أرقى مستوى..لذا فإنهم صاروا حاسدين، ومثل:( وألقينا بينهم العداوة والبغضاء )، فهذه نقطة ضعف كبيرة فيهم، وحذر المسلمين من تولي اليهود والنصارى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) وألا سبيل إلى النصر ما داموا يتولونهم وأن المسلمين عليهم أن ينقطعوا إلى الله ورسوله..أن يتولوا الله ورسوله والذين آمنوا.
وفي استقراء السيد الشهيد لسيرة الرسول (صلى الله عليه وآله) ذكر أن رسول الله لم يضرب اليهود إلا بعدما كانت تتضح له خيانتهم ومؤامراتهم ووجد السيد الشهيد أن ضرب الرسول لليهود كان على هامش حركته في بناء الأمة ومواجهة العدو الآخر من غير اليهود مما نفهم منه سهولة القضاء على الخطر اليهودي متى ما عرفنا التعامل معه.
– ووهب الله المسلمين أملا في مواجهتهم لليهود والنصارى لأن اليهود والنصارى بمحاولتهم إضلال الناس إنما يضلون أنفسهم ومن سنن الله: أن السائرين في الضلال ينتهون الى الضلال (الضياع)
و هكذا تجتمع عوامل ثلاثة في مواجهة اليهود والنصارى: المسلم من جانب والله – سبحانه – من جانب، وهم بضلالهم من جانب ومن ثم يصل بهم الحال الى الضياع وهذه سنة من سنن الله.
– وسنة أخرى في مواجهة اليهود: كتاب الله ورسوله (كتاب وعَلَم)، وفي غياب العَلَم يأتي ورثة الكتاب..
– إن السلام في رؤية السيد الشهيد وطبقا للقرآن يكون ببناء أمة لها روح جهادية.

وثمة مسألتان تتعلقان بما سبق:
– الأولى: ينبه السيد الشهيد أنه – عند الحديث عن بني إسرائيل – علينا ألا يصل بنا الحال إلى أن نعتقد أن بني إسرائيل من حيث الجنس (أو العنصر) هم جنس خبيث، فهذا لا يصح على الإطلاق.
– الثانية:[18] فيما يتعلق بوجود اليهود (أهل الكتاب) في المجتمع المسلم فإن السيد الشهيد ينتقد الفقهاء الذين تعاملوا مع قضية “ أهل الذِّمة “ (وهو يسميهم المعاهَدين)، وكأنها قضية ثابتة وقابلة للبقاء أي بقاءهم على ما هم عليه إلى مالا نهاية.
فيرى السيد الشهيد أن الإسلام لم يقر اليهود (أهل الكتاب) على ما هم عليه، وكيف يقرهم والقرآن يقول في آيات عديدة أن عليهم أن يؤمنوا وأن يتبعوا القرآن والنبي محمداً صلى الله عليه وآله حتى لو كانت كتبهم ما زالت صحيحة لكانوا ملزمين أن يؤمنوا بمحمد وبرسالته وباتباعه، فكيف والحال أن ما لديهم هو أهواء وتحريفات وضلال.
إذاً فالإسلام لم يقرهم على ما هم عليه وإنما ذلك يدخل ضمن مظاهر رحمة الله بعباده.
إن موقف الإسلام منهم هو أمر من أمرين:
1 – أن يكون وجودهم في الأمة المسلمة ضمن عهود مع استمرار الدعوة لهم الى الإسلام ومع الزمن يذوبون في المجتمع المسلم ويسلموا.
2 – أو سيأتي من لدن اليهود (أهل الكتاب) أمور تجعلهم لا يلتزمون بالمواثيق فيؤدي ذلك إلى أن يضربوا.
إن فقه أهل الكتاب هو في القرآن لا في كتب الفقه التي قدمت مسألة أهل الكتاب وكأنها مستمرة وثابتة على طول التاريخ، ونسوا أن أهل الكتاب معاهدين أي داخلين في عهد عليه شروط، لا يَدْعون إلى ما هم عليه ولا يبنون كنائس غير ما لهم من قبل ولا يفعلون أي شيء يخل بالقيم الإسلامية في المجتمع وفي الوقت نفسه لا يُظلَمون ولا تؤخَذ حقوقهم.

يوم القدس العالمي:
استعرض السيد الشهيد في محاضرته أموراً يمكن أن نوجزها في نقاط:
– طبيعة الصراع بين المسلمين وإسرائيل:
* القرآن الكريم يؤكد أن الخصومة والمواجهة الحقيقية ستكون بين المسلمين وأهل الكتاب على امتداد التاريخ، وما شهدنا من تاريخ كان دليلا على ذلك.
* الصراع مع إسرائيل ليس صراعاً إسلامياً – إسرائيلياً بل صراع مسلمين بغير إسلام مع إسرائيل..مع اليهود
* الصراع مع إسرائيل لا يخص الفلسطينيين وحدهم بل المسلمين جميعا.
* اليهود في التصوير القرآني حين يتحدث عن جانب الشر فيهم هم قوم أولو ذكاء ودهاء ومكر وتصميم..قوم بالغو الخطورة..والتاريخ يشهد بهذا.
* عندما يكون لليهود سلطة لا يمكن أن يعطوا الآخرين منها ما يعادل نقيرا.
* ليس من الممكن المصالحة مع إسرائيل ولا السلام معها، ولا يمكن إبرام العهود والمواثيق معها.
* استطاع الرسول أن يقضي على اليهود وأن يحبط مؤامراتهم على هامش جهاده للكافرين وعلى هامش حركته العامة ولم يتجه لليهود اتجاها محددا رأسا.

أساليب اليهود في إضعاف المسلمين:
* لبس الحق بالباطل داخل المسلمين كخلق قدوات مزيفة للمسلمين وترميز من لا يشكل خطرا عليهم وتزييف الثقافة والفكر والإعلام
– أسباب ضعف المسلمين في مواجهة إسرائيل:
* ابتعاد المسلمين عن القرآن.
* لم يعرف المسلمون الله المعرفة الكافية، ولم يثقوا به سبحانه، ولم يعرفوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) المعرفة المطلوبة، ولم يثقوا به.
* ابتعاد المسلمين عن قرناء القرآن.
لذا.. انطلق المسلمون إلى ساحة الصراع مجردين من سلاحهم الحقيقي..من هديهم..من قادتهم فظلوا يدورون في حلقة مفرغة، يتلقون الضربات مستسلمين مستذلين حتى صاروا تحت اقدام اليهود والنصارى.

وسائل المواجهة:
* معرفة كتاب الله المعرفة المطلوبة والتدبر لآياته.
* ذكر الله الكثير عن أهل الكتاب وداخل الحديث عنهم ذكر الله الحل في مواجهتهم فحذر المسلمين من تولي اليهود والنصارى وأن يتولى المسلمون الله ورسوله والذين آمنوا.
* الثقة بالله ورسوله.
* المعرفة الصحيحة لسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله)
* لن يهزم اليهود إلا تحت قيادة أهل بيت رسول الله (صلوات الله عليه وآله)..تحت قيادة
من ينهجون نهج علي..من يوالون عليا (عليه السلام).

12 – أصول الفقه:
– يرى السيد الشهيد أن فن (أصول الفقه) من أسوأ الفنون التي ضربت المسلمين وأبعدتهم عن كتاب الله ودينه وعن النظرة الصحيحة للدين والحياة[19].
– رأى السيد الشهيد أن أصول الفقه فن يضرب القرآن ضربة شديدة بل يضرب فطرة الإنسان ويضرب توجهه نحو القرآن لأنه يضع مقاييس غير صحيحة تدخل بها الى القرآن والقرآن بشكل آخر، فيضع عوائق أمام فهم المسلمين للقرآن واهتدائهم به، ولهذا لم يعمل القرآن عمله في حياة المسلمين.
– القرآن الكريم يخاطب الأمة من خلال الفرد وعليه أن يتحرك بحركة الأمة وأن يؤهل نفسه والآخرين ليكونوا صرحا شامخا بأمة لأن الإسلام دين للأمة الواحدة تسير على نهج واحد، أما أصول الفقه فإنه يوجه الخطاب الذي هو في القرآن خطاب جماعي للأمة توجهه إلى الفرد بمعزل عن الأمة وجعلته يتحرك ويستنبط ويشرع هو من عند نفسه وبناء على استنباطه الفردي يرى كل الأشياء مسائل ظنية وهو – وفق أصول الفقه – ملزم أن يتعبد بما غلب ظنه، والحاصل من هذا هو الجهل.
وأيضا فإن هذه النظرة الفردية التي رسخها (أصول الفقه) لمسائل الدين جعلت المسلم يتخلى عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويقعد عن جهاد أعداء الأمة حين علقوا هذا المبدأ بامتلاك القدرة ومظنة التأثير وإلا فليس عليه شيء[20].
– ولما كانت وظيفة أصول الفقه هي استنباط الأحكام الشرعية فقد كان قصارى جهد طلبة العلم البحث في الخمس مية آية من القرآن هي التي تستنبط منها الأحكام الشرعية فجاءنا فقه قاصر لا يستوعب الحياة كلها ولا يواكبها وهكذا – فقد أهمل بقية القرآن الكريم مع أن فيه دروساً وعبراً تتعلق بواقع الإنسان، بتربيته وبتهذيب نفسه وبوضع رؤية صحيحة له إلى الحياة وإلى الثقة بالله وقدرته – سبحانه- وإرادته النافذة التي تجعل كل مجالات الحياة لا يمكن أن تقفل أمام من يسيرون على هديه بثقته بالله تعالى، إن فقه الهدى وأوسع من أصول الفقه ونظرة القرآن للتشريع أوسع من تفريعات وجزئيات أصول الفقه.
– إن المسلم يسعى إلى نيل رضوان الله من خلال الأعمال سواء أكانت واجبة أم مستحبة ومندوبة أما قواعد أصول الفقه فهي تربي المسلم على الطمع في الحد الأدنى من رضوان الله، فترى المسلم يترك كثيراً من الأعمال المصنفة عند الفقهاء في قائمة المندوبات والمستحبات (بحجة أنها ليست واجبة) ومن هذه الأعمال: (الإنفاق في سبيل الله) نصراً لدين الله وإعزازاً لكلمته، فهذا (الإنفاق) يأتي في كثر من آيات القرآن الكريم مقترناً بأفضل الأعمال وبأفضل الحالات وتعكس الآيات المشاعر الطيبة والإيمان المتكامل عند المنفقين، وهذا الإنفاق في سبيل الدين – الذي جعله الفقهاء من باب المستحب لا الواجب – قد يصبح من أوجب الواجبات بل أوجب من الزكاة[21].
– إن من يقضي سنوات طويلة يقرأ (أصول الفقه) لن يصمد أمام إشكالات تطرح عليه في ليلة واحدة ممن ينطلق انطلاقة قرآنية[22].
– أقول: رأى لطف الله جحاف (المتوفى 1243 هـ) أن: “مسائل أصول الفقه..أكثرها تستند إلى الوهم والخيال، وأنه لم يؤثر عن الصحابة في ذلك حرف واحد… وقال: وقد حققت فرطات العلماء في كتابي المسمى (فنون الجنون في جنون الفنون واستقصيت على الأوائل مسألة مسألة) “[23].

الاجتهاد:
– يرى السيد الشهيد أن مسألة (الاجتهاد) ليست مفتوحة كما يقولون.
– (حرية الاجتهاد) تخلق آراء وأفكارا متباينة، وفرقا متعددة، ومن ثم تؤدي إلى تمزق الأمة وتشتت آرائها، وهذا القول (حرية الاجتهاد) لا يستوي هو وقول الله تعالى: “واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا “، الذي يؤدي إلى بناء أمة قوية[24].
– إن سنة الله في الهداية هي: “ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده “، فالله يأمر رسوله محمداً صلى الله عليه وآله أن يسيرعلى طريقة الأنبياء قبله مع أن النبي محمداً يوحَى إليه مباشرة بواسطة ملَك من ملائكة الله، أما أصحاب (الاجتهاد) فإن الواحد منهم لا يسير وراء أحد، ولا يتبع غير نفسه وما طلع في رأسه.
– ثم يقولون:(كل مجتهد مصيب)، فما وصل إليه اجتهاده يجب على الله أن يقله، وقالوا: (إن مراد الله تابع لمراد المجتهد)، فعلى الله سبحانه أن يقبل ما أدت إليه أنظار “ المجتهدين “ !!
– إن منطقا كهذا يؤدي إلى الفرقة وتشتت الآراء فلا يبقى دين ولا وحدة في وقت يكون فيه الناس بحاجة إلى موقف واحد ورأي واحد وكلمة واحدة.
– إن الاجتهاد يخالف سنة الله (الاتباع) التي أمر الله بها نبيه وأمر نبيه بها أصحابه: “ إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً: كتاب الله وعترتي “ (راجع: ثقافة الاتباع)، فكيف نجوّز لأنفسنا مالم يجّزه الله لنبيه ومالم يجّزه النبي للناس في عصره ؟
– ألزم الله نبيه محمداً أن يتبع طريقة الأنبياء قبله وصاحب “ الاجتهاد “ لا يريد أن يكون بينه وبين الله أحد فهو فوق محمد بن عبدالله بل الله هو الذي يتبع المجتهد (مراد الله تابع لمراد المجتهد) ! هكذا بلغ بهؤلاء المنطق إلى هذه الدرجة السخيفة !. (الإسلام وثقافة الاتباع، ص 15 )
– رد الإمام علي بن أبي طالب على [أصحاب الاجتهاد ] في وقته حين حصل خلاف في الفتيا فقال: “ أم كان لهم أن يشرعوا وعلى الله أن يرضى “ (نهج البلاغة)[25].
– إن في قواعد (أصول الفقه) ضلالات كقولهم:
(إن مراد الله تابع لمراد المجتهد )
( كل مجتهد مصيب )
– إن من قواعد (أصول الفقه) ما يخالف القرآن الكريم، فالقرآن يأمر النبي بالاتباع: “ اتبع ما أوحي إليك من ربك “، وقواعد (أصول الفقه) تقول: “ مراد الله تابع لمراد المجتهد “، هكذا استكبارا على الله !!.
– إن “ أصحاب الاجتهاد “ يشتغلون بمسائل قد “ دبغت “ من قبل كتلك المسائل السهلة: فروض الوضوء ونواقضه وقضايا الحيض والنفاس وغيرها، وتركوا الاشتغال بمسائل أكبر وأوسع منها قوله تعالى: “ كونوا أنصار الله “ وقوله: “ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله “، وغيرهما من المسائل التي تهم الأمة من قضايا الإسلام.

النسخ:
– النسخ في القرآن قليل جدا، وأكثر الآيات القرآنية التي قُدِّمت على أنها منسوخة إنما كان من “ اجتهادات “ الـ “ مجتهدين “، فضربوا – بعملهم هذا – آيات قرآنية مهمة.
قال أولئك الـ “ مجتهدون “ بنسخ أكثر الآيات ومنها ما تحمل قضايا كبيرة كآيات الإنفاق في سبيل الله فقد جعلوها منسوخة بآية الزكاة وهنا تكمن الخطورة؛ لأن الإنفاق في سبيل الله قضية أساسية للعمل لإعلاء كلمة الله وهي عمود الجهاد في سبيل الله.
– ذكر السيد الشهيد أن الإمام القاسم بن إبراهيم ينفى أن يكون في القرآن نسخ لأن معنى كلمة (نَسْخ) في اللغة العربية أي إزالة الشيء تماماً أونَقْل صورته: نسخ ورقة، ونسخ كتاباً أي نقل صورته إلى أوراق أخرى..كما هي في استعمالنا اليوم ومن ثم فلا نسخ في القرآن.
( قلت: يحسن بنا أن نوضح المراد هنا بنقل شيء من كلام الإمام القاسم، يقول عليه السلام:
“ ونسخ الآية – هداكم الله – وتبديلها، فقد يكون تصريفها بالإيضاح والتبيين وتنقيلها، لتبين في عينها بإيضاحها وتبيينها، لا نسخ بقصر ولا وهم ولا اختلاف، ولا تبديل بدا ولا تعقب ولا اعتساف (…..) فالنسخ للآية والإبدال ليس هو الإفناء للآية والإبطال ؛ لأن الآية لو أفنيت وأبطلت إذا نسخت وبدلت لما قيل: بدلت ونسخت، ولقيل أبطلت الآية وأفنيت، وأبدلت آية أخرى وأنشئت….)[26].
والحاصل في هذه المسألة:أن الإمام القاسم يقول بوجود النسخ لكن ليس بمعنى (الإفناء والإعدام) ويوافقه السيد الشهيد في ذلك،ويرى أن النسخ في القرآن قليل جدا كما هو مذكور آنفا ويرى السيد الشهيد أن النسخ قد يكون في جانب تشريعي لأمة من الأمم ضمن التشريع الإلهي في المسيرة الواحدة الطويلة للأمم والتشريع جانب من الدين والهدي وليس كله.

المحكم والمتشابه:
ذكر السيد الشهيد أن الأقوال قد تعددت في موضوع المحكم والمتشابه في القرآن، وأنه لا يوجد قول يطمئن إليه في تفسير حقيقي لمعنى “ محكم ومتشابه” خاصة المتشابه.
ويرى السيد الشهيد أن التشابه يعني التماثل وأن التشابه (التماثل) لا يكون في الشيء الواحد (الآية الواحدة) بل بين شيئين (آيتين) أو أكثر [هذا من حيث اللغة]، [و أما من القرآن] فقوله تعالى: {وأخر متشابهات} فكلمة {أخر} تعني آيات أخر متشابهات أي تماثل قائم بينها في شيء.
والآيات المتشابهة يكون لها معنى لغوي يفهم من مفرداتها ومعنى آخر يكون وراء هذا المعنى اللغوي تتشابه فيه الآيات وهذا هو التأويل المراد من قوله تعالى:{وما يعلم تأويله إلا الله} فالتأويل يعني ما تؤول إليه الآية، أي الحقيقة التي يؤول إليها، الواقع الذي تؤول إليه أي تصير إليه من خلال التشابه الذي يكون له حقيقة في الخارج.
ويستدل السيد الشهيد على تأويل المتشابه بأئمة أهل البيت عليهم السلام: الإمام علي بن أبي طالب والإمام القاسم بن إبراهيم والإمام الهادي، وينقل عن الإمام القاسم أن التأويل مما اختص الله بعلمه لكن قد يطلع عليه من يشاء من عباده ممن اصطفاهم من عباده.
ثم يذكر السيد الشهيد قضية غير صحيحة نشأت لدى المتأخرين من أتباع أهل البيت في اليمن تأثراً بثقافة غيرهم ترى أن الإنسان لابد أن يكون فاهما للقرآن، لكل ما فيه لأنه مخاطب بالقرآن ولا يمكن أن يخاطب الإنسان بما لا يفهمه..كذا رأوا ومنشأ هذه النظرة القاصرة لمسألة التشريع والهدي القرآني نظرة فردية.
أما المحكم فإنه يتعلق بأسس، بقواعد رئيسة أساسية من مثل آية الوصية في قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيكُم إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوتُ إِن تَرَكَ خَيرًا الوَصِيَّةُ لِلوالِدَينِ وَالأَقرَبينَ بِالمَعروفِ حَقًّا عَلَى المُتَّقينَ﴾ فهذه الآية تعطي أساسا ثابتا وقاعدة عامة في توزيع المال أنه لابد أن ينال الوالدين والأقربين.
ثم قام على هذه القاعدة الأساسية تفريع وتشريع معين في قوله تعالى: ﴿يوصيكُمُ اللَّهُ في أَولادِكُم لِلذَّكَرِ مِثلُ حَظِّ الأُنثَيَينِ﴾.
ويرى السيد الشهيد أن نظرة القرآن فيما يتعلق بالتشريع واسعة جدا وتختلف عن الأسس التي يقوم عليها التفريع وفق قواعد أصول الفقه فبينهما فرق كبير جدا،
إن القرآن يستوعب المراحل كلها التي يمر بها المجتمع لا بمعنى أن القرآن يتأقلم معها بل تأتي عملية النقلة بالمجتمع إلى أن يصل إلى الوضعية المطلوبة.
فللتعامل مع قضية ما يكون النظر إلى أكثر من آية محكمة لتعطي رؤية في كيفية التعامل معها.
إن الآيات المحكمات في مجال التشريع تعطينا قواعد وأسسا ننطلق منها في تكوين الرؤىة والموقف والحكم المعين في قضايا واقعية في الحياة تكون لها اعتبارات متعددة ووضعيات متعددة لهذا كان القرآن واسعا جدا يشرع للحياة كلها إلى نهايتها وهو مجلد واحد.

علم الكلام:
“ علم الكلام “ هو الاسم المقابل لعلم “ أصول الدين” ولم ينكر السيد الشهيد هذا العلم “ أصول الدين “ بدلالة دعوته لقراءة كتب الأصول لأئمة أهل البيت القدامى، إنما أنكر (علم الكلام) الذي جاء به المعتزلة ورأى أن هذا الفن هو من أسوأ الأسباب التي أدت بالمسلمين إلى الواقع السيئ [27].
ومما أنكره السيد الشهيد على هذا الفن أنه:
– أبعد المسلمين عن القرآن وعن الاهتداء به، وعن الله ورسله.
– أنكر أساليب علماء الكلام المعتزلة و(الأشعرية) وكتبهم لأنها تركت آثاراً سيئة في واقع المسلمين الثقافي، فأساليب علماء الكلام في البحث والاستدلال والنقاش والجدال بعيدة عن النفس، بعيدة عن أساليب القرآن، فأبعدت المسلمين عن القرآن وعن الاهتداء به.
(فصاحب علم الكلام حين يريد أن يستدل على معرفة الله عليه أن يستدل بمقدمات عقلية منطقية وألا يستدل عليه بالقرآن لأن ذلك يستلزم الدور بل إن صحة القرآن متوقفة على معرفة الله[28] !!)
(قلت: لم يقتصر إنكار السيد الشهيد على أساليب علماء الكلام بل على الألفاظ التي استعملوها في مباحثهم كـ” القديم “ للتعبير عن الله جل جلاله وكـ “ الغائب…)
– وأساليب أنبياء الله في الدعوة كما عرضها علم الكلام تظهرهم أناساً لا حكمة لهم ولا حنكة، يبدون أناساً مرشدين وعاظاً مساكين !! لا كما عرضهم القرآن الكريم الذي عرض أساليب أنبياء الله في الدعوة بتلك الأساليب المهمة بالغة الدقة الصادرة عن شخصيات الأنبياء القوية بمواقف جريئة مع تواضع كامل لله ورحمة عظيمة بعباد الله وحرص على هدايتهم.
– وحين يناقش علماء الكلام مسائل معينة -كمعرفة الله – وغيرها فإنهم يوردون معلومات محدودة جدا (مسؤولية طلاب العلوم الدينية، ص 5)، مجردة بعيدا عن الفطرة، عن المعرفة كما يقدمها القرآن عن المعرفة الوجدانية في أعماق النفس، ففي القرآن الكريم آيات كثيرة تناولت كرم الله سبحانه وتعالى وإحسانه العظيم إلى عباده في ما أسبغ عليهم من النعم الظاهرة والباطنة وتأتي لأكثر من هدف ولأكثر من غاية فدلائل على قدرته سبحانه وتعالى وحكمته ورعايته وحسن تدبيره ليحبوه ويعظموه، ليخلق في نفوسهم ذلك الأثر الذي تجد في نفسك أمام أي نعمة تسدى إليك من الآخرين.
ومن ثم فإن تلك المسائل على النحو الذي سلكه علماء الكلام لا تؤثر في النفس ولا تملأ المشاعر ولا الوجدان،
ومسائل أخرى.. قدموها على نحو محدود فقد اهتموا – مثلا – في مسألة النبوة بإثبات صدق الأنبياء لإثبات صدق ما يجيئهم من الوحي من عند الله، والنبوة أوسع من هذا بكثير ومهمتها أكبر.
قلت: من المستحسن أن نورد فوائد تتعلق بهذه المسألة من كتاب ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان لمحمد بن إبراهيم الوزير (ت 840 هـ):
– ذكر الوزير (في صفحة 17 – 20 )إجماع علماء الإسلام من جميع الطوائف (بمن فيهم أهل البيت) أن في القرآن أدلة التوحيد من غير ظن ولا تقليد، وأن من نظر في القرآن تعلم منه الأدلة من غير تقليد بل القرآن العظيم هو الذي منه تعلم المتكلمون النظر لكنهم غالوا في النظر ولم يقتصروا على القدر الكافي النافع المذكور في كتاب الله تعالى.
– وقال أيضاً (في صفحة 24 – 27): دعا أهل البيت (عليهم السلام) إلى الاكتفاء بالجمل (في معرفة الله) وحثوا على ذلك وكرهوا الغلو في “ ما أحدث الناس علم الكلام.. “ ودعوا إلى ترك ما فيه الفرقة بين المسلمين..وهذا هو مذهبهم.
– و(في صفحة 82 )نقل الوزير عن محمد بن منصور “ وسمعت القاسم يقول: ما رأيت كلامياً قط له خشوع، ثم قال: الجُمَل، الجُمَل “. وذكر (في صفحة 29 )معنى كلمة الجُمَل بأنها: القول بظاهر القرآن (وهو كاف مؤد للعباد إلى الله عز وجل)، وقال الوزير في الصفحة نفسها: “ فهذا ما ندب الله إليه مع ما رأينا السلف الصالح المتقدم الذين يصلح أن نجعلهم بيننا وبين الله تعالى لأنهم لا يخلون من إحدى منزلتين:
إما أن يكونوا علموا أن الديانة فيما بينهم وبين الله تعالى القول ببعض هذه المقالة التي تنازع الناس فيها حق واجب لازم وأجزأهم من ذلك الإضمار ورأوا الصواب والرشد في الإمساك عن الإظهار لما فيه من الفرقة والاختلاف الذي نهى الله عنه فرأوا الجمل وهو القول بظاهر القرآن كافيا مؤديا للعباد إلى الله عز وجل فتمسكوا بذلك فينبغي لمن أم الدين وقصد إلى الله تعالى الاقتداء بهم والتمسك بسبيلهم أويكونوا لم يعتقدوا في ظاهر الأمر وباطنه القول بظاهر القرآن والجُمل المجمع عليها فقد يجب الاقتداء بهم أيضا في ذلك “.
– قال محمد بن عبدالله بن الحسن [بن الحسن بن علي بن أبي طالب]: “يجب على مَن قام بهذا الأمر الدعاء لجميع الناس وقطع الألقاب التي يدعى بها فرق المضلين”..
وعن جعفر الصادق: “الزم ما اجتمع عليه المتفرقون”
وقال الوزير (ص 31 )إن “ أهل البيت المتقدمون والمتأخرون كانوا يقتصرون في تآليفهم في العقائد على الإجمال والإشارات”.
وذكر في (صفحة 37 ) أن للمطهر بن محمد بن المهدي قصيدة روى فيها عن أهل البيت كلهم عليهم السلام إنكار مذهب المعتزلة وخوضهم فيما لا يعلمه إلا الله تعالى.

عذاب القبر:
لا يقول السيد الشهيد بعذاب القبر، ورأى أن المرشدين الذين يخوَفون الناس بعذاب القبر إنما يحوِّلون الموت إلى شبح مخيف وهذا الأسلوب يترك أثراً سيئاً جداً يتخالف مع منهجية القرآن[29].
وقال إن قضية الموت وقضية القبر لم يتعرض لهما القرآن الكريم بشكل يخوف بها إطلاقاً وحين يذكر القرآن الموت إنما يذكره باعتباره بداية الرجوع الى الله وارتهان الإنسان بأعماله إلى اليوم الآخر[30].
(قلت:و إنكار عذاب القبر هو أيضا قول أحمد بن الحسين الطبري[31] الذي ذكر أن “ ليس كل أهل بيت النبي صلى الله عليه وعليهم يقولون به..”[32]وقد علق المؤرخ يحيى بن الحسين على هذا القول بأنه لا يقول به من الزيدية إلا المطرفية وقد انقرضوا)[33].
ومن جهته علق زيد بن علي الوزير على يحيى بن الحسين فقال: ان الهادي إمام الزيدية نفسه كان لا يقول بعذاب القبر[34]، وقد ناقشت السيد العلأمة عبدالله بن حمود العزي في هذه المسألة فقال:
الذي ظهر أن هنالك شبه إجماع على القول بينهم بان العذاب روحي، واما الجسدي فالاختلاف كبير بينهم، فالامام أحمد بن سليمان يؤكد القول بعدم عذاب القبر،وهو أول من قال بذلك صراحة، وقد روى عنه بعض أصحابنا أنه تراجع عنه في كتاب (الحكمة الدرية) ولكن الذي أميل اليه أنه لم يتراجع لأنه يمكن الجمع بين القولين فما نفاه في (حقائق المعرفة) هو العذاب الجسدي وما قاله في (الحكمة الدرية) هو الروحي، وهذا الجمع بين القولين توصلت إليه بفضل الله ولم يسبقني إليه أحد، وقد رأيت كلاما للامام الهادي عليه السلام في أن العذاب روحي لا جسدي وأحببت نقله لكم، قال الإمام الهادي عليه السلام في جواب مسائل الرازي:
ﻭﻗﻠﺖ: ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻴﺖ اﻟﻠﻪ اﻟﺒﺪﻥ، ﻭﻻ ﻳﻤﻴﺖ اﻟﺮﻭﺡ ﻭﻛﻞٌ ﻳﻤﻮﺕ؟
ﻓﺄﻣﺎ ﻣﻌﻨﻰ ﺧﺒﺮ اﻟﻠﻪ ﻣﻦ ﺇﺣﻴﺎء اﻟﺮﻭﺡ، ﻓﺈﻥ ﺫﻟﻚ ﺑﺤﻜﻤﺔ اﻟﻠﻪ ﻭﻓﻀﻠﻪ، ﻭﻣﺎ ﺃﺭاﺩ ﻣﻦ اﻟﺰﻳﺎﺩﺓ ﻓﻲ ﻛﺮاﻣﺔ اﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ، ﻭﺃﺭاﺩ ﻣﻦ اﻟﺰﻳﺎﺩﺓ ﻓﻲ ﻋﺬاﺏ اﻟﻔﺎﺳﻘﻴﻦ، ﻓﺠﻌﻞ اﻷﺭﻭاﺡ ﺣﻴﺔ ﺑﺎﻗﻴﺔ ﺇﻟﻰ ﻳﻮﻡ اﻟﺪﻳﻦ؛ ﻟﻴﻜﻮﻥ ﺭﻭﺡ اﻟﻤﺆﻣﻦ ﻣﻦ ﺑﻌﺪ ﻓﻨﺎء ﺑﺪﻧﻪ ﻓﻲ اﻟﺒﺸﺎﺭاﺕ ﻭاﻟﺴﺮﻭﺭ، ﻭاﻟﻨﻌﻴﻢ ﻭاﻟﺤﺒﻮﺭ، ﺑﻤﺎ ﻳﺴﻤﻊ ﻣﻦ ﺗﺒﺸﻴﺮ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﺑﺎﻟﺮﺿﺎء ﻭاﻟﺮﺿﻮاﻥ، ﻣﻦ اﻟﻮاﺣﺪ ﺫﻱ اﻟﺠﻼﻝ ﻭاﻟﺴﻠﻄﺎﻥ، ﻭﻣﺎ ﺃﻋﺪ ﻟﻪ ﻣﻦ اﻟﺨﻴﺮ اﻟﻌﻈﻴﻢ، ﻭاﻟﺜﻮاﺏ اﻟﺠﺴﻴﻢ، ﻛﻞ ﺫﻟﻚ ﻳﺘﻨﺎﻫﻰ ﺇﻟﻴﻪ ﻋﻠﻤﻪ، ﻭﻳﺼﻞ ﺑﻪ ﻣﻦ ﺭﺑﻪ ﻓﻬﻤﻪ، ﻓﻴﻜﻮﻥ ﺫﻟﻚ ﺯﻳﺎﺩﺓ ﻓﻲ ﺛﻮاﺑﻪ ﻭﻣﺒﺘﺪﺃ ﻣﺎ ﻳﺮﻳﺪ اﻟﻠﻪ ﻣﻦ ﺇﻛﺮاﻣﻪ، ﺣﺘﻰ ﻳﻜﻮﻥ ﻳﻮﻡ اﻟﻘﻴﺎﻣﺔ اﻟﻤﺬﻛﻮﺭ، ﺛﻢ ﻳﻨﻔﺦ ﻓﻲ اﻟﺼﻮﺭ اﻟﻨﻔﺨﺔ اﻷﻭﻟﻰ، ﻓﻴﻘﻊ ﺑﻬﺬا اﻟﺮﻭﺡ ﻣﻦ اﻟﻤﻮﺕ ﻣﺎ ﻳﻘﻊ ﺑﻐﻴﺮﻩ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ اﻟﻴﻮﻡ، ﻓﻴﻤﻮﺕ ﻭﻳﻔﻨﻰ، ﻛﻤﺎ ﻓﻨﻲ اﻟﺒﺪﻥ ﺃﻭﻻ.
ﻭﻛﺬﻟﻚ ﺗﺪﺑﻴﺮ اﻟﻠﻪ ﻓﻲ ﺇﺑﻘﺎء ﺭﻭﺡ اﻟﻜﺎﻓﺮ ﺑﻌﺪ ﻫﻼﻙ ﺑﺪﻧﻪ، ﻟﻤﺎ ﻓﻲ ﺑﻘﺎء ﺭﻭﺣﻪ ﻣﻦ اﻟﺤﺴﺮﺓ ﻭاﻟﺒﻼء ﺑﻤﺎ ﻳﻌﺎﻳﻦ ﻭﻳﻮﻗﻦ ﻭﻳﺒﻠﻐﻪ ﻣﻦ ﺃﺧﺒﺎﺭ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﻭﺫﻛﺮﻫﺎ ﻟﻤﺎ ﺃﻋﺪ اﻟﻠﻪ ﻟﻪ ﻣﻦ اﻟﺠﺤﻴﻢ، ﻭاﻷﻏﻼﻝ، ﻭاﻟﺴﻌﻴﺮ، ﻭﺷﺮﺏ اﻟﺤﻤﻴﻢ، ﻭﻣﺎ ﻳﺼﻴﺮ ﺇﻟﻴﻪ ﻏﺪا ﻣﻦ اﻟﻌﺬاﺏ اﻷﻟﻴﻢ، ﻓﺮﻭﺣﻪ ﻓﻲ ﺧﺰﻱ ﻭﺑﻼء، ﻭﺣﺴﺮاﺕ ﺗﺪﻭﻡ ﻭﻻ ﺗﻔﻨﻰ، ﻭﺣﻠﻮﻝ اﻟﻌﻮﻳﻞ ﺑﻪ ﻭاﻟﺸﻘﺎء، ﻓﻴﻜﻮﻥ ﺫﻟﻚ ﺯﻳﺎﺩﺓ ﻓﻲ ﻋﺬاﺑﻪ ﻭﺑﻼﺋﻪ، ﻭﻣﻘﺪﻣﺔ ﻟﻤﺎ ﺃﺭاﺩ اﻟﻠﻪ ﻣﻦ ﺇﺧﺰاﺋﻪ، ﺣﺘﻰ ﻳﻨﻔﺦ ﻓﻲ اﻟﺼﻮﺭ، ﻓﻴﺤﻖ ﺑﻬﺬا اﻟﺮﻭﺡ ﻣﺎ ﺣﻖ ﺑﻐﻴﺮﻩ ﻣﻦ اﻟﻔﻮﺕ، ﻭﻳﻮاﻗﻌﻪ ﻣﺎ ﻭاﻗﻊ ﺟﺴﻤﻪ ﻣﻦ اﻟﻤﻮﺕ، ﺛﻢ ﻳﻨﻔﺦ اﻟﻨﻔﺨﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻣﻦ ﺑﻌﺪ ﻣﻮﺕ ﻛﻞ ﺷﻲء، ﻭﻫﻼﻙ ﻛﻞ ﺣﻲ، ﻣﺎ ﺧﻠﻰ اﻟﻮاﺣﺪ اﻷﺣﺪ، اﻟﻔﺮﺩ اﻟﺼﻤﺪ، اﻟﻤﻤﻴﺖ اﻟﺬﻱ ﻻ ﻳﻤﻮﺕ، اﻟﻤﺤﻴﻲ اﻟﺬﻱ ﻻ ﻳﺨﺸﻰ ﻣﻦ ﺷﻲء ﻓﻮﺗﺎ.
ﻭﻟﻮﻛﺎﻧﺖ اﻷﺭﻭاﺡ ﺗﻤﻮﺕ ﻣﻊ ﻣﻮﺕ اﻷﺑﺪاﻥ، ﻟﻜﺎﻥ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﻓﺮﺝ ﻭﺭاﺣﺔ ﻟﻠﻜﻔﺎﺭ، ﻭﻏﻔﻠﺔ ﻭﻓﺮﺣﺔ ﻟﻷﺷﺮاﺭ، ﻭﻟﻜﺎﻥ ﺫﻟﻚ ﻏﻤﺎ ﻭﻛﺂﺑﺔ ﻋﻠﻰ اﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ، ﻭﻧﻘﺼﺎﻧﺎ ﻭﺗﻀﻌﻀﻌﺎ ﻟﺴﺮﻭﺭ اﻟﺼﺎﻟﺤﻴﻦ.
ﻓﺎﻓﻬﻢ ﺛﺎﻗﺐ ﺣﻜﻤﺔ اﻟﻠﻪ ﻭﺗﻘﺪﻳﺮﻩ، ﻭﺻﻨﻌﻪ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﻭﺗﺪﺑﻴﺮﻩ، ﻭﻣﺎ ﺟﻌﻞ ﻓﻲ ﺗﺄﺧﻴﺮ ﻣﻮﺕ اﻷﺭﻭاﺡ ﻣﻦ اﻟﻜﺮاﻣﺔ ﻟﻠﻤﺆﻣﻨﻴﻦ، ﻭاﻟﻬﻮاﻥ ﻟﻠﻔﺎﺳﻘﻴﻦ، ﻓﺈﻧﻚ ﺇﻥ ﺃﻓﻜﺮﺕ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺑﺨﺎﻟﺺ ﻟﺒﻚ، ﻭاﺳﺘﻌﻤﻠﺖ ﻓﻴﻪ ﻣﺎ ﺟﻌﻞ اﻟﻠﻪ ﻣﻦ ﻣﺮﻛﺐ ﻓﻜﺮﻙ، ﺻﺤﺖ ﻟﻚ ﺁﺛﺎﺭ اﻟﺤﻜﻤﺔ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ، ﻭﺑﺎﻥ ﻟﻚ اﻷﻣﺮ ﻣﻦ اﻟﻠﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ كذلك.

القراءات القرآنية:
يرى السيد الشهيد أن القراءات القرآنية ليست على النحو الذي يؤثر على النص القرآني البتة، وأن تلك القراءات – مع انها قليلة – فليس معناها أن كل كلمة فيها قراءة.
وفيما يتعلق بـحديث: “ نزل القرآن على سبعة أحرف “، فقد قال إن تلكم الـ “ سبعة الأحرف “ لم يستطع العلماء تمييزها أو تحديدها حتى الآن: أهي سبع لهجات من لهجات العرب؟ أم سبع لغات؟ أم سبعة مواضيع: أمر، ونهي، وأمثال، وقصص…، واستبعد أن يكون القرآن قد نزل بلهجات داخله متعددة (هذيل، تميم..)، ورأى – قدس الله روحه – أن القرآن الكريم أرفع من مسألة الأسانيد.
قلت: أود أن أذكر – سريعا – أن القراءة التي كانت متبعة عند أهل اليمن (حتى وصول المصاحف المطبوعة لليمن في الربع الأول من القرن العشرين الميلادي) هي قراءة قالون عن نافع وهي قراءة أهل البيت (عليهم السلام)، وهي أيضا قراءة أهل المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام،
أما إخوانهم من المدرسة الإمامية فإن القراءة السائدة بين عامتهم اليوم – فيما نعرف – هي قراءة حفص عن عاصم، ويفهم من بعض علمائهم أن ليس للقرآن سوى قراءة واحدة، و” أن القرآن نزل بحرف واحد على نبي واحد “[35].
لكنهم – أيضا – يروون أنهم قد أمروا أن يقرأوا القرآن كما يقرأ عامة المسلمين، ويفهم من ذلك عدم تحديد قراءة بعينها، ومن علمائهم القدامى والمعاصرين من يجيزون القراءة بالقراءات السبع بل العشر[36]. ويقولون: “ إنهم قد أمروا بأن يقرأوا (القرآن) كما يقرأ الناس أي نوع المسلمين وعامتهم “[37].

الهوامش:
[18] كانت هذه المسألة محل نقاش بيني وبين السيد العلامة أحمد بن محمد الوشلي الذي تولى جلاءها.
[19] مسؤولية طلاب العلوم الدينية، ص 12.
[20] سورة آل عمران، الدرس الثالث، ص 3.
[21] معرفة الله، وعده ووعيده، الدرس 13 – ص 7، 8.
[22] الاسلام وثقافة الاتباع، ص 15.
[23] درر نحور الحور العين، ص 593.
[24] الإسلام وثقافة الاتباع، ص 7.
[25] الإسلام وثقافة الاتباع، ص 15
[26] مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، دراسة وتحقيق: عبدالكريم أحمد جدبان، دار الحكمة اليمانية – صنعاء، ط/ الأولى، 1422 – 2001 م 2/ 46، وانظر أيضا من ص 41 – 53.
[27] مسؤولية طلاب العلوم الدينية، ص 12.
[28] المصدر نفسه ص 13.
[29] الشعار سلاح وموقف ص 10، ومعرفة الله، وعده ووعيده – الدرس الثاني عشر ص 5.
[30] المصدر نفسه، الشعار سلاح وموقف ص 10.
[31] أبوالحسين أحمد بن موسى الطبري ودوره في بناء المذهب الهادوي، زيد بن علي الوزير، مجلة المسار، مركز التراث والبحوث اليمني – ماكلين (أمريكا )، المجلد التاسع، العدد الأول، شتاء 2008 م، ص 66_ 142.
[32] المصدر السابق، ص 94.
[33] المصدر السابق، ص 94.
[34] المصدر السابق ص 94.
[35] آلاء الرحمن في تفسير القرآن ) للعلامة محمد جواد البلاغي النجفي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، 1 / 29 – 32.
[36] انظر: القراءات القرآنية: تاريخ وتعريف، عبدالهادي الفضلي، مركز الغدير، ط/ الرابعة، 1430 هـ – 2009م، ص 81 – 86.
[37] آلاء الرحمن في تفسير القرآن للعلامة محمد جواد البلاغي النجفي، 1/ 29، دار إحياء التراث العربي – بيروت.

قد يعجبك ايضا